د. عدنان الظاهر
لا أعرفُ سبباً وجيهاً لكل هذه الضجّة التي أثارها رأيُ أو مقالة السيدة نادين البدير بشأن مطالبتها بالحق في أنْ تتزوج المرأة من أربعة أزواج ! رأيتُ أنَّ الذين كتبوا وعلقوا مؤيدين أو شاجبين معارضين لم يعرفوا ما في تأريخنا ولا ما في قرآننا من أمور تتعلق بهذه المسألة أعني تعدد الأزواج . لا أعود لما كتب فردريك إنكلز في كتابه الرائع [ أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ] عن التحولات التأريخية في موضوعة الجنس والزواج وإنتقال الأخير من شكل إلى آخر تدرّجاً من عصور الوحشية مروراً بعصر البربربة البشرية حتى ما يسميه إنكلز بعصر الحضارة ... لا أعود لهذا الكلام الذي إستعرض فيه أسباب وموجبات هذه التحولات وما رافقها من أشكال التزاوج إعتباراً من مشاعية الزواج البدائية أو الجنس الفوضوي المشاع المشترك إلى عصر تعدد الأزواج حيث ساد الحق الأمومي ونالت المرأة حقها في الزواج من أكثر من رجل ... حتى إنتهى بنا إنكلز إلى تعدد الزوجات ومنه تطور وانتصر عهد الزواج الأحادي المعروف اليوم إذْ دشّنَ عهد سيادة الرجل على المرأة مفسراً إياه ورابطاً بإنتقال البشرية إلى زمان سيادة عصر تعلم الإنسان الصيد والرعي والزراعة والسكن حيث بدأ عهد الإنتاج وتراكم الثروة الأمر الذي تطلب إستخدام أيدٍ عاملة مجانية أو رخيصة كقوّة عملٍ وفّرها العبيدُ لأسياد الأرض الجدد وإعدادها للرعي والزراعة . تكونت العائلة في هذا الزمن : زمن الصيد والزراعة والرعي ثم العبيد فبرزت الحاجة لنظام أُسَري ـ إجتماعي جديد يضمن حصر الثروات المتراكمة في نطاق عائلة واحدة ضمن آلية الإرث والتوارث . إذاً نحن أمام مسلسل : العبيد ـ العائلة والزواج الأحادي وسيادة الرجل ـ الإرث .
لا يهمني من كل هذا الكلام إلا مسالة تعدد الأزواج وهي مرحلة معروفة في تأريخ البشر حيث ساد ما يُسمّى بحق الأم وسيادتها على العائلة والرجال . فما بالنا نتخاصم ونتشاجر وننقسم صفين متناحرين ولنا تأريخ معروف في هذا الشان يمكن قراءة بعضه صريحاً في بعض آياتِ القرآن الكريم وإستقراء البعض الآخر في آيات سورٍ أخرى إذا أردنا التعلم وفهم تأريخنا كما كان إعتماداً على نصوص وردت باللغة العربية وفي مصدر لا يأتيه شكٌّ أو بهتانٌ هو القرآن الكريم ؟ فلنقرأ ولنستقرئ معاً :
1 ـ كيف نفهمُ تحديد القرآن لحق الرجل بالزواج من إمرأتين أو ثلاث أو أربع وما ملكت َيمينه من جوارٍ وعبيد وسراري وأسيرات ؟ [[ وإنْ خفتم ألاّ تُقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طابَ لكمْ من النساءِ مَثنىً وثُلاثَ ورُباعَ فإنْ خِفتمْ إلاّ تَعدلوا فواحدةً أو ما مَلكتْ أَيمانُكمْ ذلكَ أدنى إلاّ تَعولوا / سورة النساء الآية 3 ]] . وأضحٌ أنَّ الكلام يخصًّ عصر تعدد الزوجات المتداخل مع عصر فوضى الجنس والتزاوج بحيث يمارس الرجل الزواج من عدد محدود من النساء وما شاء له من دون زواج مع ما لا يُحصى من النساء [ وما ملكت أَيمانكم ] . كان هذا قانون الإسلام الجديد على عرب الجاهلية فما كان الوضع يا تُرى في الزمن السابق للإسلام ؟ زواجات غير محدودة العدد جنباً لجنب مع مشاعية الجنس فضلاً عن تفشّي البغاء الذي حرّمه الدين الإسلامي بنصوص معروفة من قبيل [[ ولا تُكرهوا فتياتكم على البِغاءِ إنْ أردنَ تحَصّناً لتبتغوا عَرَضَ الحياةِ الدنيا ومَنْ يُكرِههنَّ فإنَّ اللهَ مِن بعد إكراههنَّ غفورٌ رحيمٌ / سورة النور من الآية 33 ]] . الدين الجديد هنا يقف مع الرجل الذي يُجبرُ جواريه او عبداته وسراريه [ فتياته ] على ممارسة البغاء من أجل الكسب [ إبتغاء عَرَض الحياة الدنيا ] لأنَّ اللهَ يغفر لهنَّ ويغفر لهذا الرجل كما نفهمُ ضمناً [ فإنَ اللهَ غفورٌ رحيمٌ ] !
تحديد زواج الرجل من أربع نساء كحد أقصىى لا قيمة شرعية أو عددية له لأنَّ الدين يسمح له حتى بالزواج من أكثر من أربع نساء [ ما ملكت أَيمانكم ] . ألا نفهم من هذا النص خاصةً أنَّ الوضعَ قبل الإسلام في جزيرة العرب كان أسوأ بكثيرٍ من هذا الوضع ؟ أعني تعددية لا محدودة في الزواج من النساء وشيوع ظاهرة الدعارة على نطاق واسع في عين الوقت الأمر الذي يدعو للإستنتاج أنَّ عدد الرجال كان أقل بكثير من عدد النساء في تلكم الحقب ربما بسبب كثرة الحروب التي يحترق الرجال فيها كما هو متوقع حتى العصور الحديثة إذْ شاءت الظروف أنْ أعاصرَ ظاهرة من هذا القبيل في الإتحاد السوفياتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان عدد النساء يمثل ثلثي عدد الرجال أي حوالي 66 % من مجمل تعداد مواطني ذلك البلد ونتيجة ذلك معلومة ومعروفة ...
2 ـ تعدد الأزواج / قلت آنفاً كانت مرحلة حق المرأة في الزواج من أكثر من رجل مرحلة معروفة في تأريخ البشر لكننا لا نعرف الكثير عنها في تأريخ العرب قبل الإسلام . نعرف أسماء ملكات مثل بلقيس صاحبة سد مأرِب [ يقول الأحباش عنها إنها حبشية وإسمها كِنداكةْ ] وزنوبيا ، الزبّاء ، ملكة تدمر ... وهذا أمرٌ لا شكَّ يدلُّ على تفوق المرأة وربما على سيادتها المطلقة على الرجال وحقها في إختيار ما تشاء من الرجال أزواجاً أو عشّاقاً أو كلا الصنفين من الرجال معاً . لدينا في القرآن إشارة قوية شديدة الوضوح نتلمس فيها بصيص ضوء ذي خطر يُشير إلى إمكانية وجود فُرصِ تعدد الأزواج والعشاق معاً أو منفصلين في الزمن السابق على الإسلام . فلقد نهى أو أشار القرآنُ إلى ضرورة تجنب الإقتران بالنساء اللواتي لهنَّ عُشّاق وهذا شأنٌ يدلُّ بوضوح على حقيقة وجود هذا الشكل من العلاقات بين النساء والرجال في المجتمع العربي الجاهلي الذي سبق الدين الإسلامي . فلنقرأ معاً الآية التالية من سورة النساء [[ ومَنْ لم يستطعْ منكمْ طَولاً أنْ يَنكِحَ المُحصَناتِ المؤمناتِ فمن ما ملكتْ أَيمانكمْ من فتياتكم المؤمناتِ واللهُ أعلمُ بإيمانكمْ بعضُكمْ مِن بعضٍ فانكحوهنَّ بإذنِ أهلهنَّ وآتوهنَّ أُجورهنَّ بالمعروفِ مُحصَناتٍ غيرَ مُسافحاتٍ ولا مُتخِذاتٍ أخدانٍ ... / سورة النساء من الآية 25 ]] . غيرَ مُسافحاتٍ ولا مُتخّذاتٍ أخدانٍ !! الخدين هو الصديق العشيق وقد قالت سيدة مسلمة قديمة معروفة في تفسير هذه الآية إنَّ المرآة المتزوجة في الجاهلية كانت تملك الحق في معاشرة خدين (( عشيق )) فجاء الإسلام وحرم عليها هذا الحق . كما يُنسبُ لهذه السيدة { عائشة أم المؤمنين } قولها إنَّ تعدد الأزواج كان أمراً معروفاً شائعاً قبل الإسلام شأنه شأن تعدد الزوجات فضلاً عن صاحبات الرايات أي المومسات اللواتي كنَّ يرفعنَ أعلاماً فوق سطوح بيوتهنَّ لإهداء الزبائن ومعرفة الطريق المؤدي إلى بيت بائعة الجسد والهوى ، وكان من بينهنَّ نساء معروفات الإسم لا أودُ ذِكرَ إسم واحدة منهنَّ وهي أكثر شهرةً من نارٍ على عَلَم !! لا أتذكر للأسف أين قرأتُ القول سالف الذِكر المنسوب للسيدة عائشة .
خلاصة القول من وجهة نظري : لم تقل السيدة نادين البدير كفراً أو قولاً مُنكراً أو روّجت لبدعة جديدة في الإسلام وغير الإسلام . قالت شيئاً معروفاً حتى في مجتمعات العرب قبل الإسلام ، أقصد تعدد الأزواج . أخطأت نادينُ لا شكَّ إذْ نكصت وانكفأت مرتدةً إلى حقب سحيقة مرّت بها البشرية لأسبابها وظروفها وقوانينها الإقتصادية القاهرة ثم تجاوزتها تحت أحكام ظروف وقوانين إقتصادية جديدة إنتصرت فسادت وسيطرت على مسرح التأريخ البشري وهذا هو طريق التطور والتغيرات الدرامية الكبيرة في تاريخ الشعوب كان وما زال وسيبقى رغم أنوفنا شئنا ذلك أم أبينا . إذا أردنا العودة إلى عهود الحق الأمومي وسيادة المرأة وحقها في تعدد الأزواج ينبغي الرجوع إلى الحقبة التي سبقت هذه أي إلى حقبة مشاعية الجنس وفوضى التزاوج أي حقبة التوحش والوحشية فمن هذا الطور نشأ وتطور وساد الحق الأمومي وفيه حق الإقتران بأكثر من رجل ... فكيف تعودين يا نادين بنا القهقرى إلى تلكم الحِقب السحيقة وهل فيك إستعداد لولوج عهد الوحشية وأنت فتاة عصرية متمدنة ربما تعيشين في واشنطن أو نيويورك او باريس ؟ نادين فتاة ذكية القت عن عمد حجراً فيما يُشبه بركة ماءٍ مُتأسّنٍ أو آسن لكي تحرك العقول وتخضّها خضّاً عنيفاً ثم إنتحت بعيداً في الظل لتراقب ردات أفعال الرجال المحسوبين على التحضّر والمدنية والثقافة وتسجّل عن كثب كيف ينفعلون وكيف يستقبلون فكرة قالتها إمرأة أصولها شديدة المحافظة وكانت في كل ما قالت قد إستوحت أو نسخت أو إستنسخت ولكن بالمقلوب ما قرأت في قرآن الإسلام عن الجوازات الأربع التي أجازها الدين الثوري الجديد قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن أعطى فيها هذا الحق للرجال دون النساء . لم تزدْ نادين أو تخترع أمراً مُنكراً على ما قد شرّع دينُها ودينُ آبائها وأجدادها سوى أنها أرادته أو تمنته أنْ يكون حقاً محفوظاً لكلا الجنسين بالتساوي لذا حددت هذه الزواجات بأربع عيناً بعين وسناً بسن والكل في الدين سواء ما دام الدينُ للهِ والسماءِ والوطنُ للجميع .
لا أرى في مقالة نادين ـ رغم خطورتها ـ إلا ضرباً من العَبث واللهو البريء الذي يشوبه بعض الذكاء الخبيث والناس أحرارٌ فيما يعتقدون ويكتبون وينشرون .
لا أزعمُ أني تابعتُ وقرأتُ كلَّ ما كُتب وما قيل حول نادين ومقالتها المثيرة للجدل لكن ، يجدر بي أنْ أشيرَ لتعليقي أستاذين عزيزين عليَّ هما الدكتور أحمد الخميسي والدكتور
< السايكولوجيست > قاسم حسين صالح حيث وجدتُ نفسي في موقف لا أُحسدُ عليه ... إذْ دُهشتُ من موقفيهما حين كنتُ أتوقعُ منهما أنْ يقفا مع نادين مدافعين عنها وعن حرية التعبير عن الرأي والقناعة أولاً ثمَّ مناقشين لرأيها وما قالت وكان في مقدوريهما تفنيد رأيها بالحجج التأريخية وبقوة قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة النافذة التي تمنع وتحرّم التعدد في الزواجات من كلا النوعين .
كلمة أخيرة أقولها همساً في أذن نادين البدير : أنت يا نادين تعيشين في أمريكا أو ربما في أوربا لعقود من السنين كما أحسب ... ألا ترين بأم عينيك كيف يتخلّصُ الرجالُ والنساءُ متزوجين وعازبين من حالات الملل والسأم والبرود الجنسي وكيف يتنقلون من جو لآخرَ سرّاً حيناً وعلانيةً أحيانا من غير الحاجة لتعددية الزواج ؟
الأحد، يناير 03، 2010
مع نادين البدير
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق