ليلى البلوشي
" سأضع يدايّ على رأسي حتى لا أكبر " هكذا قذفت ابنة أختي الصغيرة والتي لا يتعدى عمرها الميلادي أربع سنوات عبارتها في وجهي ؛ اعتقدت في البدء إنها تداعبني بروحها المرحة كعادتها معي ، ولكن حين أكدت لي بامتعاض حقيقي أنها لا تريد أن تشيخ أبدا كالمرأة المسنة التي صادفتها في المشفى وهي تجر بقدميها الثقيلتين أعوامها الطويلة .. فابتكرت بفطنة طفولية طريقة لذلك هو أن تضع كل يوم يديها على رأسها كي يتوقف نموها عن الكبر .. فأعييت لحظتذ أن حديثها ليس ضربا من المزاح .. !
يبدو أن كثيرا من البشر يرعبهم الزحف الزمني ؛ لأن ذاك الزحف يترتب عليه تغييرات كاشفة كالشمس .. فالبشرة التي كانت وضاءة بالوسامة يخربشها الزمن بريشته كيفما يشاء فيحفر أخاديدا بخطوط مبعثرة .. سرعان ما تتعدى حدودها تلك الخطوط الملتوية لتشمل الجسد كله كلوحة مقلمة .. كما أن بناء الأسنان يتداعى ويسقط السين ثاء .. ويقل مستوى جودة التقاط كاميرا العينين فيختصر رؤيتنا للعالم بحدقتين زجاجيتين .. والخطوات فتتباطأ وقد يضطر أحدهم أن يستعيض عنهما بعكازين يثبتان خطوات أقدامه في الأرض وربما يعجز عن ذلك فيوكل أمره لكرسي بعجلات متحركة .. أما العقل فيتقلص حجم الدماغ وتتلون الذاكرة بلون رمادي سرعان ما يهمِّشه الزهايمر .. ويتضاءل معجمنا اللفظي فكثيرا ما نعيد الحكاية نفسها آلاف المرات دون أن يتربص بنا ضجر ما والذي بالمقابل يقتل مستمعنا ..
ولهذا كثيرين ينبذون نبذا باتا أن يلجوا هذه المرحلة فيتحايلون على الزمن كل بطريقته ، فالمرأة التي تفضحها التجاعيد تقدم وجهها في طبق لمشرط طبيب تجميلي وبعد شد وتنفيخ يهندسها وكأنها ابنة خمسة عشر عاما ، بينما الرجل عندما ترعبه فكرة تقلص وظائفه الرجولية ، فيشمر بأقصى طاقاته كي يجد علاجا ناجعا ليثبت من خلالها للجميع أنه ما يزال متمتعا بكافة قدراته ..
مرحلة الشيخوخة .. يخال للبعض أنها مرحلة الموت البطيء وكأن عزرائيل لا شغل له سوى أن يتربص عاجلا أم آجلا ليقذفه إلى بيته الأخير المطبق ضيقا وظلمة المسمى بالكفن ..
ولعمري أن الموت حين يؤمر لا يعرف الفرق بين طفل في المهد وبين كهل على حافة القبر .. !
فلماذا هذا التصور الشبحي الكارثي الذي يلاحق مرحلة طبيعية جدا يفطر عليها كل الأجيال ..؟! فنحن لم نسمع قط بجيل سرمد مرحلة الشباب بينما امتدادت السنون تعبر طريقها السوي ..
إذن مرحلة الشيخوخة هي مرحلة وزنها كوزن أي مرحلة في الهرم الحياتي .. فنحن نبدأ مشوارنا من رحم موصول بحبل السرة إلى وطأة الحياة الفسيحة صغارا نغدو منبهرين من الزهرة التي تتفتح ومن النخل الذي يشمخ علوا ومن طول عنق الزرافة ومن ضآلة حجم النملة .. هذه المرحلة المدهشة من حيواتنا سرعان ما تنتهي ، لتقلنا القافلة فتنتشلنا محطة أخرى حيث يزداد طولنا ويطرأ تغييرات بيولوجية على وظائفنا الجسدية ليشمل كلا الجنسين الذكر والأنثى ، ويزداد حجم اكتشافاتنا وتجاربنا وفي خضم الصخب الذي يستوطن أجسادنا ، نترعرع في تضخم عجائبي يمتد لنتسلق من خلالها إلى عوالمنا الخاصة شجرة بفروع متأصلة تتشعب معطاءة .. إلى أن يهدأ كل ما حولنا في سكون مرحلة جديدة تابعة ومكملة لنقص ..
مرحلة الشيخوخة هي مرحلة اكتمال .. فالهرم الحياتي لا ينتهي بمرحلتي الطفولة والشباب فقط .. والانسان الذي يشاء عمره بمشيئة من الله تعالى أن يصل إلى حد هذه المرحلة هو انسان حقق تكامله البشري على المستوى البيولوجي ..
وإذا كانت الطفولة هي أرجوحة التي تأرجحنا بمرح مندهشين من حجم العالم وعجائبه التي ينجبها لنا كل يوم ، و الشباب هو منطاد يهيم بنا إلى فضفاض الحياة ومفاجآتها ، فإن الشيخوخة هذه المرحلة الجميلة لابد أن نستعد لها بهمة ألذ ؛ لأنها امتداد حقيقي لمراحلنا الأولى ، ففي الشيخوخة نقف مفاخرين أمام الأجيال التي خلفناهم وراءنا .. وبعين رضا نرنو إلى الأعمال التي سيكملها عنا جيل آخر سرعان ما يسلم بدوره الأمانة إلى آخرين يحملون عن كاهلهم أثقالها ..
تلك المرحلة ليست مرحلة ترهل ؛ بل توهان رائع في الحب والعطاء بعد ذاك الامتداد الصاخب ، ففي هذه المرحلة علينا أن نشاكس الحياة التي طالما أغرتنا بشقاوتها ؛ وآن لذاك الكهل أن يلقنها درسا في الحكمة ولذة التأمل .. فكم التجارب كفيل أن يكسبه الكثير جدا من الروائع في فن الحب والعطاء والتجدد ..
مرحلة علينا أن ندلل فيها أنفسنا .. نتمتع بكل لحظة من لحظاتها بأساليب نتحايل فيها على عقرب الزمن لنمتطي هدوءه الذي طالما سلبت منه ذواتنا في رحلة التكوين ..
والشيخوخة الحقيقية ليست كهولة وجه وانطفاء بعض الوظائف البيولوجية بل هي حين تعجز قلوبنا عن عطاء الحب وحين تتوقف شرنقة أرواحنا عن الهيام في ملكوت الكون كفراشة .. فلطالما القلب رفراف بحب الحياة وأفقها مضرج بحمرة الروح ، فإننا سنختال في مزيج طري من عفوية الطفولة وغنج الشباب مع دلال الكهولة ..
هكذا تحصد ذاكرتي التي ما تزال طرية مفاخرة بشبابها موقفا طريفا يعود إلى ماركيز صاحب رائعة " مئة عام من العزلة " حكى يوما أنه قابل زميل دراسة في قاعة انتظار في أحد مطارات كولومبيا وكان في مثل عمره .. فبدا له أنه أكبر من سنه الحقيقي بمرتين ..
وماركيز بعينيه الثاقبتين تيقن أن سبب شيخوخته المبكرة ليست واقعا بيولوجيا بقدر ما هي مجرد إهمال من صاحبه .. ولم يكبح ماركيز نفسه حين أذعن في وجهه مؤنبا أن سوء حالته يعود لإهماله وليس من الرب وأن من حقه أن يطلق تأنيبه في وجهه ؛ لأن إهماله لا يجعله وحده يشيخ وإنما يجعل جيله كله يشيخ .. !
Lailal222@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق