الأربعاء، يناير 06، 2010

من وحي: سأحاولكِ مرةً أخرى



زياد جيوسي

أهرب من صومعتي، أجلس في مقهى رام الله في وقت مبكر غير معتاد للرواد، (على مهل أرتشف الشاي الباردَ بالنعناع الأخضر)، أقرأ في ديوان شِعر لريتا عودة فيشدني، يحلق بي، يثير الحنين، فأشعر بكِ تأتين من البعيد، تجالسيني، تهمسين بأذني: أيا كاتب أطيافي، قلب يخفق أضمه بين أضلاعي، يقول لك: أحبك.. فأهمس لـ (السنونوة المجبولة من طين الحنين.. المنسوج حلمها من طين الحب)، أحبك أكثر، وأخرج من مكاني (على مهل؛ أراقب الطيور في الأفق..)، وأشعر أن حبك يشدني، يعيدني إلى قصة عشقنا التي بدأت من قبل ألف سنة مضت، وأشعر بروحك معي وأنه (في الوقت متسعٌ لانفجار ومضة شعرية)، فأقرر المغادرة يا طيفي إلى طولكرم كي (أبحث عنكَ، كما تبحث عن إبرة في كوم قشّ)، فأنا منذ أن عشقتكَ أسطورةَ أنثى، أرضاً مفعمة بالزيتون (أتوق إليكَ، كما تتوق السنةُ إلى اكتمالها)، ومنذ أن التقيتك (مع أولى نسائم العشقِ؛ يجهش وجهي بالاخضرار)، فأجالس طيفك مع النسمات الكرمية الناعمة بعد فيضان الأمطار، أنظر للغرب السليب، فأذكر الساحل وزيارتي التي تسللت فيها إليه فأصرخ: (آه من الحبّ؛ يعريني، أصير شجرة بدون لحاء)، فتعالي لنكون معاً روحين (بأوراق النعناع يتدثران). أذكر يافا، حين وقفت وطيفك نغمس أقدامنا في شاطئ العجمي، أتذكر أحاديث جدي، وأشعر بيافا كطيفك (تطالب بحق اللجوءِ إلى قلقي)، فإذا كنت (أنا أحلم.. إذاً أنا أحيا).

أواصل المسير مع الحلم إلى حيفا (لأرتقي؛ أثبت أنظاري على القمم)، فأهمس لحيفا ولطيفكِ (من سِواكَ.. أسراب من الطيور؛ ثالوث العشق المقدس: أحِبّكِ.. أحِبّكِ.. أحِبّكِ..؟)، فيهمس الكرمل بأذني: (من سِواكَ.. أطعمني القمحَ حَبّةً حَبّةً)، ويهمس طيفك: (عُدتُ، هادنت الأنثى المستأسدةَ في نبضي، إذ استأنست لعذوبة الزئير)، فمن حبكَ والزيتون (نكثرُ، نملأ الأرض ونسودُ عليها)، فأنتَ وحدك من تبكيني وتبكيني، لكن حبك يرويني، ويهمس الكرمل من علٍ: حروفي مبعثرة، أبحث عنها، أجدها مختبئة في قلب محب وعاشق أبدي، وتهمس حيفا: (أنا أنثى.. كلما صفعتها ريحٌ، تعاود نبش ملفات التاريخِ، للبحث عن فارسٍ... فترخي له الجديلةَ.. ليصعدَ إلى شاهق القلب)، فترد عليها يافا: (أنا أنثى.. هويتي؛ قَصفةُ زيتونٍ وزعتر..)، فتهمسين لي ولهما: (أنا أنثى.. تجعلُ من رأسِها شمساً، ومن أحاسيسها بحراً، لفارسٍ يُجيد تحميص مشاعِرِها)، وتهمسين بأذني: أنت كنت دوماً (ذاكَ الغريب الذي يدركُ، كيف ومتى يُدلكُ خلايا كبريائي)، وأنت وحدك من (أجتاحهُ رعداً.. برقاً.. ومطراً بديعاً)، فأهمس لكِ: وحبك وحده من (يعود بي، به، بهذا الوله)، وحبكِ من يثير إلهام حِبري، فليس هناك مثل (الحُبّ.. يصنعُ الحبر).

هي النسمات الكرمية الدافئة الناعمة ما زالت تثير مشاعري، وأنتِ الطيف الذي (يباغتُني وجهكَ؛ بالهدايا والمرايا) يحرك في داخلي كل الحنين والشوق، فأراك رغم البعد والمسافات، (بين أغصان اللوزِ والزيتونِ والتينِ..)، فيرتفع منسوب الحب في شراييني (تتكاثر خلايا حنيني)، فأقف على أسوار عكا، أرقب البحر والأفق، أرقب النوارس، (يباغتني حُلمك؛ بتمتمات عابرة)، فأهمس لعكا ولطيفك (أنت المطر الذي يأتي، بالعصافير الصغيرة والزَّنابق)، فيهمس طيفك: أبكيتني اليوم مرتين، في الصباح حين بدأنا الرحلة وغمرتني بأزهارك وهمساتك، والآن مع بكائية الوطن، وتهمس عكا: (وأنتَ الحكاية التي لم تُروَ بعد، عن الفرح العَصيَّ إذا ما انْهَمَر)، فأرد على الهمسات: ومن غير عشقي (يغويني بالمشي على وسائد النهر)، وأرنو إلى الجليل وأهمس: (أنت اخضرار الشَّجَرْ.. فأنتَ الدَّثارُ الذي يقي من البردِ.. وأنت السفرُ إلى ضفة الأملِ)، ومن على أسوار عكا، وعلى نغمات هدير البحر، أضم طيفكِ، أنظر للوطن وأصرخ: أما أنتَ (فأنت الغمامُ الذي يرسمُ في خيال الشُّعراءِ أبْهى الصُّورْ).

يضمني طيفك الذي أحلم، يداعبني، يهمس لي: بحبك دمعي يبلل منديلي، أمسكه، أحاول مسح ألم الفراق، لعلي أفرحك بقرب اللقاء، فأنتَ لي (لا يليقُ باللَّبؤةِ إِلاَّ.. أَسَدٌ فريدٌ)، فمن غيركَ (الَّذي ينتظرني عند الأفقِ)، لذا (تراني أُحِبَّكَ) وأسأل نفسي: (أينثرُ القمْحَ على تلال النَّاصرِةِ) حبُ غير حبك؟، فحبكَ يشتد ويزيد، يغذيني ويحييني ويجملني ويحليني، أحبكَ لا تكفي، بل هي كلمة تهدّيني. فأهمس لطيفكِ: (كان حُلُمي أبسَطَ من كل احْتمِالٍ)، (لكنَّكَ تجسَّدْتَ أعنفَ من كُلَّ خيالٍ)، فحبكِ كالوطن (حاصرني من شَرْقي إلى شَوقي)، فقد كنت (أحلمُ أنَّك ستهبني منَ الحُبَّ.. كفاف فرحي..)، لكن حُبكِ كما أنتِ لا يفارقني، وأتاني (الحُبُّ كالموت.. كالمطر.. كالفكرة..، يكفر بالمواعيد المُسبقةِ والآهاتِ المؤجَّلةِ)، فتعالي أيتها الغائبة لنواصل تحليقنا بالآهات، بفضاء الوطن، حيث الحبّ، حيث نحن.


* كلّ ما هو بين أقواس هو للشّاعرة ريتا عودة، من مجموعتها الشّعريّة "سأحاولكِ مرةً أخرى"، 2008م.

ليست هناك تعليقات: