الجمعة، أبريل 09، 2010

ليوم مولدها الذي لم تولد به بعدُ

د. عدنان الظاهر

( قصة رمزية حقيقية )
هل وُلدتْ حقاً في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني [ نوفمير ] وفي أي عام ميلادي أو هجري ؟ هذا هو السؤال الكبير واللغز المُحيّر . هل وُلدتْ حقاً هذه العنزة المشوّهة المسخ أمْ لم تزلْ تنتظر السقوط من بين رجلي أمهّا ؟ سألني الفنانُ الرائعُ والصديقُ الصدوقُ المُصدَّقُ الحبيبُ هذا السؤالَ البريءَ ظاهراً والذكيّ في حقيقة أمره . ماذا أقولُ وكيف أُجيبُ يا صديق ؟ إني مثلك حائرٌ وفي شكّ قويّ من هذا الأمر العويص المُلتبس . كيف تُنجبُ البشرية مسوخاً والفيلسوف الألماني نيتشة مع الكمال البشري وسواء الخلقة وقوة العقل والجسد ؟ إنه مثل حكماء إسبارطة وحكّامها لا يُطيق الضعف والتشوّه ولا يرحمُ عاجزاً أو مسكيناً . أضاف صاحبي الفنان عاشق الشقاريق السومرية ،أضاف قائلاً : وأزيدك علماً أنَّ الوزير العباسي إبن الزيّات كان يقول إنَّ الرحمةَ ضعفٌ أو خَوَرٌ في الطبيعة البشرية ؟ إستفزني قول إبن الزيات هذا حقّاً حتى أني كفرتُ به وبما قال وبكل عهود بني العباس بدءاً بسفّاحهم وإنتهاءً بالمستسلم الجبان الضعيف الخليفة المستعصم بالله الذي سلّمَ بغداد للغازي المغولي هولاكو فانهارت على يديه وفي زمنه الخلافة العباسية الإسلامية ودار الزمان على بغداد وكل العرب حتى إنتهى أمرهم وأمرنا ـ نحن العراقيين ـ إلى ما نحن فيه الآن من التخلّف والعجز والهوان . إستدرك الصديق المفكّر والفنان قائلاً إنما أنا وضعتُ أمام عينيك ما قال هذا الوزير فإني كما تعلم ضد ما قال وإنه ـ هذا الوزير المتكّبر الشقي في دنياه وآخرته ـ قد خالف فيما قال تعاليم دينه وقرآنه التي تحثُّ المسلمين على الرحمة بالضعفاء والمساكين وأبناء السبيل واليتامى والأرامل وكل مَنْ يستحق العطف والرحمة والمساعدة . هززتُ رأسي موافقاً فإني على علم بما جاء في القرآن من وصايا وحث وحضّ على إتيان الخير ومساعدة الضعفاء والقاصرين والعاجزين وخاصة الأبوين [[ ولا تنهرهما ولا تقلْ لهما أُفّ ]] . ثَقُلَ الموضوع عليَّ قليلاً وخرج بنا عمّا قصدناه . سألت صديقي المفكّر الإنسان الفنّان أنْ يساعدني بالرجوع إلى الموضوع الرئيس الذي شغلني لأكثر من أربعة أشهر شمسية في تعدادها ـ قمرية في طبيعتها ومفعولها وتأثيرها في رأس وعصب متتبعها . قال بأدب جم : أنا حاضرٌ تحت طلبك ، أطلبْ ما تشاءُ ستجدني إنشاءَ الله عند الطلب وحسن ظنّك . ألا ما أروعك يا أيها المُصدَّقُ وما أعلى قدرك عندي وعند الله والناس . ما دمتَ كما عرضتَ فساعدني على تجاوز محنتي مع هذه العنزة الممسوخة شكلاً وجسداً وخلقةً وأخلاقاً . ساعدني في الأقل على محاولة فهمها وتفسير سلوكها الغريب العجيب غير المألوف وغير المسبوق فإني لآراها الشذوذ الأكبر بين أفراد جنسها على وجه الإطلاق . هزَّ صاحبي رأسه بأسى إستنكاري ثم أفصح قائلاً : يبدو أنك لم تتعرف على الكثير من بنات جنسها فإنها ، لعلّمك ، ليست الشذوذ الأكبر إنما هي تمثّلُ الوسط الغالب بين النساء . كيف يا صديقُ ، وضّحْ ؟ لاذ الصديق بالصمت بل وغاب حين يُفتقدُ البدرُ . لمن أتوجّه وبمن ألوذ بمحنتي وأسئلتي ومصابي ، لمن ؟ ما سبب غيبتك الفجائية يا صديقُ وأنت عندي المُصَدّقُ أبداً ؟ أجابت المسخ الممسوخُ بعد صمت مريب ... جاء صوتها أو صدى موائها القططيّ الموبوء المزعوم والمفتعل : دعهُ يغيبُ . إنهُ صديقٌ غيرُ أمين ، لا يُجيدُ فنَّ إسداء النصيحة الخالصة لوجه الله والحقيقة . دعه وشأنه ... إنه فنّانٌ ومفكّرٌ وفيلسوفٌ وأنا لا أرتاحُ ولا أطمئنُ للفلاسفة وآرائهم وخيالاتهم وتهويماتهم وسفسطاتهم ... دعه يمضي لحاله وليدع فلسفته وينصرف لخلق خلطات لونية جديدة غير معروفة ... ذاك أجدى له وأكثر نفعاً من تسطير الحكم والآراء الفلسفية والتنظيرات المُملّة . أضافت المحتالةُ : أنا بطبعي ملولة أكره الأمور الجديّة ولا أطيقها وأميل للخفيف من أمور الحياة ثم أضافت ، هل تعلم ؟ أنا نصف مجنونة ... سبق وأنْ قتلتُ طيراً بريئاً أتاني هديةً مربوطاً بخيط طويل أتدري ما فعلتُ به ؟ ربطته بخيط في نهايته بالون مليء بغاز الهيليوم وصرت أطلقه ليُحلّقَ طليقاً حتى يرتطمَ رأسه بسقف حجرة نومي ثم أسحبه وأعاود الكرّة مرةً تلوَ المرّة حتى نفقَ المسكين ومات بين يديَّ . عاد صديقي الفنان من عالم الغيبة ليقولَ لها محتجّاً بصرامة وغضب يذكّرني بغضب أسود بابل : كيف سوّلت نفسك لك أيتها المسخ اللئيمة قتل طائر جميل بريء ؟ أيتها القاتلةُ القبيحةُ المجرمة ... لو مسكتك لقصفتُ رقبتك ولفصلتُ رأسك النتن المتقيّح عن باقي جسدك الذي لا يرى الماءَ الساخنَ إلاّ مرةً في الشهر القمري الواحد . تظاهرت الكّذابة المحتالةُ النصّابة بالغضب وأرادت الإحتجاج على ما قال صديقي لكني أوقفتها ومنعتها مما كانت تنوي أنْ تقولَ وأنْ تفعل . قلت لها إنَّ صديقي لعلى حق وإني معه في كل ما قال بحّقك وإنه لا ينطقُ عن الهوى وإنْ هو إلا بشرٌ يوحى وهو صادق وهو مُصدّقٌ منزّه عن الكذب والإختلاق . لاذت الدجّالةُ ، التي تجهلُ يوم وعام ميلادها ،لاذت بالصمت المهزوم المُخزي فشَحُبَ وجهها القبيحُ وازداد شحوباً حتى إسوّدَ فامتلآت عيناها الكابيتان بسائل قاتم اللون قريب الطبيعة من القار المصهور أو القطران الذي إستخدمه أجدادنا أعرابُ البوادي في علاج جرب جلود أباعرهم (( وأُفردتُ إفرادَ البعير المُعَبَدّ / لطَرَفة إبن العبد ) . إنها كذلك جرباء حقّاً وحقيقة ... علّقَ الصديقُ الذي غاب واختفى في ظروف غير غامضة . إنْ غاب عنّي صديقي فصوته هيهاتَ هيهاتَ أنْ يغيب :
إنْ غبتَ عنّي فما إنسٌ يؤانسني
وإنْ حضرتَ فكلُّ الناس قد حضرا

كما قال إبن زيدون يخاطب حبيبته ولاّدة بنت المستكفي في بلاد الأندلس .
أيتها القبيحة وجهاً وتربيةً وسلوكاً وطبيعةً ... متى تعترفين أنك شاذّةٌ في كل أمر من أمور حياتك الفانية عاجلاً فالعطب في قلبك قاتلك عمّا قريب عقاباً لك على سوء خلقك وتصرفاتك ومجمل فعالك . متى تعترفين وتعتذرين أم أنك أقبح وأسوأ من أنْ تستطيعي مزاولة ذلك ؟ أتيت الدنيا مسخاً مشوّهاً فعاقبتك وأضافت إلى طبعك الأهوج والأعوج والأعور عيباً خطيراً آخرَ هو الخلل في صمّامات قلبك الذي غدا بذلك ، أو ربما بدونه ، قاب قوسين أو أدنى من التوقف عن ضرب دقّات الحياة الطبيعية المعروفة عدّاً وذبذبةً . رأيتها تمسحُ من بين مآقي عينيها الذئبيتي النظرات قطرات أشدَّ كثافةً واسوداداً من منصَهَر القار الذي يغلي في حوض حَجَريّ منصوب فوق نيران جهنم . أصاب صديقي الفنان الرقيق شيءٌ من الجَزع ورقَّ حاله حاسباً أنَّ العنزة أو الصخلة إياها إنهارت وخارت قواها لفرط ما سمعت من تقريع وتأنيب وسخرية تستحق ما هو أكبر وأكثر منها .
طلب مني بإشارة منه ـ لا يفهمها غيري ـ أنْ أخفف من وقع مصابها وأنْ أكفَّ عن اللوم الشديد والسخرية الممضّة . نكّست العنزةُ الجرباءُ رأسها خزياً ومدارةً لعارها ثم إعترافاً غيرَ مكتوب ولا مقروء ولا مسموع بما إقترفت من جنايات مُخلّة بالشرف إنْ كان فيها أصلاً شيءٌ من الشرف الشخصي أو العائلي والخُلُقي.
يطلب صديقي مني أنْ أخففَ عنها وأنْ أتجاوزَ إساءاتها التي فاقت كلَّ تصوّر وتوقع . يطلب مني أنْ أكفَّ وأنْ أكتفي بما قد قلتُ فيها ولها وأنْ لا أفضحها على نطاق واسع وأنْ لا أخبرَ الأصدقاء بما فعلت وما اقترفت يداها وما سوّلت لها نفسها التي أمرتها بالسوء وركوب طريق الشياطين وقطّاع الطرق وحرامية منتصف الليل . قال أعفُ عنها فالعفو عند المقدرة وأنت القادر المتمكن والعفو من شيم الكرام . رأيتُ أمام عينيَّ شعر أبي الطيّب المتنبي :
كلُّ حلم أتى بغير اقتدار
حُجةٌ لاجيءٌ إليها اللئامُ

جعلني شعرُ المتنبي ألوذ بصمت قاتل مريب ورحتُ أُسائلُ نفسي : تُرى هل أنا حليمٌ وهل أنا أدّعي الإقتدار بل وهل فيَّ شيءٌ من قدرة وحلم ؟ القدرة على ماذا ، القدرة على تحمّل جور الزمان وقبول المعوّج من الأمور والتغاضي عن المنغصّات والمزعجات وتناسي إساءات مَنْ لا يستحقون الحياة ؟ شخُصَ شبح المتنبي أمامي موبّخاً محذّراً يهدرُ صوته كقصف الرعد بين الغيوم :
واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جا
نيه غذاءٌ تَذوى به الأجسامُ
لأجلك يا مُصدّقُ الحبيبُ ولأجل عينيك وطائرك الأثير شقراق سومر ... سأسامح هذه المعزاء الجرباء وأغفر لها خطيئتها لكني ـ أعدكَ يا صديق ـ سوف لا وسوف لن أنسى دَنَس خطيئتها وما كشفت من سوء عورتها . سأدعها للحياة وعدالة السماء لتقتصَّ لي منها عساها تتعلم وتتعظ قبل أنْ توافيها المنية وإني لآراها قريبة جداً منها بل وأقرب من حبل الوريد .

ليست هناك تعليقات: