د. عدنان الظاهر
كلما أعود بذكرياتي للمغرب حيث زرتها أواخر شهر تشرين الثاني ـ أوائل شهر كانون الأول من عام 2009 ... للمرّة الأولى في حياتي [ وأرجو أنْ لا تكونَ الأخيرة !! ] عادت بي الذكرى الجميلة لصديقي وزميل دراستي الجامعية القديم في بغداد الدكتور علي القاسمي، المقيم منذ عقود مُعززاً مكّرَماً هناك . الرجل الكريم الذي دعاني وصديقين آخرين لزيارته في مدينة الرباط فلبينا دعوته وقام بواجبات الضيافة خير قيام . ليس الصديق القاسمي هو الشخص الوحيد الذي تلحُّ ذكراه في خاطري ، إنما وذكرى لقاءاتي بأصدقاء وصديقات مغاربة أخرين في مدينة الدار البيضاء من شواعر وروائيات وكتّاب قصّة ولكنْ ، في حلقي غُصّة ولديَّ شكوى مُستجّدة . شكواي لك عزيزي أبا حيدر القاسمي . فلقد أضفتُ لدوائر أحزانك العراقية منذ طوفان نوح وكلكامش سومر مروراً بمحرّم حرام الطف وكربلاء ومأساة الحسين حتى دمار عراقنا بالإحتلال المركّب الذي تعرف وأعرفُ ... أضفتُ إلى مجموع دوائر أحزانك دائرةً أخرى جديدة ألمانية الراية ـ عالمية الطعم والمذاق فريدة في بابها وجدتها تلتف كالحبل المَسَد [ حبل حمّالة الحطب الصحافية الحقيرة إيّاها !] حول عنقي الضعيف الواهن . دائرة من 360 درجة ولا كباقي الدوائر الدائرة في فلك حياتنا وهوروسكوب حظوظنا البائسة . أما زلتَ يا عليُّ تبحث بين أنقاض التأريخ عن حبيبتك التي لم تعطها إسماً ؟ سوف لا تجدها يا عليُّ وسوف لن تجدها . أبحثْ عن غيرها . إني أراها تماماً مثلَ عائشة صديقك البياتي (2) الذي بحثت عن قبره في دمشق ولم تكلَّ حتى وجدته (3) . هل تبحث عنها يا عليُّ حقاً ؟ أتبحثُ عنها حبيبةً أم أنك في الحق تبحث عنها زوجةً ماتت وتركتك تبحثُ حتى وجدتَ أخرى غيرها ؟ لك الحق في الزواج كما تعرفُ من أربع نساء ! موتُها خلّدكَ يا عليُّ . لستَ إذاً بحاجةٍ للبحث مثل كلكامش عن عشبة الخلود (4) . لا تبكِ عينُك ولا تغامرْ في الإبحار في محيطات الظلمات التي تجاور مسكنك في الرباط وغيرها من المدن المغربية . لا تغامرْ ولا تخاطرْ بحياتك بحثاً عن طب ودواء يُطيلان من عمرك . كان صاحبك كلكامش السومريُّ مغامراً مجنوناً أفقده موت حبيبه أنكيدو معظمَ عقله فراح سُدىً يسعى طلباً للخلود في الحياة . لا خلودَ في الحياة يا عليُّ . كلُّ مَنْ عليها فانٍ . فقدتَ حبيبتك الأولى بعد أنْ رفضتْ هيّ ركوبَ سفينة نوح فما ذنبك فيما جنت الحبيبةُ عليك وعلى نفسها ؟ هل علّمك نوحٌ فلسفة النواح { ناحَ نوحٌ ينوحُ } أم إنها الحبيبة التي خانتك وعصتْ أوامرَ سيدها نوح ؟ دعها تقترن بإبن نوح العاصي الذي آوى إلى جبلٍ عالٍ ظاناً أنَّ الموجَ العاتي سوف لن يأتيه (5) . أتى الموجُ العاتي فاكتسح سومرَ وبلاد أور إبراهيمَ ولم ينجُ من عاتي الموج هذا إلاّ خصمُ إبراهيمَ : النمرود ! قال وأنا قد نجوتُ من نار النمرود . هو نجا من ماء الطوفان لكني نجوتُ من ناره . كيف نجا نمرودُ أور من ماء طوفان نوح ؟ قال عليٌّ إسألْ نوحاً صاحبَ الفُلك العظيم ولا تسلني يا أخي . أنا أنجوتُ نفسي من لظى نيران النمرود وكفى . رحتُ في تفكيرٍ عميقٍ أقول لنفسي لكنَّ نمرودَ أور أنجبَ نمرودَ بابلَ وأرضعه ماءَ دجلةَ في بغدادَ . لنمرودَ أور خلائف في الأرض أكثرهم سوءاً وظلماً ودمويةً حكم العراق أكثر من ثلاثة عقود لينتهي حكمُهُ في التاسع من شهر نيسان عام 2003 ! غرّقَ عليٌّ ناظريه في عينيَّ وقال : وهل نجوتَ حقاً من نمرود بابلَ هذا ؟ نعم ، وكما تراني أمامك ... وإلا لما زرتك في مدينة الرباط المغربية ولما تناولنا طعام الغداء بدعوةٍ منكَ مع إثنين من الأصدقاء ولما أمضيتُ معك في بيتك هناك ليلة ولا كباقي الليالي . هزَّ عليٌّ رأسه وظل يهزّهُ حتى أخذته سِنةٌ من النوم فقمتُ دون كلمة وداع .
وأنا في طريقي إلى المجهول رحتُ أُمعنُ النظر فيما قال الناقد السوري وما أدخل من تفسيراتٍ وتعقيدات على نص القاسمي . فكّرتُ عميقاً وقلّبتُ وجوه هذا الأمر أكثر من مرةٍ فكتبتُ إليه بإختصار شديد : عزيزي الناقد السوري ، سلامٌ عليك . فهمُ نص قصة دوائر الأحزان ليس بحاجة إلى تنظيرات من قبيل الصعود الكوميدي والنزول التراجيدي وما إلى ذلك من تخريجات غير ضرورية البتّة . ليس في الأمر صعودٌ للأعلى ولا نزولٌ للأسفل إنما مسحٌ سريعٌ مختصرٌ لتأريخ العراق ، وطن القاسمي الأصل ولمّا يزلْ ، في إتجاه أفقي واحد محكوم بجبروت قوّة حركة ومسار الزمن من الماضي إلى الحاضر ، من كارثة الطوفان حتى كارثة دمار العراق المعاصرة . أراد القاسمي أنْ يقولَ فقال ما قال بأسلوب أدبي جميل بليغ ... أراد القولَ أنَّ تأريخ العراق منذ عصر الطوفان حتى اليوم هو تأريخ كوارث ومآسٍ وقتل ودماء وحروب يضيع في عنفوان أحداثها كلُّ رمزٍ وأملٍ جميل { حبيبة القاسمي في القصة } . ففي سومر موتٌ لأنكيدو وحزن صديقه كلكامش عليه ، ثم مناحة وبكاء عشتار أو عشتروت وباقي نساء سومرَ على غياب إله الخصب والنماء دمّوزي ( تموز ) مرةً كل عام . ثم سقوط مملكة بابلَ وبرجها العظيم وخراب جناتنها المعلّقة الشهيرة . ثم سقوط مملكة آشور وأخيراً مأساة الحُسين بن عليٍّ في طفوف كربلاء عام 61 للهجرة . هذا هو تأريخ العراق ، تأريخ خراب ودماء ودمار تستدعي البكاء والندب واللطم وشق الجيوب وتجريح الخدود . للدكتور فاضل الربيعي بحث طريف حاول فيه تفسير ورد ما يجري في الكثير من مدائن وقصبات العراق وسطاً وجنوباً من طقوس سنوية في العاشر من شهر محرّم إلى طقس البكاء النسائي الجماعي في سومر حزناً على غياب تموز . طقوس وشعائر اللطم والندب والبكاء الجماعي أكثر قِدَماً مما يرى الأخ الربيعي وهي جميعاً ليست سوى ردود أفعال وتعبيرات متنوعة عن الحزن أو الخوف والجزع ثم العجز أمام ما يقع أمام الناس من حوادث لا تفهمها ولا تعرف لها تفسيرات وتجهلُ مسبباتها ، مجرد ردود أفعال بشرية لا تحتاج إلى تنظيرات . نقرأ في التوراة (6) عن مناحة بنات إسرائيل السنوية على بنت يفتاح التي ضحّى بها أبوها قرباناً ونذراً نذرهُ لربه إذا ما إنتصر على العمونيين فسينحر له أول شخص يخرجُ من بيته ولسوء حظه كانت إبنته أول مَنْ خرج من بيته لإستقباله .لا أرى من جدوى في محاولة الربط بين طقوس البكاء واللطم على الحسين في العراق وبكاء ومناحات نساء سومر على تموز . البشر غير البشر والزمن غير الزمن والأسباب غير الأسباب. لم يكن السومريون من الشعوب السامية كما يقول المؤرخون ، لذا فعاداتهم وطقوسهم تختلف حتماً عن عادات وردود أفعال غيرهم من الشعوب الأخرى . العراقيون ساميون . ثم أنَّ عشتار وتموز وكلكامش هي أساطير بينما واقعة مقتل الحسين وصحبه وسبيِّ آل بيته واقعة حقيقية معروفة التفاصيل .
سمعتُ ـ يا للعجب ! ـ سمعتُ صديقي القاسمي يقول : لا يفهمُ الدرزيَّ إلاّ الدرزيٌّ . فهمتُ على الفور قصده فأضفتُ : ولا يفهمُ العراقيَّ إلاّ العراقيُّ !
هوامش
1 ـ دوائر الأحزان قصة للدكتور علي القاسمي كتب عنها ناقد سوري مقالةً طريفة منشورة في موقع النور وعلى الرابط التالي
http://www.alnoor.se/article.asp?id=66803
2 ـ عبد الوهاب البياتي / المجلد الثاني ، الطبعة الرابعة 1990 ، دار العودة ، بيروت. ذكر البياتي في هذا المجلّد من قصائده الشعرية إسم عائشة مرّاتٍ عدّة منها على سبيل المثال : قصيدة حب تحت المطر ، وقصيدة مرثية إلى عائشة في ديوان الموت في الحياة ، وقصيدة مجنون عائشة في ديوان قصائد حب على بوابات العالم السبع ، وفي غير هذه القصائد . عائشة البياتي هي رمزٌ للمرأة خالدٌ أبديٌّ يتحول لكنه لا يفنى ... شأنه شأن مادة الكون الأزلية . يراها أينما حلَّ وحيثما إرتحلَ . يراها في وجوه نساء العالم كافةً . كذلك الشأن مع حبيبة علي القاسمي .
3 ـ أوان الرحيل / مجموعة قصصية للدكتور علي القاسمي . الطبعة الأولى 2007 ، دار ميريت ، القاهرة . قصّة " البحث عن قبر الشاعر البياتي " .
4 ـ طه باقر / ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان . دار المدى للثقافة والنشر ، دمشق ، الطبعة الخامسة 1986 .
5 ـ قصة الطوفان وفُلك نوح مُفصّلة في سورة هود الآيات 36 ـ 48 . [[ ... ونادى نوحٌ ابنَه وكان في مَعزِلٍ يا بُنيَّ اركبْ معنا ولا تكنْ من الكافرين . قال سآوي إلى جبلٍ يَعصِمُني من الماءِ قال لا عاصمَ اليومَ من أمرِ اللهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ وحالَ بينهما الموجُ فكانَ من المُغرقين / 42 و 43 ]] .
6 ـ سفر القضاة / الإصحاح الحادي عشر [[ ... ونذرَ يفتاحُ نَذراً للربِّ قائلاً إنْ دفعتَ بني عمّونَ ليدي فالخارجُ الذي يخرجُ من أبوابِ بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمّون يكونُ للربِّ وأُصعِدهُ مُحرَقةً ... ثم أتى يفتاحُ إلى المِصفاةِ إلى بيتهِ وإذا بإبنته خارجة للقائه بدفوفٍ ورَقصِ وهي وحيدةٌ لم يكنْ له ابنٌ ولا إبنةٌ غيرُها ... وكان عند نهاية الشهرين أنها عادتْ إلى أبيها ففعلَ بها نَذرَهُ الذي نَذَرَ . فصارت عادةٌ في إسرائيلَ أنَّ بناتِ إسرائيلَ يذهبنَ من سنةٍ إلى سنةٍ ليَنُحنَ على بنتِ يفتاحَ الجلعاديِّ أربعةَ أيامٍ في السنة ]] .
الخميس، يناير 21، 2010
دوائر الأحزان ـ1
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق