الأحد، أبريل 26، 2009

هل هو حلم؟

نبيل عودة

عام 1990 دعيت من قبل الجمعية الروسية الفلسطينية لزيارة الاتحاد السوفياتي سابقا. وفعلا لبيت الدعوة وسافرت الى هناك وحللت ضيفا على الجمعية في مدينتين لهما تاريخ عظيم واثر كبير هما: موسكو ولينغراد. اولا حللت ضيفا على الجمعية في مدينة لينغراد, وكاي زائر اجنبي يزور بلادا لاول مرة, طلبت من المضيفين زيارة الاماكن الاثرية والسياحية في المدينة, وكما هو معروف للجميع لينغراد اليوم سانت بطرسبورغ عاصمة من عواصم الادب والفكر والفن والتاريخ. اثناء تنقلي بين عظمة الهيرميتاج وروعة المتاحف والقصور الاخرى, اقترح عليّ مرافقي ان نزور سوية مقصف او قهوة الادباء, ودهشت حين سمعت الاسم وتساءلت وهل للادباء مقصف هنا؟ وماذا يعني مرافقي بذلك؟ هل هي حقيقة ما يقول؟ شدني حب الاستطلاع المقرون بالدهشة لزيارة المكان, ورحت استعجل الساعات الى هناك. دخلنا المكان واذا به واسع ضخم يتكون من طابقين, في الاول قاعة كبيرة تصطف فيها طاولات مستديرة يتحلق حولها جمع كبير ومن زاوية معتمة فيها انبعثت موسيقى هادئة جميلة كان يعزفها عازفان ماهران الاول على البيانو والثاني على الكمان. وكان جمهور الحاضرين يثرثر بصوت هادىء لا تسمع منه سوى الاحرف الصفيرية- كما يقول البحتري- وكانت تنبعث من هنا وهناك بعض الضحكات والاهات. استفسرت فقال مرافقي انهم جمهور الادباء في لينغراد ياتون في المساء الى بيتهم ليلتقوا بعضهم وليتداولوا ويتباحثوا في القضايا التي تهمهم. هذه هي قاعتهم, وهذا هو مقصفهم فيه يجلسون ويتبادلون اطراف الحديث ويستمعون الى الموسيقى وياكلون ويشربون كل حسب هواه, اما القاعة العليا فهي قاعة للندوات والمحاضرات, حيث تعقد فيها- وفق برنامج شهري ينشر على الناس سلفا- في كل اسبوع ندوة او تقام محاضرة حول كتاب ما او موضوع معين, وهذه الندوات والمحاضرات مفتوحة للجمهور, ولكن من يدخل يدفع بعض الرسوم المادية وذلك لتشجيع الادب والادباء. ما اعظم هذه الفكرة! وما اكبر مغزاها! وما اروع رسالتها! قلت في نفسي وكتمت الامر على مضض وانا اعلك افكاري متسائلا بيني وبين نفسي اين نحن من كل هذا؟! ورغم الدهشة المقرونة بالاعجاب التي اصابتني في حينه حاولت ان اتناسى الامر وذلك لسببين: الاول لانني لم اكن متفائلا لدرجة تجعلني اجرؤ على طرح الفكرة على ادبائنا ومؤسساتنا وذلك لعلمي الاكيد بالحالة المادية التي نعيشها, والثاني: لأن الايام التي مرّت تجعل الحماس لفكرة ما يفتر. ولكن الاشياء او الافكار الجميلة على ما يبدو ترفض التكتم وتابى السكون مهما حاولنا ذلك, فهي في الواقع تتفجر فينا ثانية حين تجد الفرصة المناسبة وتعود لتحتل مكان الصدارة. وهذا فعلا ما حدث لي قبل ايام قلائل اثناء وجودي في مدينة ادنبرة في اسكتلندة, حيث زرت هناك ايضا بيت الكتاب كما يسمونه, ووجدت شيئا مشابها للينغراد, مع اضافة اخرى هي ان هذا البيت على كونه ملتقى للادباء يضم في داخله متحفا صغيرا يروي تاريخ الادباء الذين رحلوا او الذين كانت لهم بصمات على تطور الادب الانجليزي وخاصة الاسكتلندي. مرة اخرى هزني هذا البيت وارتفع سؤال كبير حاولت الا اتيح له الانفلات سنوات ست. الا يحق لكتابنا وادبائنا مثل هذا الاحترام؟ ومثل هذه العناية؟ الا يليق بهم وهم مهندسو الارواح البشرية, الذين وقفوا وما زالوا الى جانب قضايا شعبهم مدافعين عنه وراسمين له الحلم الاخضر مثل هذا البيت؟ اما حان الوقت بعد لنكرمهم مثل هذا التكريم؟ كم منهم ضحى حتى بلقمة اطفاله من اجل قصيدة! كم منهم سجن وعذّب! كم منهم دفع مستقبله ضريبة من اجل مجموعة شعرية او قصصية وكم منهم تنازل عن اغراءات كثيرة من اجل مبدا التزمه! انهم يستحقون مثل هذا الاحترام والتقدير بل اكثر والمسالة ليست صعبة كما يتصورها البعض.
هل اكون في حلم او هذيان! اذا تصورت ادباءنا في المستقبل القريب يضمهم بيت دافىء يلتقون فيه ولو مرة في الاسبوع ليتداولوا وليتناقشوا وليتبادلوا الاراء والتجارب! وهل هناك طريقة تثري عالمهم الادبي احسن من ذلك! اعتقد انه بهذه الطريقة فقط يمكن ان ننشط حركتنا الادبية التي باتت تشكو من الترهل وان ننتشلها من الركود, وهكذا نشجع جمهورنا ونحتم عليه احترامنا واحترام ادبنا وكما اعتقد ان الوقت قد حان لتنفيذ هذه الفكرة خاصة وان ادباءنا لا يقلون قدرا ومعرفة وفنا عن غيرهم من ادباء الشعوب الاخرى. انظروا الى الادباء اليهود والى بيت الاديب في تل ابيب اليس هو الاخر يشبه البيتين السابقين؟ الايحق لادبائنا ان يكونوا مثل اخوانهم اليهود؟ صحيح ان الفكرة متاخرة ولكن تاخرها لا يعني عدم تنفيذها, بل في رايي ان الوقت مناسب الان لاعادة النظر في كل ذلك من جديد.
في الماضي تفرق ادباؤنا بين اتحاد للكتاب ورابطة, اما اليوم يجمعهم اكثر بكثير من الذي يفرقهم. لننتهز الفرصة اذا ولنعمل سوية على اخراج هذه الفكرة الى حيز التنفيذ وكما ذكرت انفا ان تنفيذها ليس صعبا بل هو سهل وما يلزم هو فقط بعض التشجيع المادي من قبل مؤسساتنا ومتمولينا والتشجيع المعنوي من جمهورنا, ولن يبخلوا جميعهم بذلك. وربما سائل يسال والمكان؟ ماذا مع المكان؟ الاجابة عن ذلك بسيطة, اذ ان المكان متوفر. فها هو بيت الكاتب في الناصرة الذي افتتح قبل سنتين في الانتظار, وهو عندي مكان مناسب, اذ انه واسع وفيه قاعات متعددة تتسع لندواتنا ومحاضراتنا, كما انه يحتوي على مقصف متواضع يمكن تطويره, وفيه ايضا كل ما يلزم من الامكانيات والوسائل, وهو مفتوح يوميا وتحت تصرف الادباء, وليس الحديث هنا عن ادباء الناصرة فقط, بل الحديث عن ادبائنا جميعهم في الجليل والمثلث وسائر المدن والقرى الاخرى.
وبيت الكاتب كما هو معروف للبعض تابع للطائفة العربية الاورثوذكسية في الناصرة وتموله دائرة الثقافة العربية, وقد اقيم خصيصا ليكون ملتقى للادباء ليخدم مصالحهم.
فهل لي ان احلم وان ارى ادباءنا يؤمون هذا البيت ويقيمون فيه الندوات الادبية للجمهور الواسع؟ هل لي ان احلم وان ارى هذا البيت وقد اصبح فعلا ملتقى للادباء وللجمهور, اذ ما يلزم لتنفيذ الفكرة؟ في رايي لا شيء سوى اخذها على محمل الجد من قبل الادباء. فالبيت موجود باثاثه وغرفه ووسائله ومقصفه ولا يبقى سوى ان نؤثثه بالادباء. وانا على يقين من ان مجلس الطائفة العربية الاورثوذكسية سيرحب بهذه الفكرة وسيكون سعيدا اذا حولنا هذا البيت البارد الى بؤرة نشاط واشعاع دافئة. والشيء الوحيد الذي يظل ناقصا هو تحويل البيت ايضا الى متحف يروي تاريخ ادبائنا الفلسطينيين كي تتعرف الاجيال عليهم وعلى تراثهم, ولكن حتى هذا الامر ليس بصعب المنال, اذ اننا قادرون على تقفي اثار ادبائنا بدءا بكشاجم الرملي والقاضي الفاضل, والصفدي, والمقدسي, والعسقلاني, والكرملي, ومرورا بابراهيم طوقان وعبد الرحمن محمود وبابي سلمى, وبمطلق عبد الخالق, وبالبيتجالي, وبنجيب نصار, ويالسكاكيني, وبالنشاشيي, وانتهاءا بجبرا ابراهيم جبرا وتوفيق زياد والقائمة طويلة. نحن قادرون على احياء اسمائهم وتراثهم من جديد ليكون مفتوحا لاجيالنا القادمة.
هل هو حلم؟ ربما, ولكنني لا اعتقد ذلك طالما ان الامر قابل للتنفيذ بسهولة. فهيا ننطلق جميعا الان, لان الفكرة لا تحتمل التاجيل اكثر, فقد طال بنا عهد الفرقة والتفرق والتشتت وصار من الضروري ان نتجمع, خاصة وانا ارى الارهاصات الاولى لهذا التجمع, حيث ان البذور قد بدات تتململ, فقد سمعت مؤخرا ان لفيفا من الادباء قد بدا يحس بهذه الحاجة.
فهل لي ان اتصور نفسي في القريب العاجل جالسا في بيت الكاتب مع الاخرين من الزملاء نصغي الى الموسيقى ونتجاذب اطراف الحديث مع فنجان من القهوة حول قضايانا الادبية والثقافية؟!
هل لي ان اتصور نفسي جالسا في احدى قاعات هذا البيت استمع او اشارك في ندوة اسبوعية تتناول ادبنا وانتاجنا؟!
هل انا احلم؟!
انني ادعو الجميع الى ذلك واهيب بمؤسساتنا وبادبائنا وبمدير بيت الكاتب ان يسرعوا جميعا في تنفيذ هذه الفكرة. فنحن فعلا بحاجة ماسة اليها.
فهل من يستجيب؟!

ليست هناك تعليقات: