د. عدنان الظاهر
أشتاقُ كثيراً أحياناً وتحتَ ظروف خاصة نفسية وإجتماعية بل وحتى طقسية ومناخية كما هو الحالُ في شهري أكتوبر ونوفمبر... أشتاق للحديث مع بعض موتانا وغيّابنا ومع بعض من بقيَّ بالصدفة حتى اليوم على قيد الحياة . لا تنفع المكالمات التلفونية مع الموتى كما نعلمُ ، لا التلفونات الأرضية ولا الموبايل المحمول ولا من خلال الماسنجر فالموتى لا يسمعون ولا يفقهون . وماذا عن المتبقي من الأحياء ؟ أكلمهم بين الحين والآخر لكني لا أجدُ للكلام معهم معنى أو طعماً فهو كالماء الصافي الرقراق ولا أكثر من ذلك . إذا ً فلأبحث عن وسيلة أخرى للأتصال بالغائبين أحياءً وموتى . لا أجيد صنعة التنويم المغناطيسي وقد جرّبه معي أحد المعلمين ذات يوم ٍ قائظ ٍ شديدِ الحرارة بإعتباري لم أبلغ الحُلُم يومذاك . جرّبه معي لكنه فشل في الوصول إلى الهدف الذي كان يبغي بلوغه . لم تنفعْ معي كل ُّ وسائله في التنويم . حاول حاول ثم حاول ولم يحصلْ على نتيجة . بقيتُ يقظانَ لا أستجيبُ لإيحاءاته وملاعيبه ولم أكنْ أصدقها أصلاً . كنتُ ألعبُ عليه فأتظاهرُ أني بالفعل نائمٌ مُخدّر ٌ بقوة وهيبة ِ مغناطيس ما كان يوحي لي وما كان يحاول إنتزاعه من صدري أو رأسي أو أخيلتي من معلومات كان شديد الحرص على نوالها ليثبتَ للحاضرين قدرته على التنويم أولاً وعلى صدق نظرية التنويم المغناطيسي ثانيا ً . كان ذلك صيف عام 1948 . وحين ضاق بيَ الأمر وإستفحلَ نهضتُ صارخاً (( لا أريد أنْ أنام ... لا أستطيعُ أنْ أنام )) وكانت فضيحة كبيرة للمعلم الذي أسرفَ في الإدّعاء أنه قادرٌ على التنويم المغناطيسي وبه يستطيع قراءة المستقبل وكشف أمكنة المسروقات المخفية والسارق . عرض هذا المعلم عليَّ وسطَ جمع ٍ كبير ٍ من الحضور أنْ أكونَ وسيطاً بينه وبين عالم التنويم المثير فقبلتُ العرض من باب الفضول والتحدي ثم التأكد من صحة أو سخافة ما يدعيه أمثال هؤلاء الناس بعد أن مررت بتجربة أخرى متشابهة الهدف مختلفة الوسائل حين كنتُ ما زلتُ صغير السن صبيا ً لم أبلغْ العاشرة من عمري . سُرقتْ في إحدى الليالي مقتنيات والدتي وشقيقاتي الخاصة فأشار بعضُ الجيران أن نجرّبَ عملية كشف الغيب لمعرفة السارق أو السارقة . وافق الأهل على الفكرة فتطوَّعَ الجيرانُ بدعوة رجل ٍ ضرير ( صالح ) ليقومَ بمهمة كشف السرّاق . طلبَ طفلاً أو صبياً غيرَ بالغَ الرشد وكنتُ أفضلَ المرشحين يومذاك . قلتُ كان الرجلُ ضريراً ، ومع ذلك أخرجَ من جيب سترته مرآة ً كبيرة ً وطلب طاسة ًَ مملوءة ً ماءً ثم أجلسني أمامه واضعاً المرآة أمام وجهي . شرع ينقر خفيفاً بأحد أصابعه على الأرض ويتلفظُ كلمات ٍ لم أكن لأفقهَ منها شيئاً ثم كان يوحي لي بصور شتى من قبيل : ها إقتربَ السارق من باب بيتكم ... وها هو يحاول الدخول ... راقبه جيداً ... أنتَ تعرفه وإنْ لم تكن تعرفه سابقاً فإنه سيكشف لك إسمَه وهويته وعنوان سكنه . راقبه ... تتبعه جيداً ... ها قد واجهك ... وها إنه سيكلمك ... إصغِ له جيداً وإذا سالك عن مكان الكنتور في غرف بيتكم ومكان مقتنيات أهلك فلا تخفْ ... إكشف له هذه الأماكن ... فإذا دخل بيتكم وفتح الكنتور أتركه وخبّر ْ أهلك بالأمر ولا تُخفِ عنهم شيئا ً . سيلقون القبض َ عليه لحين مجئ رجال الشرطة . ظلَّ الرجل الضرير يكرر أقواله هذه ويواصل نقر الأرض بإصبعه وطاسة ُ الماءِ أمامه والمرأة ُ أمامي لم أرَ فيها أحداً غيرَ وجهي الذي كان يتشوّه فيها لفرط التحديق العميق المتواصل . أُصبتُ بالغثيان وصداع في رأسي وحين شكوتُ قال لي لابأسَ عليك ... ها إننا على وشك الوصول إلى هدفنا وإلقاء القبض على السارق أو السارقة !! تحمّلْ يا ولدي فالسرقة كبيرة وثمن المسروقات عال ٍ فلا تفرّط بمقتنيات أهلك ... إصبر فإنَّ اللهَ مع الصابرين... صبراً جميلاً وسيكافئكَ أهلك ويجازونك الجزاء الأوفى . تمرّدتُ بأقصى وأعنف ما إستطعتُ حينذاك ونهضت ُ محتجا ً أني لمْ أرَ شيئاً في المرآة وإني أكادُ أموتُ من الضجر واليأس والملل . بهت َ الحضورُ وكانت غالبيتهم من النساء والأطفال لكنَّ صاحبنا كاشف المستقبل ( كاشف الغطاء ) وعالم الغيوب ظلَّ عاليَّ المعنويات ففسرَّ فشله في مهمته بأني ، أنا الوسيط ُ، إما كنتُ بالغَ الحُلم أو إني ما كانت متطهراً قبل الدخول في المهمة ... كأنْ أكونَ قد تبوّلتُ ولم أغتسلْ أو أتطهرْ !! يا له من عفريت دجال مراوغ . حين فشلت خطته وبانَ دجلهُ وجدني شمّاعة ً علّق عليها ذاك الفشل . كنت في حوالي العاشرة من عمري فعن أي بلوغ يتكلم هذا المشعوّذ ؟ وهل يغتسل ُ الأطفالُ بعد التبوّل وما أكثر ما يتبولون ؟ المهم ، تأكدَّ لي بعد التجربة الثانية مع المعلم أنْ لا فلسفة المرآة بصادقة ولا التنويم المغناطيسي المزعوم وأنَّ الناسَ بوجه عام يميلون للغيب لكشف المستور من عوالمهم والتعرف على ما يضمره المستقبل ُ لهم وهم يتشبثون بكل وسيلة وحجة لبلوغ هذه المقاصد وإنَّ الكثير منهم يصدقون دعاوى المشعوذين ومدعي العلم بالغيب والسحرة الذين يؤلفون ما بين قلوب المحبين والعشاق أو القادرين على صرف الرجال عن نسائهم أو العكس . الأمل ... يتشبث الناس بالأمل أي أمل ٍ .
إستعرضتُ كلَّ هذا وأنا مستغرق في محاولاتي لإيجاد طريقة أتصل خلالها بالباقين أحياءً من أهلي وهم قلة نادرة مستغنياً عن أجهزة التلفون بكل أنواعها وأشكالها وألوانها وهي في أفضلِ أحوالها لا تتيحُ لي فرصة جيدة لسماع أصواتهم البعيدة الخافتة وهي واهنة أصلاً تحت تأثير ضربات مطارق الزمن وويلاته التي عصفت بالجميع . ومنهم مَن لا يسمع جيداً ومنهم مَن لا يتكلم جيدا ً وفئة ثالثة لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم. ما السبيلُ إذا ً للإتصال بهم وسماع ما يقولون وإسماعهم ما أريدُ أنْ أقولُ ؟ مع الحروف تنتقل الأرواحُ بين الأشقاء والآباء والأمهات ... مع الحروف لا بالإشارات أو الإيماءات ... فكيف سأنتقلُ بروحي إلى أهلي الباقين ؟ المهمة مع موتانا أكثرُ تعقيدا ً وأصعبُ بالطبع فعليَّ إختراع وسائلَ جديدة ، وسائل إتصالات ألكترونية غاية في التطور والتعقيد . إخترعت ُ جهازا ً خاصا ً للإتصالات السرية الخفية والحاجة ُ أمُّ الإختراع كما يقولون . طورته رويداً رويداً حتى نجحتُ في وضعه في مكانٍ خاصٍ في بعض خلايا دماغي . في جسدي كما هو معلوم الكثير من خلايا
أجساد والديَّ وشقيقاتي وأشقائي ودمهم دمي لذا فمن هناك ، من تلك الخلايا سيتم الإتصال بأهلي الغائبين الراقدين تحت التراب في سرداب العائلة في وادي السلامِ في النجف . ضبطتُ الموجاتِ المتناهية في الصِغَر وبعد تجاربَ عديدة إلتقطت ُ إشارات ٍ من أهلي شديدة الوضوح فقد تطابقت الموجات طولاً والذبذباتُ عدداً في وحدة الزمن ، الثانية . كان عيداً بالنسبة لي وللباقين من أهلي . نجحتُ إذا ً في تأمين واسطة ٍ مأمونة ٍ مضبوطة ٍ للإتصال بهم على مدار السنة حيث لا مطرٌ يؤثرُ ولا زوبعة ٌ ولا شمس ٌ ولا حرُّ ولا مفخخات ولا تفخيخٌ ولا تفريخ . كانت الذبذبات هي حروفنا الناطقة وكانت تتم ُّ في خلايا الأدمغة ترجماتها وفك شفراتها فما حاجتنا للغة والكلماتُ والأصواتُ تزعج الموتى وتقلق راحتهم الأبدية في قبورهم خاصة وإنهم في واد ٍ يُسمى وادي السلام وفي السلام كل ُّ السكينة. طيّب ، وماذا عن الأحياء من أهلي غير القادرين على النطق أو السمع أو المشي ؟ ينبغي إختراع أجهزة أخرى تناسب أوضاعهم فمن يكلمُ الموتى لا يعجزُ عن مخاطبة الأحياء من أهله وذوي رحمه ودمه . يا سلام !! سماعُ صوتِ الأهل أمواتا ً وأحياءً . تحققت أخيرا ً المعجزة ُ الكبرى ولتسقط نسبية آينشتاين وعلوم الكم وباقي نظريات الفيزياء الحديثة ووسائل الإتصالات السريعة العابرة للقارات ولتسقط ْ جميعُ أجهزة الكومبيوتر والبريد الألكتروني والماسنجرات وغيرها مما أنجز العلمُ المعاصرُ من أجهزة ومعدات ومكائن ومنظومات وما إلى ذلك من أسماء ومسميات . هل أتقدم ُ لتسجيل براءة إختراع ؟ كلا ، كلا يا رجل . إنه إختراع خاص أستخدمه لأغراض خاصة وفي مناسبات خاصة له خطوطه الخاصة وموجاته الشديدة الخصوصية فعلاَم كشف المستور وفضح أسرار العائلة خاصة ً وقد برهنتُ أنا طفلا ً لا غيري أنْ البشرَ عاجزون عن كشف المستور والغيب والمجهول فمن ترى يستطيع الإهتداء إلى كنه إختراعي ومعرفة أطوال وذبذبات موجات إتصالي بأهلي ؟ هيهاتَ هيهاتَ ثمَّ هيهات . ستبقى أسرار العائلة في الصدور نحملها معنا إلى عالمنا السفليِّ الآخر ، العالم الذي جرّبه تموزُ البابليُّ قبلنا عشراتِ المرات وجربته عشتارُ مرة ً واحدة ً .
السبت، نوفمبر 22، 2008
إستحضار الأرواح
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق