الجمعة، يناير 08، 2010

السكّان الأصليّون لمسافات شوقي مسلماني



سامح كعوش

»لكل مسافة سكّان أصليون« عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر اللبناني شوقي مسلماني (دار الغاوون)، بعد مجموعاته: »أوراق العزلة« (1995)، »حيث الذئب« (2002)، و»من نزع وجه الوردة؟(2007) «. ولكل سكّان أصليين مستعمرٌ تتأصّل في ذاكرته مجازر القتل الجماعية حتى تقتله، بينما يقف الشاهدُ الشهيد وحيداً باكياً لكنه ينتصر، بدمعه، وبذاكرة لا تنسى، ينتصر السكان الأصليون لأنهم ببساطة »أصليون«، سكنوا الأرض كجذر شجرة، وللشاعر شجرة الكلام فلا ينسى. هذا الشاعر الذي يقع في »التقرير« منذ العنوان، ينحاز إلى الساكن الأصلي ليستحضر في واحد حكاية الكلّ، ويقرأ في كتاب تاريخ مفتوح منذ أول فتح أو غزو، أو فلنسمّه اكتشافاً للعوالم الجديدة، والشاعر يهزأ بنا في اكتشافه أن الاكتشاف لم يكن يوماً إلا تسمية ملتوية خوف الكشف عن إنجازٍ بشريٍّ دشّن عالماً جديداً بالقتل لهنوده الحمر الأصليين، وعالماً جديداً شبيهاً يشهد الواقعة نفسها في مسافة لها سكانها الأصليون الجدد. واللغة الشعرية تقع في عجز العبارة عند اتساع الرؤى، أو عند عجز خشبة القلب عن احتمال الريح، الألم، الموت، والقتل، عند وقع خبر الفاجعة الموت كما وقع الدويّ الصارخ في قلب عصفور، عندما يستحضر الشاعر ذاكرة القتل متسلحاً بالسوريالية التي تشكّل الصور بكل جنونها وعبثيتها أحياناً وبكائها المضحك أحياناً أخرى، كما ترتئيها لا كما تراها، بشهادة شاهد عيان يقول في نصّ: »أمضيتُ سنوات الحرب العالمية الثانية كلّها أعمل طبيباً في الجيش البريطاني، يوماً لم أرَ مثل ما رأيته في 9 نيسان 1948، أوقفوا النساء والأطفال والشيوخ قرب جدران ودَرَزُوهم بالرصاص. قتلوا طفلَ أمٍّ شابةٍ بطلقة في الرأس، أُغمي على الأم وقُتلت بطلقة في الرأس وهي مغمى عليها. حُبلى بقروا بطنها بساطور. رجل كان يرتدي ملابس أمّه ولم يشفع منظره الذي أضحكهم. رشقوه بالرصاص، وأضرموا فيه النيران بحضور الصحافة«.
يتوزّع همُّ مسلماني على خطوط مستقيمة متوازية تلتقي في خفاء اللغة، لتصل إلى نتيجة مفادها الشعرية بامتياز، شعرية الصورة التي تقول بأن يكون للشعراء قلوب، وأن تحتلّ العصافير الكون بدلاً من الطائرات المقاتلة، بأن يكون هناك من يقول كفى للقتل، من يزرع البنفسج في جدران المدينة الفولاذية، ليتبرعم الأمل وتتفتّح زهرة الشعر، يقول مسلماني: »يترتّب أن تكون قلوبٌ/ أن تكون عصافير/ أن يكون من يقول: كفى/ أيها السادة/ لي فيكم بنفسج«.
هي خطوط شوقي مسلماني المستقيمة في اللغة، والتي لا تنتظر نقطة مَيْلٍ أو تحوُّلٍ في مسيرتها كي تقول في ثلاثة، هم الصديق الحاضر الغائب في النص الشعري، والأنا الذائبة في المشهد الشعري، والجماعة »هم«، متنقّلين من موقع عداء إلى موقع صداقة، وبينهما وقوع الأنا في التردّد ثم الكفر بما قالته الكتب وما بشّر به أنبياء المذهب. ويرسم مسلماني مشهد المجزرة التي ارتكبها الإنسان الحالي بعبقرية فذّة، تقسم العالم عالمَين؛ عالماً للمستعمرين المحتلين الفاتحين برعب قنابل نووية وأخرى ذكية وثالثة لا يكشف سترها غير الشاعر برؤاه الشفيفة حدّ النزف في علاقة تماثل بين قديمَين متجدَّدَين دوماً »بخارى - هيروشيما وجنكيزخان - ترومان«، وتعيد صياغة صورة لاشعرية بامتياز، لكنها أقرب إلى منطق الشعرية في استحالة السكوت عن الخلل في أكذوبة التسلسلية في القتل لا في سواه لدى بشرية معاصرة كشفت منذ زمنٍ عن وجهها القبيح، والشاعر »أول من رأى«.
هي حالة دفق النزف الوجداني الإنساني في أوردة اللغة التي تشبه الشعر كثيراً تكتب نص مسلماني ولا تقع فيه كثيراً، أو هي ردّةُ المعتقِد عن عقيدته في الانحياز ليبدأ الانزياح إلى ما هو أبعد، كي يتمكّن الرائي في الشيء من رؤية محايدة على الأقلّ؛ أقلّ القتل وعصبية الأعمى، أقلّ الجنون الذي يخنق الشاعر بلحم يتقاتل، ولا يسهر عضوٌ على عضو بالسهر والحمّى، كأن للشاعر هذه الريشة السحرية التي تُعيد ترتيب الكون بفوضى الاحتجاج ورؤى الناظر في الغيب، يقرأ في كفّ الرمل هذه الصورة التي يرى فيها أخاً يقتل أخاه منذ أوّل البشرية، ولا يسلم الأحدُ الفردُ من القتل أو أن يقع في أسر دوّامته، يقول الشاعر: »لحمٌ يمزّقُ لحماً/ حجرٌ يطارد حجراً/ تعومُ آمناً/ بين فكَّي القرش؟«.
إذاً هو الخطأ المرتكب قبلاً والآن ولاحقاً، في بنية وجودية تقارب البنية الشعرية، إشارةً وإفصاحاً، لا تلميحاً فحسب، فكل الجهات تشبه جهات أخرى يقيمها الإنسانُ، خرائب لوجود يحطّمه بيدَيه كطفل لا يُصاحب دميةً إلا ليحطّمها، مقيماً الخرائب للراغب في مزيد منها، وكاشفاً عن مدن من ذهب أقامتها حضارات الأزتك والأنكا والمايا فأثارت جشع المستعمر الإسباني، في أعلى السفح الذي يشبه كثيراً سفحاً وصفه محمود درويش في »لماذا تركت الحصان وحيداً«؛ سفحاً أتاح للمسافة أن تسكنه، وأن تُحيي فيه سكانها الأصليين الذين كما »حشائش نيسان التي قضمت قلعة نابليون على التلّ«، يقول مسلماني: »الخطأ يتأكّد يومياً/ كلُّ جهةٍ/ هي جهة خرائب«.
هذه الجهات تتقابل وتتضادّ، بعضها ينفي بعضها، لأن للضدّ حكايةً أخرى في وجه قاتله أو مقتوله، وكلاهما في القتل سواء، لأن واحداً منهما كان الضدّ الذي يقتل لمجرّد القتل، أما الثاني فكانت الصدفةُ قاتله، أو هي منطقية حالة القتل المستمرّة منذ الأزل، والباقية حتى الأبد، ضدّان هما الواحد الإنساني في طقوس الجدلية التي تربط بين الحياة الموت في وجوده، وهذا الضدّ يشبه ضدّه في أسبابه الخاصة، في الاستعارة النكرة لضدٍّ لا يقبل أل التعريف، بل ألف ألف سبب لقتلٍ واحدٍ في النهاية؛ نهاية الحكاية التي يسردها مسلماني في مجموعته هذه: »ضدٌّ يقتلك لأنك ضدّه/ ضدٌّ يقتلك لأنك على يساره/ ضدٌّ يقتلك لأن كلبه لم يستطع أن يعضّك/ ضدٌّ يقتلك لأن ملّته طلبت/ ضدٌّ يقتلك لأنك شجرة«. وبين الحكايات ذلك التسلسل السردي الذي يحكي، ليتّخذ الشاعر موقفه الراوي للأحداث، في مشهدية بانورامية تحكي تراجيدية هذا الوجود منذ الخطأ الأول في حالة إعجاب جنوني بقتل الشاعر في اللغة التي تفرض عليه ثوباً آخر هو ثوب الراوية، ربما لثواب الرواية في أسباب الخلق وتفسير الخطأ، بما يعنيه ذلك من غواية فلسفية أصلاً، وإغراء بدور الشاعر الفيلسوف والمفكّر، وإن حاول لغةً تشير إلى التجريد لكنها تُبقي على المنطق نصاً وروحاً، أو أحال سبب كل الخطأ على أمر غريب غير غواية الأنثى، وإنما غواية القتل، مقترباً بمحتوى المجموعة من البوح التلقائي لنفسٍ حانقة على التاريخ الحافل بالأخطاء: »آدم وحوّاء/ لا يزال الفشلُ قائماً منطقاً، تجريداً/ من مدن الطين إلى عُمد الفولاذ«.
يعرّج مسلماني على مسافة لسكان أصليين أقرب إلى كونه وعالمه لا مجازاً بل حقيقة، مسافةِ سكان أصليين هم الأهل، والأصدقاء، والأقرباء، ربما حدّ التوحد بذات الشاعر، ربما حدّ الإشارة باللون إلى الحزب والجماعة والطائفة التي تقتل الطائفة الأخرى ويُبارز بطلها بطل الطائفة الأخرى، في معارك دامية على طول جبهات الخطأ الذي سرده الشاعر منذ نصف تفّاحة يشبه نصف قنبلة انتصفت فتفجّرت ذراتها وانقسمت نواتها فصار الانشطار الثاني الكبير بعد الانشطار الأول، وكانت غواية القتل بعد غواية الأنثى: »الداء ليس في الحرب/ إنها فرع/ الداء في حياة عاشت وماتت/ وكثيرون يصرّون أن تظلّ محمولة على الأكتاف«.

عن صحيفة »الغاوون«، العدد 22، 1 كانون الأول 2009

ليست هناك تعليقات: