الجمعة، أبريل 16، 2010

رحلتي المقدسة



شعيب حليفي


هل رأيتَ كم هي شامخة آثار الشوق على وجهي الأسمر؟

• أبشرْ..يا صاحبي
هل تريدُ فعلا أن أصف لكَ شعوري وأنا أهبط لأول مرة بجزيرتنا ، المملكة العربية السعودية ، على صوت طاهر، جهوري لآذان فجر يوم الأربعاء، وأصوات أخرى بداخلي ظلت حبيسةَ نفسي منذ آلاف السنوات..حينما وطأت أرض مطار الملك خالد بالرياض ، قادما من الدار البيضاء بعد ست ساعات ونصف من الطيران، اعتقدتها ثوانٍ معدودات رغم الاختلاف الزمني الذي قدره الفلكيون في ثلاث ساعات مُضافة .

لا أستطيع بالتأكيد ! لأني غير قادر على لَمِّ فيضِ خاطري بكل طبقات الحب الفطري في وجداني وهويتي لمملكة الله الواحد القهار ..حيث عرَّشَت مشاعري وظللت أرضا كنتُ أخبئها مثل موسيقى ابتهالية أُدَنْدنُها في نفسي..
نفسي العامرة بالآثام التي لا تُذَوِّبُها دموعي الآن، أو جثوي طويلا فوق آثار الأنبياء، أتنفس طولا لإفراغ الهواء الذي يقبعُ بداخلي، ومَالِئا رئاتي وكل مسامي بهوائهم الطاهر .
من هنا، تشكلت لغتنا وتخاييلنا الرائقة واللذيذة في السرود الصغرى ثم الكبرى .ومن هناك تَفَجَّرَت شَلاَّلات أنهر الشعر العربي مع فحوله المؤسسين .

من هنا أيضا ، بزغ نور الإسلام الذي روى عَطَشَ الأفئدة وأضاء ظلاما ثقيلا .نُورٌ لو حَضَرَهُ الأنبياء السابقون لانخرطوا فيه ..

أليس كل هذا كافيا لنُحب هذه الأرض ونخاف عليها ؟ حتى أنني ، في صفاء مطلق ،مقتنع أن الأرض التي منحتنا لغتنا ومتخيلنا وديننا ، ما زالت قادرة على العطاء ، وتحفظ لنا حقوقنا في صاحبي.

سبعة أيام قضيتها بممالك الله : الرياض وجدة ومكة المكرمة، للحضور والمشاركة إلى جانب عدد من الأدباء من المغرب وباقي الدول العربية في مهرجان الجنادرية ، الدورة الخامسة والعشرون في الأسبوع الثالث من شهر مارس .

• من قبل ..
في كل رحلة لا أشعرُ بما شعرتُ به اليوم ، فخاطري متحفزٌ ، به شيء جديد كما لو كنتُ مهاجرا عن المكان منذ ألف وأربعمائة سنة مرت مثل ظل في فصل ماطر. وها أنذا أعود إليها وبي خوف يهزني مما سألقى ..بيتي وكهوفي وأرضي وإبلي وكذلك الرقاع التي خبأتُها بعناية بعدما دونتُ عليها آيات ربي ..وتلك الجبال التي عبرتُها طويلا في رِحْلاتي التجارية ورِحْلاتي رُفقة امرئ القيس بحثا عن فداء دمه ودمنا ، أو في حروبي الجاهلية كما في غزواتي بجانب صاحبي خاتم الأنبياء .

ما زلتُ أذكر (كما لو أن كل شيء وقع قبل قليل فقط، وحرارته تسري في دمي )أنني كنتُ حزينا بعد وفاة صاحبي عليه الصلاة والسلام .شعرتُ باليتم ولزمتُ بيتي بالنهار ، وفي الليل أقضي الساعات بجوار غار حراء جالسا مُتَعَبِّداً .

ما زلتُ أذكرُ ( وكل شيء أمامي الآن، حيٌّ مشتعل) أني انتفضتُ فزال عني الغمُّ، بعدما عدتُ إلى نفسي، أن الله وحده الحي القيوم ، وأننا نواصل ثورتنا . آنذاك نويتُ ورحلتُ غازيا ومهاجرا حتى وصلتُ أقصى الغرب فطاب لي المقام .
***
خلال غمرة الإعداد للسفر في هذه الرحلة انشغلتُ بانخراطي ، معَ أصدقائي بكل ربوع البلاد في انتفاضة أطلقنا شرارتها الأولى في العشرين من فبراير دفاعا عن الثقافة المغربية من الأصنام والسدنة وأتباع مُسيلمة ..مما زاد من اجتماعاتنا واتصالاتنا لبلورة رؤية واضحة نواجه بها تلك الغمة التي بدأت تستأنس بواقعنا .

ورغم كل ذلك ،كنتُ أعود يوميا إلى جناح خاص بمكتبتي، به مؤلفات ونصوص في الرحلات، وضمنها توجد النصوص الحجية التي كتبها مغاربة وعرب على مر القرون، بالإضافة إلى مخطوطات حجازية مغربية غير مُحققة ، اخترتُ منها نصين، وقرأت الأجزاء الخاصة بوصف مكة والمدينة . الأولى للفقيه عبد الرحمن بن أبي القاسم الغنامي الشاوي( رحلة القاصدين ورغبة الزائرين) في القرن 17، والثانية لأحمد الصبيحي: الرحلة المكية في النصف الأول من القرن العشرين .
***
في يوم سفري ، وكان يوم ثلاثاء ، قضيتُ الصباح كله بالكلية ، بينما كان عليَّ اللقاء، في ما بين الزوال والعصر ، بصديقين لي لاستكمال بعض الترتيبات معهما .

الأول رجل أعمال جاء لي معه، من فرنسا، بوثائق غميسة حول الشاوية . التقيتُهُ بوسط المدينة في المقهى التي اعتدنا الجلوس فيها من حين لآخر .وبعد عشر دقائق رآنا أحد أصدقائه فالتحق بنا دون استئذان وشرع يحدثنا عن نفسه ومنجزاته حينما كان مسؤولا وطنيا هنا وهناك، ثم تحول مستعرضا علاقاته بالوزراء القدامى والجدد.
استشعرتُ أن شهيته للكلام تزداد توقدا ، فقطعتُ حبل الاستماع إليه ثم نهضتُ منسحبا ،معتذرا لصديقي بعدما أخذتُ منه الكتب وأنا أفكر في حياة هؤلاء الموصولة بعوالم رجالات الدولة ومشاغلهم ، مقابل حياتنا البسيطة التي نعيشها بدون روتوشات أو بذخ بل بدون وساطات أوأسماء تُرصعها الألقاب والنياشين ..ونحن أسعد دائما لأن سَنَدَنا هو الله فقط لا غيره .

واصلتُ سيري نحو صديقي يوسف بورة، وهو رئيس الجمعية البيضاوية للكتبيين وصاحب مكتبة لبيع الكتب المستعملة بسوق شعبي شهير بالدار البيضاء يسمى اقْريعة درب السلطان .جالسته للترتيب معه بخصوص معرض الكتاب بكازابلانكا والتزامات سابقة. كنت ُقد وجدته منتهيا من حالة تردد تنتابه ، استطاع إفراغها في خاطرة من خواطره الرقيقة ، دُوَّنها على ورقة واحدة .سلمها لي، وواصلنا حديثنا لساعة أو أقل، قبل أن أتوجه إلى البيت استعدادا للسفر .
كتبَ يوسف في ورقته ما رأيتُه نصا يستحق القراءة والتأمل :
"أشعر بخوف كبير .لا أدري .
هل هو إحساس بالرحيل .لكنني أريد من هذا الإحساس أن يُمهلني وقتا كافيا، ولو قليلا، لكي أتمم بعض الأفكار التي تتحرك في رأسي .إنها جد مهمة .لا أريدها أن ترحل برحيلي .
لماذا الحياة قاسية بهذا الشكل ؟ هل المادة هي التي تتحكم فينا ؟ أم العلم أم أشياء أخرى نجهلها؟
ربما سأُجَنُّ .أريدُ جوابا شافيا لكل ما يدور برأسي .هل سأستمر معهم في اللعبة أم أُغير مسار حياتي ؟
أتمنى أن أفقد ذاكرتي وأعود إنسانا آخر لا يهتم بالمبادئ والأخلاق .إنسان يكون هَمُّهُ الوحيد جمع المال والعقارات ولو على حساب الطبقة الكادحة ..أما العلم فليذهب إلى الجحيم !!."

• ابتهالات شافية
بالرياض ،استقر رِحالي صبيحة يوم الأربعاء بفندق ماريوت ، الغرفة 549 .ثم انتقلنا بعد الزوال إلى قرية الجنادرية ، هناكَ استمتعنا جميعا، وإلى غاية الساعة الواحدة صباحا، بحفل فني رفيع المستوى ، شارك فيه خمسة من كبار الفنانين السعوديين : محمد عبده وعبد المجيد عبد الله وراشد الماجد وعباس إبراهيم وماجد المهندس بالإضافة إلى يارا وفدوى المالكي والطفل خالد الجيلاني .
اوبيريت الجنادرية ( وحدة وطن)بموسيقى ملحمية ، أخذتنا بقوتها وسحرها ..فرسان يفتحون المكان ويخترقون الزمان ، يقودهم بطل مؤمن بالله والرسول والصحراء.

وأنا أتابع هذا المشهد الأخَّاذ، التحمتْ روحي بالحدث فصرتُ أسمع وقع سنابك الخيول وحركاتها الواثقة .وسَقَطَ في قلبي سؤال رحيم عما يمكن أن يكون قد وقع في نفس اليوم قبل ألف وأربعمائة سنة خلت وربما قبلها بسنوات ؟

هممتُ بالقيام كأني أريد الدنو مما أرى ، فرفع أكثر من واحد ممن كانوا على يميني وشمالي أبصارهم الشاخصة ..ثم انتبهتُ وقد استبدَّ بي الوجد والحال فتسربت مني الكلمات التالية وأنا أتهالك على مقعدي مرة أخرى :
- أريد أن أكون معهم الآن !!

لم يفهموا قصدي البعيد .هل عنيتُ أني أبغي الدخول في الصحراء على فرس بربرية فاردًا جناحي ببُرنسي الأبيض المنطلق..أم ماذا؟
***

حينما ولجتُ غرفتي بالماريوت، وسط سكون صحراوي بليغ، لم أكن أسمع إلا لدقات قلبي ولم أدر كيفَ ولماذا طلعت مني كلمات ندِيَّة من ابتهالات كلام شعبي غيواني ، تستفتحه موسيقى صحراوية موغلة في استعاراتها اللاهبة :

يا ذا الرِّيْم منها مَوْلـُـوعْ مَرْحَبْتِي به إلى جَانِـــــي
ولا زلتِ منها ملســــوع ولوْ عَ الحبلْ مَشَّانـِــــي
أدَنْ أدَنْ أدَنْ
غيرْ خُذُونِي ... لله غير خُذُونِي
روحي نْهِيبْ لَفـْدَاكم غير خُذُونِي
مَعْدُوم وُلـْفـِــي . . . لله دلُّونــــــــــــي
ما صابرعَ اللِّي مْشَاوْ . . . أنا ما صابر
صفايح فِ يِدِّينْ حدَّادْ أنا ما صابـــــــــــر
قلبي جا بين يِدِّينْ حدَّادْ.. حداد ما يْحنْ ما يشفق عليه
ينزل الضَّربة عَ الضَّربة وإلى بْرَدْ زاد النار عليــــــه.

أرتاحُ للموسيقى..لأن وجداني له مزاج خاص يُحب الابتهالات هنا بكلمات تجد أجوبتها في ما أنا فيه .
ما زلتُ مرتميا في فراشي بملابسي والساعة تشير إلى الثانية صباحا .قمتُ مُطلا من النافذة على السماء باحثا عن نفسي في كل مراحلها منشغلا بالآتي ،وعما لم أستطع استيعابه في حياتي .. الأشياء التي لم أكتب عنها أو ما زالت نطفة في كبدي.
- هل أنا ابن الأرض أم السماء ؟
عدتُ بعدما استحممتُ وجلستُ على المكتب الوحيد بالغرفة أمام أوراقي البيضاء متفكرا في ما وقع لامرئ القيس لاستدراج النوم والتغلب على فارق الساعات الثلاث الغريبة عني .
***
لم نجد أحدا يكتب عن تفاصيل رحلة ذي القروح الطويلة ، والتي استغرقت الجزء الأخير من حياته ، خصوصا حينما كان عند الحارث بن شمر الغساني بالشام ، قادما من حصن السموأل.
ألم يسحره المكان وقد وصله في دسمبر وسط دفء الأمطار وتباشير أرض زاهية بالحياة .والتقى هناك على ربوات الرقة جوار نهر جار ، حبيبته سُلافة والتي غذت روحه "برحيق مفلفل".
جلسَتْ قُبالتهُ وهو يتفاوض مع زعماء وثوار القبائل العربية خلال أربع ليال، لإقناعهم بعدالة قضيته وحقه التاريخي ، وكانوا جميعهم يعتقدون أن الأمر كله يتعلق بدم أبيه ، في حين كان امرؤ القيس يعني حبَّ سُلافة ، وهو الذي قال :
تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا
مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ
إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً
إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ
تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا
ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ.

الثالثة والربع صباحا ، قمتُ من مكاني وقد شعرتُ باحمرار وجه سلافة ، وهي تعود إلى خيالي بعدما انفض جمع الثوار وبقيتُ أراقب امرأ القيس وهو يُحدثها عن الحب والأسى وما تُخبئه الأقدار التي تسير بما لا تشتهي النفس.
قالت له ( وكنتُ ممددا على فراشي على أهبة الانتقال إلى ملكوت النوم ، مخيلتي ما زالت مفتوحة ، منتشية باستمرار الحكاية )
- (قالت سُلافة ): أنا لا أُعوِّلُ كثيراً على الجانب الإعصاريّ في تأثيري عليك أيها الملك الشاعر ، يهزّ، ويخطف ثمّ يتلاشى، بعد أن يدمّر الأرض وما عليها...! إيماني أكبر بآليّة عمل السيل، يمتدّ، ويستمرّ، وقد يغرق، لكن ما أن تنحسر حركاته الطلائعيّة حتّى تخضرّ الأرض، وتصحّ الحياة!
فانظر أيّهما أبقى، لأظلّ أنعم بمشاعرك النبيلة والمحبّبة.
- (قال لها بعد لحظات مديدة ): أنتِ يا سُلافتي شمس مثل بهجة تُحررُ روحي .كنتُ – من قبل - لا أخشى الموتَ أبدا وهو يتجنبني وأنا أبحثُ عنه في كل مكان .
الآن، لا أريد أن أموت دون أن ترتوي مشاعري الشاهقة بالأنين .
روحي التي تعلو وتعلو وأنا أعلو معها. وأطمع في معجزة من ربي ليشاركني بوحْي منه حتى أُعَبِّرَ عما يُلهب في دواخلي بقول مُعجز منه صادق عفوي نافذ .
قول تسري فيه حرارة تجعلني أتمنى لو كانت لي يد روحانية لمددتُها إليك أينما كنتِ ...
يد ...تتلمس وجهك[أولا]( والذي كلما تذكرته أفتح قلبي وأبادله النظر) بيدي التي هي روحي فأرتعش ارتعاشة الثمل وأشعر بسخونة حارة كما أشعر بها الآن وأنتِ أمامي.ثم أرمي بيدي نفسها، وبنفس مشاعرها الشاهقة وسخونتها التي لا تحتمل استعاراتي فأنزل قليلا كما لو أنها تصلي.
هل تعرفين أن نقطة ضعفي هي العنب والعسل والرمان.وكلما رأيته أو تلمسته أرتعش رعشة الأنبياء فتسري في كل جسمي نار تتقد وتغلي .
سُلافة، مزنة ،ليلاي، تالة ،نشوة، رامة ،فاطم ..بماذا أناديك؟
لو تعانقيني الآن حتى أذوب فيك ؟
لو تمنحيني الشجرة التي أعادت إلينا جدَّنا ؟...لو !
سأسافر يوم الثلاثاء إلى ملك الروم بالقسطنطينية، وعهدي لك ، وأنا الغريب الوحيد، أن تذكريني كل يوم كلما تأهبت الشمس للغروب .

• أنا وثابت بن أوس العدواني
في اليوم الثاني من وصولي ، وفي البهو العام للفندق ، أثار انتباهي شخص غريب ونزق من ضمن المدعوين ، في حوالي السبعين من عمره ، تَصدرُ عنه أفعال تهور ، يُدعى موسى النمَّاسْ.
اقتربتُ منه وهو يتكلم عن نفسه بدون رابط، مما أغراني بالاقتراب منه وقد حدستُ أن"شخصيته" قد تفيدني بشيء ما !
جاء للمشاركة باعتباره ، كما صرح لي ، مهتم بالتراث الشعبي ، فقد سبق أن كان فنانا شعبيا ينشد الأغاني البدوية بالأرياف وبجوار الأضرحة والأولياء قبل أن يعتزل ويهتم بتجارته .
ازدادت شكوكي حوله وبدا لي أن به حُمقا مُترسِّخًا حينما كان يتكلم مُتهورا ومدعيا مما يفضح جهله وخواءه .

ومما قاله لي مثلا ،موسى هذا ، بأن سلطان بلاده تحدث مع سلطان الحجاز كي يكون حاضرا ممثلا لبلده خير تمثيل.
كنتُ كلما حاورته واستمعتُ إلى أكاذيبه المفضوحة ازددتُ اقتناعا بأنه شخص جاء عن طريق الخطأ.
***
استمرت أشغال المهرجان بشكل متنوع ومتكامل في ندوات فكرية وأنشطة موازية تعكس روح الحياة بتنظيم مُحْكم ودقيق، يشعر معه الضيوف بالأمان والراحة من طرف لجنة تنظيمية علمية تسهر على تلبية طلباتهم ، الصغيرة أو الكبيرة ، بدءا من الأستاذ الفاضل حسن بن عبد الله آل خليل والأديب فالح العنزي والروائي الصديق الدكتور سلطان سعد القحطاني ، وبرفقتهم فريق كامل يعمل مثل خلية نحل لا تتعب ولاتكل .

في السابعة مساء، وبدعوة كريمة ،انتقلت مع صديقي ثابت بن أوس العدواني( وهو نفسه من كان بجواري في الشام حينما رافقنا امرئ القيس نفاوضه نثريا في شعرية ثورته) وكان معنا أحمد المصري للترويح عن النفس في المكان الذي جلس فيه امرؤ القيس في نفس يومنا من سنة 561ميلادية، عشر سنوات قبل ميلاد صاحبي.

لم أستوعب حقيقة الأمر .هل فعلا هو المكان نفسه أم ظله في هذا الليل الرائق والمتمايل في غنج فاضح كأنه ما زال يردد ما قاله هنا وهناك عن لياليه الطويلة ، والتي كان الصمتُ يلُفُّها من عَجَبٍ حتى يتكلم المرقسي ويُدندن.

جلسنا نحن الثلاثة ، قبل أن يلتحق بنا صديق ثالث . وفي جلوسي سعيتُ إلى استجماع مشاعري وأنا أراها وهي تتشتتُ هنا ، وقد ضاع منها ما ضاع وتبخر الباقي، لاحقا، وسط غيم مرَّ في موعده بحسبان .مرَّ مرور مُزنة خالدة عَبَرت المحيط ثم الجزيرة والشام وهامت في ملكوت الله تسبح وتنتشي .

انغمسنا في أحاديثنا ، ومن حين لآخر كنا نمد أيادينا البيضاء إلى أطباق من التوت والعنب، نُغَمسُها في عسل نعيم .

لكن المشهد ، نفسه، الراسخ في أكبادي ومشاعري،يُفاجئني ويحضر أمامي ..فأرى امرئ القيس بوجهه المشع نورا وعينين أرخاهما الوجد والتذكر وامتداد الأرق في قلبه .
توقف يتأملني حتى خِلتُنِي نقطة يعبر منها إلى عوالمه الأخرى ؛ بنظرة تستطيع القفز فوق الليل والصحراء والموت .ثم قال لي قبل أن يمضي ويتركني :

فقلتُ له لا تبك عينك إنما *** نحاول ملكا أو نموتُ فنعذرا
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها *** ولا بن جريح في قرى حمص أنكرا

قبل أن يمضي ويتركني أرفع رأسي إلى السماء ، أقفزُ من نجمة لأخرى باحثا عن الكلام الذي سمعناه والتقطته الزَّفَّانات لتدوينه على غيوم صديقة .

هزَّتْتي حرارة القول فرأيتُ ثابت بن أوس العدواني صاحبي يخاطبه:
- لا تلبس لباسهم وابقَ حُرا لا تطلب المدد إلا من ربي الواحد .
عاد الشوق يهزني هزا ، فتناهى إلى سمعي صوتُ قديم لزفّانات زفَّت إليَّ من أناشيد الثوار ما يلي :
أنا مَا نْسِيتْ "السيف" / أنا مَا نْسِيتْ الكصبة
أنا مَا نْسِيتْ الكور / ولا مَجْمَعْ الطلبة
أنا مَا نْسِيتْ دوّاري/ يا بلاد الكَصْبَه
أنا مَا نْسِيتْ لعْشيرة/ ولا قمْحْ الرَّحْبَه
أنا مَا نْسِيتْ حياتي/ يا ناس المْحَبَّه
ما هَمْني ولا رَشّاني غير فراق الصحبه ؛لا ما ، لا تربة ،لا صابه لا غمره.
شمسنا ضوها جمرة ، لا نجوم لا كمرة ..ويا ليعتْ القُدرة .]

***
كان الغلام ازْبير (الهندي) يخدمنا، في كل حين يأتينا بأطباق التوت والعنب ،وإلى جوارنا نار تُدفئُ وحدتنا رفقة ذي القروح ونحن جلوس قرب بحيرة ماء ، نفترش الأرض في فضاء صحراوي واسع تحول إلى واحة ممتعة ، تُحيط بنا بيوتات من وبر أبيض يجلس بداخلها فقراء وفقهاء وأولياء وشعراء يعبدون بدون حساب .
وأنا من أكون هنا ، وسط سؤال يؤرقني ، أقَلبُه على كل الجهات دون الظَّفَرِ إلا بحياة جديدة ، أشدُّ غرابة من الأولى .
الساعة الثانية صباحا .ودعتهم وعدتُ إلى خلوتي قاصدا خيالي لمواصلة رحلتي مع أصدقائي الآخرين الأشد ، بدورهم،نورا وإدراكا .
بل نسيتُ، فمن قبل كل هذا ، كُنَّا جالسين قُربَ بحيرة الرمال بالحجر، أنا وثابت بن أوس العدواني وأحمد، نتأملُ الليل حولنا تتلاطم صفحاته البيضاء مذعورة مما سيُكتب عليها .وفجأة يلتحق بنا ابن آكلُ المرار ، امرؤ القيس، وكنا نناديه المُرقسي، وحيدا وسعيدا يحمل معه زاده .ربطَ فرسه على جدع نخلة غير بعيدة عنا ..ثم أخذ مكانه بيننا ، قبل أن يلتفتَ نحو ضوء بعيد ومتراقص .هناك لاحت امرأة بخمار قرنفلي ، فخاطبها بصوته المشبع برقة الشعراء الرخيمة:
أفاطِـم مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ
وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي
أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي
وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ
وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ
فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ
وَمَا ذَرَفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي
بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ.
استمرَّ معنا يلعب النرد ويشربُ حليب النوق المخلوط بالعسل ، قدَّمه لنا الغلام ازْبير، وقد عجبتُ وأنا أرى بعيدا، كيف أمكن للنمامين الافتراء عليه ، خصوصا حينما فاجأنا شيخ وقف أمامنا حاملا لأمر جلل ، فأخبر امرئ القيس بأن بني أسد قد قتلت والده الملك.
رفعَ رأسه نحو مُخبره، وقد جحظت عيناه واحمرَّتا.فأعاد الشيخ تأكيد كلامه ثم انصرف دون أن يسمع منه شيئا .
انهار الشاعر مثل طفل شعر باليتم التام وبكى طويلا ونحن في قنت صامتين ..والرياح تطوف بنا فتزندُ جمرنا وليلنا .
قال بعد ساعة أو أكثر : رحم الله أبي ، ضيعني صغيرا وحمَّلني دمه كبيرا .اليوم جمرٌ وغدا أمر.( لم أعرف لماذا حرَّفَ الرواة حرف الجيم واستبدلوه بحرف الخاء ).
قبل أن يأتيه نبأ الغذر بوالده ، كان امرؤ القيس ،كما عرفناه، رجلا طهرانيا وشاعرا لا يعجز أبدا عن تحويل أي كلام إلى شعر ساحر .لكنه لما بلغه الخبر صار شخصا آخر تجري في عروقه دماء ساخنة للثأر والحروب ، فرحلنا معه لسنوات نبحثُ عن جيش نحارب به ونقفز فوق الموت .
• تاسع عشر مارس
قُمتُ في الساعة الثامنة إلا ربعا .نزلتُ إلى المطعم بعدما اغتسلتُ،ثم في بهو الفندق شرعتُ أتصفحُ جرائد الصباح .
بعد ساعة التحق بي السيد موسى ،وبدون تمهيدات شرعَ يُمطرني بأكاذيب جديدة مفتعلا أنه يُكلمُ ،بهاتفه، أميرا أو يتحدث إلى مسؤول كبير بعاصمة بلاده .ثم عاد إلى أحاديث فقيرة تعكس وعيه المحروم ..وأنا أنظر إلى أفاعيله مما دفع به إلى الاقتراب مني وهو يُكلمني بصوت خفيض:

- هل أنت نظيف وفي حالك؟
- لم أفهم ياموسى ما تعنيه؟
- وتقول أنك مثقف وكاتب ...أعني أنه لا دخل لك في أمور السياسة في بلدك؟
- ( أكدتُ له بكلامي وكل حركات رأسي ) أنا يا موسى ، في بلدي من الدار إلى العمل ومن العمل إلى الدار.
افتعل بدوره انه صدقني ، ثم قال لي ما كان يهيء له:
- سأكلم لك مسؤولا كبيرا جدا ببلدك يجعل منك شخصية مهمة ، ولا أريد منك سوى الدعاء .
الغريب في موسى ،هذا، ان مواهبه متعددة ، فكلما أنهى كلامه "المؤثر" دمعت عيناه وارتمى يعانقني .وليست المرة الأولى التي يفكر فيها بالبكاء بعد أحاديثه ، فيلجأُ إلى تحريك وجنتيه وعينيه لتسقط الدموع مِدرارة وجافة.

عدتُ أسأله بصيغ متعددة حول سبب قدومه إلى المهرجان وهو لم يُفارقَ أبدا بهو الفندق ، ولم يحضر أي لقاء من الأنشطة الكثيرة ، فانطلق يحكي لي كلاما كثيرا ، جلُّه افتراء ، ومن خلال هذا السيل من الكذب استطعتُ القبض على خيط دفعني إلى البحث في اللائحة الكاملة للمدعوين لأكتشف أن اسمه غير موجود ، في حين عثرتُ على اسم آخر لمثقف من نفس بلده يشترك معه في اللقب العائلي فقط.
كل القرائن تدل انه انتحل صفة شخص آخر، أعرفه أيضا، وهو مثقف مغمور له جمعية تهتم بالتراث الشعبي .
***
انتقلنا إلى الغداء بقرية الجنادرية في جو صحراوي عرف عواصف رملية ،عمت أرجاء كل البلاد ، ولما عدنا بعد العصر توجهتُ إلى رحلة في تاريخ الجزيرة بمركز الملك عبد العزيز ، حيث زرتُ محطتين من فضاء واسع ومتعدد: قصر المربع والمتحف الوطني الذي صُمم بطريقة حديثة ومتطورة وبتنسيق جمالي رفيع يروي تاريخ المنطقة منذ ما قبل الإسلام حتى الآن .وقد أخذتني البهجة وأنا أطوف لساعتين كاملتين كما لو أنني طفت لأزيد من ألفي سنة .
رجعتُ إلى الماريوت بعدما هبط الظلام ، حيث زارني صديقي الباحث محمد بن سعود الحمد وهو أديب يقتفي آثار العلماء ويجتهدُ في عمله.فقد عرفته منذ سنوات بحاثةً يزور البلدان العربية لأزيد من عشر سنوات منقبا عن معلومات متفرقة في مراجع ومصادر أشبه بالتنقيب عن كنوز شديدة الغور ..حتى أتم مؤلفه الهام ( موسوعة الرحلات العربية والمعربة .المخطوطة والمطبوعة: معجم ببليوجرافي ) ومازال مستمرا في عمله مواصلا لفتوحاته العلمية والأدبية ؛ وقد أخبرني أنه بصدد إصدار مؤلف جديد يستكمل الكتاب الأول .
لبيتُ دعوته الكريمة إلى عشاء بمطعم جميل قضينا فيه صُحبه بعض الأصدقاء الأجلاء أزيد من ثلاث ساعات ، سعدتُ فيها بالتعرف إليهم وإلى اهتماماتهم في الأدب والتاريخ والأنساب .

• في ضيافة الملك
تابعتُ ندوة أخرى يومه السبت ، قبل أن ننتقل إلى قصر الملك ، خادم الحرمين الشريفين ، بدعوة كريمة منه للغداء ، في قصر مهيب .فسلم علينا واحدا واحدا ثم دعانا مُرحبا إلى مائدته العامرة والسخية بكافة أنواع المأكولات والفواكه .
قصر مهيب في مدينة فارعة ، كبيرة وعصرية ، تُشْرِحُ النفس كأنها روضة منبسطة وقد قامت على أنقاض وبقايا مدينة حجر اليمامة التاريخية ،والتي يعود تاريخها إلى زمن قبيلتي طسم وجديس .بناها واستوطنها بنو حنيفة كما يروي ياقوت الحموي ذلك ، مثلما أن ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي يورد حكاية لقائه بأمير حجر، ويُسمى طُفيل بن غانم، والذي رافقه في الرحلة إلى مكة آنذاك .
***
تواصلت الندوات بوم الأحد مع دخول فصل الربيع ،على مستوى عال من الفكر والنقاش، وفي الساعة العاشرة صباحا انتقلتُ وصديقي العُماني د/ محمد المحروقي إلى جامعة الملك سعود حيث ألقيتُ محاضرة بقسم اللغة العربية وآدابها بعنوان (التمثيل والتخييل في الأجناس السردية العربية الصغرى) أمام أساتذة القسم ، وعلى بُعد عشرات الكلمترات وبتقنية عالة جدا في توصيل الصوت يوجد قسم الطالبات رفقة أستاذاتهن للاستماع والحوار نظرا لمنع الاختلاط. وتعتبر جامعة الملك سعود إحدى أهم المعالم العلمية في الوطن العربي وربما تفوق العديد من الدول الأوربية ..

ثلة من الأساتذة الباحثين بجامعة الملك سعود بالرياض ، من خيرة العلماء والأدباء الذين يحملون مشعل النقد الأدبي يؤسسون لتقاليد علمية رصينة ستُظهر آثارها في مستقبل الأيام .
جامعة تتكامل فيها كل الشروط العلمية العالمية ، بحيث إن كل باحث جاد أو عالم مقتدر إلا ويتمنى قضاء ردح من عمره العلمي بين أساتذتها وباحثيها .
ويوجد بهذه المنارة العلمية صديقي الناقد د/ مُعجب العدواني ود/ أحمد صبرة كما تعرفتُ إلى أصدقاء جدد منهم د/ صالح ود/ زياد وآخرين .

***
عدتُ إلى الماريوت .تناولتُ وجبة الغداء رفقة أصدقائي وقد صرت متبرما من موسى النمَّاسْ الذي تحول إلى شخصية مزعجة ومشبوهة ، فكرتُ لو كانت شخصية في إحدى رواياتي لتجرأتُ وقدمتها للمحاكمة بتهمة النصب والكذب والإدعاء .

عدتُ بسرعة إلى خلوتي في قيلولة متأخرة ولما استفقتُ هبطتُ لمتابعة المناقشات الفكرية المتواصلة إلى غاية الثامنة لحظة جاء صديقي ثابت بن أوس العدواني وأخذني إلى خلوة امرئ القيس بالرمال .في جو ليلي بارد دخلنا الخيمة السابعة .هناك تمددنا نتسامر بالحديث الطيب ونأكل التوت والعنب مُغَمَّسًا في عسل حريف ، قبل أن يلتحق بنا كل من أحمد المصري وصديق ثالث ..وبقينا مواصلين سهرتنا والغلام ازْبير يخدمنا إلى أن أتانا بعشائنا ساخنا ولذيذا .

رويتُ لهم حكاية موسى النماس الذي خدع دولتين بنصبة سريعة ، فضحكنا وبصري من حين لآخر يُراقب الباب في انتظار مرور طرفة بن العبد من هنا ..وكنت متأكدا من عبوره نحو حتفه.
تخيَّلتُ أن أكتب إليه رسالة مني يحملها إلى المغرب الأقصى بافريقيا بدل البحرين ..ثم رأيتهما ،هو والمتلمس، يقفان بجوار تلك البحيرة المقابلة لنا وكل واحد منهما يحمل كتابه بيمينه . شاب أسمر اللون في العشرين من عمره كما أقدر ، هو طرفة وإلى جواره المتلمس ،شيخ شايْبْ ومهْلُوبْ.نادى المتلمس على الغلام ازبير وهو خارج من خيمتنا القريبة منهما،( وأنا أتابع كل شيء كما لو كنتُ واحدا منهما أو هما معا ) حتى إني تململتُ من مكاني هَامًّا بالقيام فسقطت بعدما خانت الركب حاملها لأقول له إن لي حقوقا في معلقته وإني مسافر يوم الثلاثاء إلى مكة وسأعلقها على أستار الكعبة . كنت أريد قول كل ذلك وارتخيت أحرك المشهد المتسمر أمامي خارج الخيمة ببضعة أمتار .
قال المتلمس للغلام (ازْبير) أن يقرأ له الرسالة، فقال له هذا الأخير إنها تحمل أمرا بقتلك على عجل ( وكنت أعرف حق المعرفة أن ازبير لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولكنه تنبأ وتوهم وقال ما قال لتكون الحكاية أمامي كلها لصالحي ).خرّقَ المتلمس الرسالة ورماها في البحيرة وهو يتطلع إليها والتيار يجول بها في كل جدول .ولما رفض طرفة تقطيع صحيفته، دعوته أن يستبدلها بصحيفة كتبتُها له ويحملها إلى حبيبته مُزنة الشامية ذات الملامح الأندلسية ، ملكة الشمال الأشهل ، عوض عامل الملك على الحيرة .
جاء في الصحيفة البديلة ما يلي :
"هل يستطيع النهر تغيير مجراه حتى أُغير قدري عن الموت المحتوم؟لم يفكر أحدٌ ، من قبلُ ، كيف تشكلت تلك العلاقة أول مرة بين الماء والمجرى ..وليس بين النهر والنهاية .
ليس عبورا أو انفلاتا وجدانيا ، بل دهشة ربانية .

[الـنــهــر ظـمــــــــــــــــــآن لثــغـرك الـــعـــــــــــــــــذب
قل لي إلى أين المســـــــــــــير في ظلمة الدرب العســـــــــير
طالـت لياليـــه بنـــــــــــــــا والعمر لو تدري قصيـــــــــــر ]

أنا شاعر أحلمُ بحرث الأرض وبذرها بالكلمات.ولما أموت أحب أن أكون بذرة أخرى في بطن الأرض الرحيم ، قصيدة دالية تتدلى منها أيامي العذبة .

التاريخ الذي يضرب في الجذور ، ليس عابرا لأني حينما أفكر فيك أشعر بالفرح (شعورا ومذاقا) في كل مكان لا يهمُّني والدك ابن الرقاني أو المتلمس خالي .أنتِ من يترك حرارة في اللسان وعذوبة في الكلام .
الشمس التي تطلع يوميا منذ أن رفع آدم نظراته الطاهرة بحثا عن نصفه الأزلي وسط زمان ومكان لا محدود ...ليس عابرا .
المطر الذي يهبط منذ بدء العالم ويضرب الأرض حبا وغزلا ليس عابرا .
كذلك أنتِ التي أوجدها الله في هذا الزمان لاختبار الوجدان ..لستِ عابرة أبدا .

[أخـــاف أن أمـشـــــــــــــي فــي غربتـــي وحــــــــــــدي
آه مـــن الأيـــــــــــــــام
آه لم تـعط من يهوى منــــــــــــاه
ما لي أحــــــــــــــس أنني روح غريب فــي الحيـــــــــــــــــــــــــاة
أخـــاف أن أمـشـــــــــــــي فــي غربتـــي وحــــــــــــدي]

***
أتمنى لو ينامُ العالم لجزء من الثانية ، توازي رمشة عين بها كحلٌ وبراءة الشفق ، وحينما تنقضي تلك المدة الزمنية التي هي ذرة لامرئية ، يكون ربيَّ اللهُ قد عدَّل في الزمان بقدرته، وهو القادر المانح العزيز المدرك والمستجيب ، بعد رمشة العين تلك، سنجد أنفسينا – أنا وأنتِ – وقد صرنا مثل سفينة عائمة ..
ألا يا ثاني الظبــي * * الذي يبرُقُ شنفاهُ
ولَولا الملكُ القاعد * * قد ألثَمَني فـــــاهُ.

***
حينما التفتتُ إلى صديقي ثابت بن أوس العدواني وجدته منهمكا في قراءة رقعة جلد قديم، له لون مثل لون جلدي ، كُـتِب عليه الجزء الضائع من رحلتنا إلى الشام وقصائد مجهولة لطرفة بن العبد .
قال لي :
- لقد ضللنا أعمارنا وراء الملك الضليل ، ثم عُدنا نرافقُ طرفة في رحلته الأخيرة ؟
قلتُ له :
-بل لبسنا جبة امرئ القيس التي هي علينا حتى الآن .وركبنا فرس طرفة للقفز فوق ظل الزمن.
• أنا والفجر ونوار اللوز

وصلتُ مكَّةَ قبل الفجر بوقت معلوم عبر رحلة مِعراجية من الرياض إلى جدة، ثم برا في حوالي ساعة وقليل إلى مكة .وكان الظلام مرفوعا غير عاقل .رتبتُ بسرعة حقيبتي في فندق قريب من الحرم ثم خرجتُ في إحرامي حافيا عاري الرأس كأني ذاهب إلى نبع حياتي لتفقُّد دهشاتي الأولي ودفاتري التي دوَّنَ فيها ملاكي ، بإذن ربي مالك الروح ، كل آثامي وخطايايَ الخفيفة منها والثقيلة .
دخلتُ دربا سرتُ فيه وحدي ، متعجلا بمهل.عقلي يتأمل وأنا أمشي على خطوات الأنبياء منذ سيدنا إبراهيم الذي مرَّ شامخا ووحيدا قبل أن يملأ العالم بذريته الصالحة ..

من هنا كان محمد (ص) يُجالس أصحابه ورآني منذ ذلك التاريخ في هذا المكان .

أتقدم مثلما تتقدم الأمطار من السماء نحو الأرض ..المطر هو الأشد عطشا للاندساس والذوبان في التراب .

بيني وبين باب الملك عبد العزيز خطوات فقط .استبدَّ بي شوق الأطفال لأثداء أمهاتهم ...للحليب الساخن ..لحبات الرمان بلذة البراءة ، بمذاق القرنفل وورق البسباس البري وصوت الوحيش المختلي منذ زمان ، بحنين الشفق الشفيق إلى مخابئه السرية .

هكذا كان إحساسي ، سخونة في هويتي تجتاح كل جسمي ، فلم أعد أتحكم فيه ؛ فقط خطواتي تقودني وأنا لا أبصر سوايَ في خط مستقيم أهش على روحي التي تسبقني ثم تلتفتُ نحوي تستعجلني ..
تستعجلني أن أفتح قلبي وقد صرتُ على درج الباب أرى الكعبة شامخة فترتعد فرائصي ويملأ الدمع عينيَّ والعرق يتصبب مني مدرارا وقد فاضت دموع العين مني صبابة حتى بلَّ دمعي روحي .
اندفعتُ بعدما جدّدتُ النية في الاعتمار ،ودخلت وسط جموع أحباب الله والرسول من كل الجنسيات ، أطوف طواف العبد المستغفر .أطوف كأنني في أول حياتي خلف سيدنا إبراهيم نرسم الخطوات التوحيدية الأولى لعقيدتنا .

كأنني في أول حياتي خلف سيدنا محمد في وداعه لنا.. أردد ما يردده وأتمنى ما يتمناه.

سبع دورات كنتُ فيها ملفوفا بسبع لفَّاتٍ ثقيلات بالآثام والذنوب وفي كل طوفة أستغفر ربي وأدعوه أن يغفر لي سهوي وانشغالي عن حقوقه كما يغفر لي سوء تقديراتي وشططي عن قصد أو غيره .

في كل طوفاتي السبع حضرتني سبعة واجبات بترتيب عفوي بدءا بحقوق ربي عليَّ، وحقوق والديّ ثم أبنائي ، يليهم أساتذتي الذين علموني وأخرجوني من الجهل إلى النور ومكنوني من تعبيراتي وربُّوني على القيم وعزة النفس .وكذلك حقوق وطني بدءا من القبيلة إلى المجتمع، وأخيرا استغفرتُ ربي مما اقترفتُ في حق أصدقائي وحق كل الذين أعرفهم أو لا أعرفهم .
أحسستُ وأنا أُنهي دوراتي كمن دخلت في البدء وعلى كتفي جبالا رواسي، وخرجت رشيقا ..كمن صرت شجرة لوز في جبل عال بنوار أبيض أو غيمة حرة تحملُ روحها وتسبحُ في كون الله.

اقتربتُ من الكعبة ، تلمستُها وقبلتُها في المكان الذي تلمَّسَها وقبَّلَهَا صاحبي ، ولم أشأ أن أخبر أحدا أنني شعرتُ خلال طوافي بارتفاعي عن الأرض مثل نبي يأخذه الله إلى جواره أو كنوَّار أبيض مشبع بعسل .لم أصدق ما أنا فيه ، لذلك كنتُ منقطعا عن كل ما هو زائل ومتصلا بما عرفَته روحي من مكمنها وكأن أياد أبوية لا مرئية تشدُّني وتحملني من إبطي .

ثم أعلنَ المؤذن قيام صلاة الفجر المكي لكل العالمين فأقمنا راكعين ساجدين خاشعين بشموخ لا محدود للرب الواحد الأوحد ، وسط غبش الفجر المتسلل من جبال وشعاب كل الجزيرة. وبعد انتهائنا من الصلاة أتممتُ السعي وباقي الفروض .

كنتُ في حالة انتشاء مُفرطة .ذهني خال من كل ما أفسدته الأيام ...فقط أفكر في ما كان يفكر فيه سيدنا إبراهيم لحظة انتهى وطاف وفي كل ما كان يفكر فيه سيدنا محمد يوم هبوطه من غار حراء .بل راقني رؤية أن طوافي في تلك اللحظات الجليلة قبل انبلاج أولى نوَّارات الفجر الأبيض قد أشعرني أن من كانوا حولي هم أصحابي على مر العصور ..وجميعا كنا خلف صاحبي.
***
أحس بدبيب قوي يضخُّ الحياة في ذاكرتي ، فأشعر، ولأول مرة، أنها بثلاث طبقات تَسَعُ أرشيفا بألوان مختلفة ، جزء مُغلق يثوي أزمان وحيوات سلالاتي ؛ وجزء ثان به حياتي مذ ولدتُ حتى اللحظة التي أنا فيها ؛ أما الجزء الأخير المثير فهو الذي يختزنُ ما سيأتي من أزماني ، وأنا هنا ، في هذا المكان الذي اختاره الله لانطلاق النور والحياة.


أنهيتُ عُمرتي ، وعدتُ إلى غرفتي .استحممتُ وتناولتُ فطورا خفيفا من حليب بارد وتمر وخبز شعير لأرجع إلى حالات الذهول؛ أرى ببصري في مشهد لا يقبض عليه بالكلام ، كل الأزمان التي سبقت هذه اللحظة .

وأنا أغادر مكة في اتجاه مدينة جدة للعودة إلى المغرب ، كانت السعادة تغمرني بالكامل ، وفي العمق البعيد هناك حزن صغير يقبع بدواخلي، لكوني لم أستطع إقناع اللجنة التنظيمية بتدبير إضافة ثلاثة أيام أخرى أطوف فيها دروب مكة وكل الأماكن التاريخية والدينية وأزور المدينة المنورة .
لكنني كنتُ أعود لأعزي النفس بأن الفرصة ستأتي مرة أخرى وربما بشكل أحسن بكثير .
***
قال لي : يا شعيب يا ابن محمد ، عليك بالدقة والوضوح فأنتَ في أرض الحقيقة والأحرار لا تحتاج إلى الاحتمال .
قلتُ له: أنا في حاجة إلى غار تستريح فيه روحي .أمكث به ساعة أو دهرا كاملا أناجي ربي، أبوح له بذنوبي ..أنا العبدُ الخطَّاءُ في حق نفسي وأرضي وهويتي .
أريدُ أن أكون في غاري عابدا مُطْلقا ، أُدَوِّنَ حياة أمتي وأحلامها متأملا في من نكون ..هل نحن نور الأنبياء أم رمادهم الساخن أم صوتهم الساكن في أكباد الأزل ؟
لَوْ تَمْنَحُنِي ، رَبِّي، فُرْصَةً أُخْرى ،وَأَنْتَ المَانِحُ بِلا حِسَابٍ ،لَطَلَبْتُ أَنْ أَحْيَا وَأَمُوتُ كَمَا كُنْتُ دَائِمًا فِي حياتي خلال كُلِّ العُصُورِ وَالأَزْمَانِ .

chouaibhalifi@yahoo.fr




ليست هناك تعليقات: