الخميس، نوفمبر 13، 2008

جولة مع الفصولِ الأربعة

د. عدنان الظاهر

ماذا يقولُ الخريفُ للصيفِ ؟
وماذا يقولُ للشتاءِ ؟
نزارُ والفصول /
نعم ـ ماذا يقولُ لكلا الفصلين مجتمعين أو كلا على إنفراد ؟ ورطة ، ورطة حقيقية بل ومأزق حرِج . إنه يحب العزلة َ والتفرّد َ ولكنْ أنّى له ذلك وهو محصورٌ بينهما ومحاصر من كافة جهاته الأربع ثم َّ من أعلاه وأسفله ، من سمائه وأرضه ؟ أتذكر مناظرة أو محاورة طريفة في زمن الدراسة الإبتدائية أواسط أربعينيات القرن المنصرم كان عنوانها
" الفصول الأربعة " . ثم كان هناك موضوع آخر مختلف بعنوان " بين الزنبق والورد " هو كذلك مناظرة أو مقابلة مباهاة بين الزنبق والورد حول أفضلية هذا على ذلك وبالعكس علماً أنَّ الزنبقَ هو الآخر من فصيلة الورود وليس غريبا ً عليها . ثم أدلى فريد الأطرش بدلوه فلحّنَ وغنى أوبريت الربيع أو الفصول الأربعة فأجاد فيما غنى لهذه الفصول كلا حسب طقسه وأجوائه وغيّرَ ألحانه وبدّل في مقاماته وسلالمه لكي يوائم بين اللحن وطبيعة الفصل المناخية وباقي العوامل الجغرافية المرتبطة بكل فصل من هذه الفصول . فهل يتخلف ُّ نزار قباني ولا يلتحق بكتائب أصحاب الفصول من شعراء ومغنين وغيرهم ؟ شارك الركبَ ولكنْ بطريقته الخاصة حيث ساحَ وهامَ بين الفصول وفلسفها فصلا ً فصلا ً ليكتشفَ بينها فصلا ً خامسا ً جديدا ً أسماهُ فصلَ البكاء . حلَّ هذا الفصلُ أو الرتلُ الخامسُ فيه حلولا ً وجودياً لا صوفيا ً ، وجودا ً طبيعياً لا ميتافيزيكيا ً ، وجوداً نفسانيا ً سوداوي َّ الطبيعة في ظاهرالتشخيص حيث قال :
وما بين فصلِ الخريف وفصلِ الشتاءْ
هنالكَ فصل ٌ أسميّهِ فصلَ البكاءْ

( الأعمال الشعرية الكاملة / الجزء الثاني / منشورات نزار قباني ، الطبعة الثانية 1980 ، بيروت // الصفحة 217 ) .
كم عددُ أيام هذا الفصل الخامس بالنسبة لنزار أو لغيره ؟ متى يبدأ ومتى ينتهي ؟ ما الذي يميزه عن سلفه الخريف وعن خلفه الشتاء ؟ ولِمَ تأتي السوداوية ُ نزارا ً إبّانَ هذا الفصل الوهمي المُضاف والمحصور بين فصلي الخريف والشتاء ؟ أهي قوة الحنين لفصل الصيف وما فيه من حرارة وفاكهة وسياحات وسباحات في المسابح وبحور الدنيا ؟ أهي إرهاصات ما سيحملُ الشتاء له من برد وتساقط ثلوج وإنكماش في أعضاء الجسد وحركة الإنسان والطبيعة على حدٍّ سواء ؟ أهو حاصلُ التصادم أو التلاقي التراجيدي بين النار والجليد ، الحرارة والبرودة ؟ هل نفسر محنة نزار هذه بحساسية مفرطة ٍ فيه جسداً وروحا ً حيال الحرارة والبرودة أو حيال حركة المرور الزمني من تلك إلى هذه ؟ هل كان يعاني من وضع خاص ورد فعل خاص تجاه تغيّر موازين الحرارة في الطبيعة ؟ لم يغفلْ في أشعاره ذكرَ الموقد والوجاق وغرف الشتاء الدافئة مع كؤوس النبيذ أو الفودكا الروسية إذ ْ قارن حرارة مذاقها اللاذع بنار حبّهِ لإمرأة معينة :

الفودكا ... تمرُّ فوقَ لساني سيفا ً من نار ...
ومع كلِّ قطرة ٍ تمرينَ أنتِ
حاولت ُ هذه الليلة أنْ أجاملَ
حاولتُ أنْ أكونَ روسيا ً
يبتلعُ عشراتِ الحرائق ولا يحترقْ
لكنني فشلتُ
لأنني كنتُ أواجهُ نارينِ
نارَ الفودكا
وناركِ أنتِ .
( المصدر السابق نفسه / الصفحة 579 )

كما أنه كان سخياً في شعره مع فصل الصيف وسواحل البحار والشطآن ورمال العشق والهوى . هل في هذا التلاقي المتصادم بين الصيف والشتاء تكمن محنة نزار ؟ تخيفه شرارات التصادم وتذكره ببروق الأمطار ورعودها وزخّاتها العنيفة وما يرافقها أحيانا ً من زلازل وصواعق تحرقُ إذا أصابتْ وقد تقتل . الطفلُ يلوذ ُ بحضن أمه حين يرى البرقَ خاطفا ً في السماءِ وحين يسمعُ صوتَ الرعدِ المجلجلِ يهزُّ أركانَ البيت فبمَ يلوذ ُ الشاعرُ نزار ، بأي حضن يلوذ طالبا ً الأمن والسلامة ؟ نزار في رأيي يحبُّ فصلَ الصيف ويخشى فصلَ الشتاء أو لا يحبه في أفضل الأحوال . من هنا جاء فصله الخامس الذي إخترعه لا ريبَ إختراعا ً شعرياً ـ شعوريا ً ـ حسيا . إنه يحب الصيف فالكفةُ إلى هناك تميلُ وهناك ترجحُ . وهنا بالضبط ـ في فترة بين البين أو فترة ما بين الحينين ـ تتساقط دموع ُ الشاعر حزنا ً على ما قد مضى من مُتع وفرها له فصلُ الدفء والحب والسياحات والسباحة في بحار وبحيرات الدنيا والنساءُ بملابس السباحة التي تكشف الكثير من مساحات أجسادهنَّ ... السباحة في مياهٍ شتى عميقها وضحلها ، دافئها وباردها ، وعلى سواحلَ شتى من رمل ٍ أو حصباء . البكاءُ لم يفارق نزار قباني في أشعاره حتى خصص له في بعض أشعاره حقائبَ أسماها " حقائبَ البكاء " ... حقائب يحملها معه في حله وترحاله . حقائب ُ نزار هذه تضعُ أمامي صورة عنزة المهاتما غاندي التي كانت معه دوما ً في سفره في البلدان المختلفة أو في تجواله داخل الولايات والمدن الهندية . نزارُ يقتات من دموعه وغاندي يحيا على ما تدرّه عنزته عليه من حليب . قوتُ نزار يفرزه جسده ، تضخه عيناه ، أما قوتُ المهاتما يحصلُ عليه من مصدر خارجي لا علاقة َ له بجسده النحيل الضئيل إنما يأتيه من ضرع معزاه التي ساحت معه ورأت الكثير من البلدان والأمصار . يحوّلُ نزار دموعه إلى شعر عاطفي حزين في الغالب في حين يحوّل غاندي حليبَ معزاه إلى قوة سياسية وقدرة على المقاومة السلمية وحجة ومنطق قوي للتفاوض مع المحتلين في لندن خاصة ً . دموع نزار تضعفه فيبكي ليقولَ شعراً ، أما حليب ضرع عنزة المهاتما فيقويه ويمدّه بأسباب البقاء حيا ً يخدم قضية الهند الكبرى : الإستقلال من بريطانيا التي كانت عظمى ! هذا هو الفرق بين دموع البشر ودرِّ الماعيز والبقر .
بقية الشعراء / المتنبي

ماذا عن بقية الشعراء ولا سيما شعراء الجاهلية والعصرين الأموي والعباسي تحديداً ؟ ربما قالوا لكنهم لم يقولوا الكثير في شأن المطر والعواصف والبروق والزلازل على حد علمي وفيما بين يديَّ من دواوين شعر . لم يصفوا الصيف أو الشتاء والخريف عدا المرور السريع على فصل الربيع ـ والبحتري هو سيد ذِكر هذا الفصل بلا منازع ـ لأنه فصل الورد والنرجس والياسمين ولا أكثر من ذلك . فللبحتري قصيدة يبتدئها بقوله :

أتاكَ الربيعُ الطَلقُ يختالُ ضاحكا ً
من الحسن حتى كادَ أنْ يتكلما

وقد نبّه النوروزُ في غَلَسِ الدجى
أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمسِ نوَّما

لكنه فشلَ في إقتاع القارئ كيف يختالُ هذا الفصلُ ولماذا يختالُ وكيف يختالُ وبأية وسائل يختال وما مغزى هذا الإختيال . أرى هذه الصورة المجازية كثيرة الفشل . لم يُدخلْ الربيعَ في بواطنه العميقة لكي يتسربَ في أعماق النفس البشرية ويأخذَُ وقته ومداه ليتخمرَ ويتعتقَ ثم ليخرجَ ربيعاً آخرَ ليس فيه من سماتِ ربيع الفصول الأربعة إلا إسمه وموقعه في مدار السنة . هذه الدورة الداخلية هي دورة إستحالة وهضم وتمثيل للعالم الخارجي داخل أعمق غياهب النفوس البشرية وإلا فسيكون الوصف وصفاً خارجياً مسطحا ً كنقوش أطفال المدارس في كرّاسات الرسم . سنرى الفارقَ الكبيرَ جداً بين وصف البحتري لظاهرة الربيع ووصف المتنبي لجبال لبنانَ الوعرة المسالك والطرقات التي تعلوها الثلوج . وصفَ المتنبي أبو الطيّب المطرَ في شعر قليل جداً كما وصف ما أحدثت الريح في قبة أو خيمة صاحبه سيف الدولة الحمداني ، ثم إنه أبدعَ في وصف جبال وثلوج جبال لبنان صيفاً وشتاءً فقال :

بيني وبين أبي عليٍّ مثلهُ
شمُّ الجبالِ ومثلَهُنَّ رجاءُ

وعِقابُ لبنان ٍ وكيف بقطعِها
وهو الشتاءُ وصيفهنَّ شتاءُ

لبَسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي
فكأنها ببياضها سوداءُ

وكذا الكريمُ إذا أقامَ ببلدة ٍ
سالَ النُضارُ بها وقامَ الماءُ

جَمَدَ القِطارُ ولو رأتهُ كما ترى
بُهتت فلمْ تتبجس ِ الأنواءُ

جمعَ أبو الطيب في هذه الأبيات فصلي الصيف والشتاء كما إستحضرَ الماء والثلوج والأنواء في لوحة جميلة نادرة الوقوع في شعر العرب قديماً وحديثاً . لم يتطرق المتنبي إلى مسألة تأثيرصعوبة المرور خلال عقبات شمِّ جبال لبنان والثلوج المتراكمة عليها على دواخل نفسه ولم يصورْ تفاعلات المصاعب الخارجية من طقس ومناخ وبرد وثلج حتى في فصل الصيف مع مشاعره وإحساساته إنساناً ثمَّ شاعراً وهذا أحد الفروق التي يتميز بها الشعراء المحدثون ومَن جاء بعد المتنبي بقرون . سوى أنَّ صعوبة إختراق الممرات والمسالك الجبلية الشديدة الوعورة حوّلت لون الثلج الأبيض إلى أسودَ في عيني الشاعر وهذه مسألة جديرة بالإهتمام لأنها مسألة نفسية باطنية من جهة وخارجية من الجهة الأخرى . الثلج عالم مطروح في الخارج لكنَّ إنقلابَ لونه الأبيض إلى آخر أسودَ مسألة
لاشكَّ من نتاج دواخل الشاعر . إنها تعبير جميل عما عانى هذا الرجلُ من مشقات ٍ وهو يحاولُ بلوغَ مضارب ممدوحه المتصوّف الكريم هرونَ بن عبد العزيز الأوراجي . الخارجُ أبيضُ لكنَّ الداخلَ أسودُ في الروح والعين. وكان هذا دأب المتنبي في فن جمع النقيضين في شعره .
لماذا أهملَ الشعراءُ القدامى ظواهرَ الطبيعة ولم يصفوها أو يتداخلوا معها أو يدخلوا فيها ؟ وأحسب الأمرَ هذا واردا ً بالنسبة للشعراء المحدثين والمعاصرين فما هي دلالةُ ذلك ؟ عُسرُ المهمة أو الكسلُ أم ضعف الوسائل من لغة ومنطق وثقافة عربية وأجنبية وضيق أفق وإنعدام الرغبة القوية للتدخل في شؤون الطبيعة أم أنَّ هذا الموضوع لا يغريهم في الأساس ؟
ليسمح َ لي القارئ الكريم أنْ أقدّمَ له قصيدتي ( الخريف ) لأبيّنَ وجهة نظري في التداخل بين الشاعر والطبيعة وكيف يكون هذا التداخل وما هي الوسائل أو الآليات أو التقنيات وكيف يعمل الخريف مثلاً بكل ما يتجلى فيه من طبيعة وظواهر على إبراز ونبش المدفون في سراديب النفس البشرية وكيف يتطابق حزن الطبيعة وغضبها وثورتها مع ما في داخل نفس الإنسان من ظواهر مشابهة أو قريبة . إنقلاب الطبيعة المفاجئ يجد إنعكساته في قلب وصدر وروح الشاعر . أقولُ هذا الكلام بكل تواضع وأعتذر للقارئ الكريم وأرجوه الصفح َ وألا ّ يتخيلني مغروراً أو قوّالا ً أو دعيّا ً . قصيدة الخريف :

الخريف

أشجارُ الأحزانٍ تُضاعفُ مرّاتٍ أشجاني
أيامَ خريفِ الغُربةِ قبلَ مجيءِ البردِ الشتويِّ القاسي
تبكي دمعاً لونَ العنبرِ في غاباتِ الكُحلِ
تبكي دمعاً أغلظَ من أمصالِ عسولِ النحلِ
تبكي الغابةُ والأشجارُ غريباتُ اللونِ على خلفيةِ أثوابِ العُرسِ
لا تعرفُ أصليَ أو فصليَ لكنْ
يجمعنا هذا الموسمُ إذ يتساقطُ من كُلٍّ منّا
شيءٌ … ما :
تتساقطُ فوقيَ أوراقٌ صُفْرٌ شاحبةُ اللونِ
فتُغطيني من قِمّةِ رأسيَ حتّى أخمصِ أقدامي
كتُرابٍ في كفِّ مُودّعةٍ زارتْ قبري يومَ الدفنِ
جاءتْ بثيابِ حِدادِ اللونِ الليلي
جاءتْ والعَبرةُ تخنقني في صدري
أأقومُ كما قامتْ موتى أعرفها من قبلي
لأُودِّعَ هذا المخلوقَ فما زالتْ فيهِ بُقيا من أهلي
أمْ أمكثُ تحتَ أديمِ الأرضِ كحبّةِ قمحِ الهرمِ المصري
مُنتظراً أيامَ حلولِ الدفء الشمسي ؟؟

(( نُشِرت القصيدة في العدد 19 ( عام 1991 ) من مجلة " الإغتراب الأدبي " التي كانت تصدر في بريطانيا )).

ليست هناك تعليقات: