عدنان الظاهر
( على حافة مملحة خليج الذكريات / محاورة مُفترضة مع الشيطان )
التأريخ 27.11.2009 ـ 09.12.2009 قبل الميلاد
إلى أنيس الرافعي / فيلسوف الكلمات ومُنظِّر ثورة فن القصِّ الروائي
< تساؤلات مُزعجة تمتدُّ ما بين ميونيخ الألمانية والدار البيضاء المغربية >
1 ـ المُدخل // حطّتْ الطائرةُ الإسبانيةُ
IBERIA – IB 3702
قادمةً من مدريد على أرض مطار الدار البيضاء.
هل للذكريات خليجٌ ؟
نعم ، بل وأكثر من خليج ... خِلجان وممالح وموالح ومصالح !
وكيف وجدتَ ساحلَ خليج الملح الأول ؟ وجدته على شرِّ ما يُرام ! كيف ؟ لا جواب !
وكيف وجدتَ مملحة الساحل الثاني ؟ لا بأس !
ما تعني لا بأس هذه ؟ تعني لا بأس ، مجرد لا بأس : لا + بأس !!
أعرفُ الحرف " لا " لكني أجهل صاحب البأس . من الأفضل لك ولي أنْ لا تعرفه ، أجبته !
لماذا ؟ لو رأيته لوليتَ منه هرباً . لماذا ؟ لا جواب ... الجوابُ ممنوعٌ من الصرف . لا تقبله مصارف الدار البيضاء . لكنْ تقبله وكالة
Western Union
لا شأنَ لي بها ومعها . خانتني مرتين ، أي خُدعتُ بجحر مرّتين ولدغني جحران بدل الواحد . قام اللهُ في عونك يا رجلُ . يا لك من شقيٍّ تعيسٍ نَكِدٍ منكودٍ ومنحوس .
للعفّةِ والبراءةِ والطهارةِ ثمنٌ يدفعه البريءُ الطاهرُ العفيفُ ... قلتُ له .
.... قام اللهُ في عون أمثالك أيها الظاهر الطاهر .
دعواكَ مُستجابةٌ يا رجلُ .
2 ـ المُخرَجُ // أدفع أمامي عربةَ أثقالي ومتاعي المحمّل بالهدايا . يُحيطُ بي شبحان أسوادا الهيئة والنوايا . تخففتُ من بعض ملابسي فحملها الشبحُ الأولُ وليته ما حملَ . تصوّرْ يا صاحبي وخِلّي وشيطاني وخالق الأباليس والجان أمثالي ، تخيّلتُ أني في زفة عُرسٍ حقيقية، طبول وطبّالون ودفوف وأعوادٌ تُضربُ وأنغامٌ تُوقّعُ وغجرٌ أندلسيون يغنون ويرقصون الفلامنكو . أين كارمن ؟ أشاروا للشبح الثاني الذي ما أنْ رأيته حتى توجّستُ منه خيفةً . تساءلتُ مع نفسي : أهذه هي كارمن التي منيّتُ نفسي أنْ أراها وأنْ ألتقيها في أكثر من مكان وأنْ أعاشرها وتعاشرني روحاً وجسداً ، إختلاطاً والتباساً [ هنَّ لِباسٌ لكمْ ] وحلولاً وانتعاشاً وهياماً في الشقّة التي استأجَرَتها لي سَلَفاً ؟ كلاّ ، قالت كارمن الأندلسية : الحقيقة ، أنا لستُ هيَ ، هذه الماثلة أمامك ، لم أزل أنا هناك حيثُ رأيتني أول مرة صيف عام 1982 حين زرتَ مدينةَ قرطبة وجامعها وقرأتَ ما قالت ولاّدة بنت المستكفي لإبن زيدون :
أغارُ عليكَ من نفسي ومنّي
ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ
تردُّ على قوله فيها :
يا مَن غدوتَ وبي في الناسِ مُشتهِرا
قلبي يعاني الأسى والهمَّ والكدرا
إنْ غبتَ عني فما إنسٌ يؤانسني
وإنْ حضرتَ فكلُّ الناس قد حضرا
هل تتذكرُ تلك الزيارة ؟ أضافت ، أنا أعفُّ من هذه وأنقى .
سألتُ نفسي : هل واصلت جوقةُ الرقص والعزف رقصَها وعزفَها ؟ لا . غادروا جميعاً وأُطفِئت الأنوارُ وغادرت الشرطةُ أرضَ المطار ولم يتبقَ أحدٌ إلايَّ وحقائبي الحزينة أبحثُ عن سيارة تاكسي تحملني بعيداً عن أرض مطار الملك محمد الخامس إلى قلب مركز مدينة الدار البيضاء حيث سَكَني المُفتَرض الموعود . وصلتُ المركزَ وطرقتُ أبوابَ جدرانِ قلبهِ فأتاني الصدى متردداً كصوتِ ثكالى نواقيسِ الكنائس القريبة من قصرِ الحمراء في مدينة غرناطة متذبذباً مثل أراجيحِ أمواجِ الضوء الأسود. بقيتُ خاشعاً في إنتظار جواب أهل المدينة فخابَ ظني ويا ويلَ أمّي التي وضعتني [ أعني أنجبتني ] في المكان المخطوءِ وفي الزمن غير المرغوب فيه لأجدَ نفسي مُشرَّداً خائفاً أتوجّسُ ذليلاً غريباً رغم كل ما أحمل معي من كنوز الأرض والسماء . ذلَّ مّنْ يغبطَ الذليلَ بعيشٍ / للمتنبي . تحرّك رفيقي الشيطانُ فوسوس لي ما وسوسَ وزيّن لي الذهابَ إلى فندق يحملُ أربعَ نجماتٍ من بقايا مجرّة الدبِّ القطبيِّ أصابَ إحداها صدأٌ طارئٌ ففقدتْ جُلَّ لمعانها وخسرت أُبّهتها العتيقة.
3 ـ واحرَّ قلباه ! في قلب القلب الكثير التقلّب !
وجدتُ نفسي في قلب النعيم تقريباً . حجرة واسعة جداً جيّدة التأثيث وماء حار مستمر طوال ساعات الليل والنهار وإفطار صباحي جيد مع الشاي الأخضر المغربي والأسود العالمي والسيدة الطيّبة " حليمة " مسؤولة تنظيف وترتيب حجرات الطابق الثالث من الفندق وفتاة إدارته " مريم " الدقيقة والثاقبة البصر والبصيرة ولكن ، يقول العراقيون : الجنةُ بدون أوادم هي سجنٌ حقيقي . نعمْ ، هي سجنٌ . تذكّرتُ قول المتنبي في ثورته ضد كافور الإخشيدي :
إذا أردتُ كُميتَ اللونِ صافيةً
وجدتُها ، وحبيبُ القلبِ مفقودُ
هل كان الحبيبُ يترصَّدُني ويُحصي أنفاسي ويتحسسُ هواجسي وخواطري ويحدسُ ما في سرّي وخيالي ؟ وجدتُهُ صباحَ اليوم التالي على تمام الساعة الحادية عشرة ينتظرُني في بهو الضيوف . كان الحبيبُ حزينَ القسماتِ مُطفأ نورِ العينين غضيضَ البصر ينوءُ تحت عبءٍ كبير من تأنيب الضمير والكثير من الخجل فهل نامَ ليلته تلك نوماً هادئاً طبيعياً أم مثلي تقلّب في فراشه وظلَّ يتقلبُ على جنبيه حتى ساعات الفجر الأولى (( أجلْبَنّكْ يا ليلي 12 تجليبةْ / من أغنية الهَجَعْ الغجرية المعروفة في وسط وجنوب العراق )) ؟ اللهُ أعلمُ بما في الصدور .
تناولنا طعام الغداء معاً في مطعم الزهور القريب من فندق { أجياد } ثم أخذنا التاكسي الأحمر متجهين نحو كورنيش البحر الطويل المزدحم بالمطاعم والمقاهي والدور الباذخة الجميلة . مررنا أمام جامع الحسن الثاني ثم تركنا السيارة في بداية شارع الكورنيش وطفقنا نتمشى فاقدينَ جُلَّ وعينا ... غنّت لي إحدى أُغنيات فيروز فرددتُ جميلها بأحسنَ منه إذْ غنيتُ لها أغنية فريد الأطرش [ حبيبي سهرّني أيام وليالي / رخّص لي الدمع الغالي ] وسرنا وسرنا تحت سماء زرقاء صافية وشمس حنون دافئة حتى تَعِبتْ أقدامُنا فدخلنا مقهىً يطلُّ تماماً على ساحل المحيط الأطلسي . شربنا ما طلبنا وتجاذبنا أطراف أكثر من حديث شجيٍّ ولم تكن الأحاديثُ لتخلو من بعض الرومانس الكلامي الأفلاطوني الخفيف الظل والوقع على القلوب والنفوس ، لا يتغلغلُ عميقاً ولا يخدشُ الأديم . ما كانت مياه المحيط هادئةً ودودةً إذْ كانت أمواجه عالية صاخبة في الكثير من الأحيان تتكسر عنيفةً على سطوح الصخور المتآلكة فيتعالى ويتعالى زَبَدُها وما أنْ تخفت نوبةُ الهيجان حتى تعود لسابق عهدها معربدةً متحديةً الصخر والساحل والرمل والبشر . ما أعظمكَ يا محيط ! عدنا لمركز المدينة وافترقنا على أنْ نلتقي منتصف نهار الغد .
4 ـ وكرّت الأيامُ بين مدٍّ شحيحٍ وجزرٍ شبه طاغٍ
تعرّفت على مدينة الدار البيضاء جيداً إذْ جبتُ شوارعها الأنيقة العريضة مشياً طويلاً على الأقدام وتمكّنتُ من تمييز مطاعمها ومقاهيها النظيفة الجيدة فاخترتُ أفضل المطاعم لأتناولَ فيها وجبات الطعام المختلفة . أعجبني الدجاج المشوي بشكل خاص إذْ كانت تعدّه حتى المطاعم الشعبية البسيطة إعداداً جيداً متميّزاً شهيَّ المذاق تام النضوج . كما أكثرتُ من تناول كؤوس عصير البرتقال الطبيعي [ يسمّونه هناك ليمون ] المُعد فوراً أمام أعين طالبه سواء في المقاهي أو على قارعة الطريق وهو زهيد الثمن . ثمّةُ أمرٌ آخرُ جدير بالذكر : أنَّ المطاعم تقدّمُ لزبائنها اللحوم بكافة أنواعها وطبيعتها خالية من الملح والتوابل تاركةً ذلك الشأن لمذاق ومزاج آكلها . كما تأكدتُ من مكان عيادة طبيبة الأطفال السيدة فاتحة مرشيد فزرتها هناك مرتين وقدمتُ لها حلويات دمشقية لذيذة الطعم حملتها لها معي من ألمانيا . سألتها أتعرف رقم تلفون أنيس الرافعي ؟ إتصلتْ به على الفور ، كلّمَته وكلّمتُهُ أنا بعدها وتضاحكنا ووعد أنْ يزورني في مكان إقامتي في فندق أجياد في السابعة والنصف من مساء ذلك اليوم . جاء أنيس وجاء معه صديقٌ له كاتبُ قَصص عرّفني عليه هو الأستاذ
عبد الحميد الغرباوي ، وهذا لقبٌ مألوف في العراق ومعروفٌ في مدينة الناصرية
[ محافظة ذي قار ] . ذهبنا إلى مقهى قريب للراحة والتعارف وتبادل بعض الأحاديث القصيرة التي لا يمكن الإستغناء عنها في مثل الظرف الذي كنّا جميعاً فيه . ثم قرر الصديقان الغرباوي والرافعي تناول العشاء في مطعم كوري ذي نظام خاص يقدّمُ وجبات كورية تُعدِّها أيدٍ متخصصة . وجدنا المطعم غاصّاً بمرتاديه فانتظرنا قليلاً حتى فرغت مائدةٌ قريبةٌ من مكان وقوفنا . يا لِكَرَم نفوس وسخاء أيدي الأخوة المغاربة ويا لطيبة قلوبهم المفتوحة أبداً أمام زائري بلدهم ومعارفهم وأصدقائهم . أغرقني الصديقان بجميلهم المتعدد الوجوه والأشكال حتى تضاءلتُ أمامهم حياءً منهم وخجلاً من نفسي . لم نفترقْ إلا وقد إتفقنا أنْ نزورَ يومَ الأحد السادس من ديسمبر الصديقَ القديمَ الدكتور علي القاسمي في مدينة الرباط حيثُ يُقيمُ . وكانت زيارة من الزيارات النادرة الحدوث .
5 ـ الختام : وإني جبانٌ في وداعِ أحبّتي / وإنْ كنتُ في غيرِ الوداعِ شجاعا ... للرصافي
الثلاثاء الموافق اليوم الثامن من شهر ديسمبر 2009
أولاً ـ دعوة لتناول طعام الغداء وجهتها الطبيبة فاتحة مرشيد لي وللصديق أنيس الرافعي .
ثانياً ـ زيارة يعزَّ نظيرها للكاتبة السيدة خناثة بنّونةْ المعروفة على نطاق واسع في المغرب. رتّبت هذه الزيارة الصحافية الآنسة فاطمة الزهراء المجبير مشكورة كل الشكر فقد بذلت الكثير من وقتها وجهودها لتنظيم وتنفيذ هذا اللقاء مع سيدة لا يجود الزمان بالكثير من مثيلاتها في هذه الأيام .
6 ـ الفراق : حضرت سيارة التاكسي المرسيديس البيضاء في الوقت المحدد إذْ سبق وأنْ حجزتها لي إدارة الفندق قبل يومين من موعد مغادرتي مدينة الدار البيضاء . قبلَ أنْ أفتحَ باب السيارة خُيّلَ لي أني أرى أمامَ عينيَّ ذكرياتي الطريّة عن أصدقائي في الدار البيضاء كافّةً وعن معالم المدينة وأماكنها التي كنتُ فيها ... أراها جميعاً كأنها إجتمعت معاً بأسطورة سحرية وتركّزت في وجهٍ شاحب اللون وعينين زائغتين تبصران ولكنْ لا تريان شيئاً لكأنما تحفران في فراغ كوني لا نهاية له . كانت واقفةً على رصيف الشارع بين مُدخل الفندق والسيارة التي تنتظرُ ركوبي.
في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم الأربعاء التاسع من شهر ديسمبر 2009 أقلعت الطائرةُ الإسبانية متجهةً نحو مدريد وقد ألفيتُ نفسي ، وأنا أشدُّ بقوّةٍ حزام الأمان على وسطي، أرددُ شعرَ إبن زيدون في بنت المستكفي :
يا مَنْ غدوتَ وبي في الناسِ مُشتَهِرا
قلبي يُعاني الأسى والهمَّ والكَدَرا
إنْ غبتَ عنّي فما إنسٌ يؤانسني
وإنْ حضرتَ فكلُّ الناسِ قد حضرا
الأربعاء، ديسمبر 16، 2009
واحرَّ قلباه
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق