د. عدنان الظاهر
مَن يا ترى يرفضُ في هذا اليوم دعوة ً سامية ً دبلوماسية المستوى ؟ هل سترفضها عشتارُ بابلَ وهي الدبلوماسية المحنكة ذات الباع الطويل في شؤون السياسة والإقتصاد وفن المراوغة والمناورة ؟ لا أظن ذلك . إذا ً توكلْ ووجهْ لها دعوتك ولسوف نرى . أرسلْ لها دعوتك بالطرق الدبلوماسية عن طريق سفارة العراق في برلين . فإنْ رفضت السفارةُ التعاونَ معك أرسلْ الدعوة لها بالبريد الألكتروني العادي فلا بروتوكولات ولا أتيكيتات ولا هم يحزنون . هذه الرسائل بسيطة تصل أهدافها بسرعة فائقة تضاهي سرعة سريان الكهرباء في أسلاكه المعدنية.
ماذا سأكتب لها في هذه الرسالة وهي لا تفهم أو تقبل إلا لغة الدبلوماسية العالية المستوى فقد دخلت دورة أمدها ستة أشهر في معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية العراقية ؟ قلْ لها مثلاً : سيدتي المبجَّلة مليكة بابل َاليوم وسومرَ في غابر الزمان ... آلهتي عشتروت أو عشتراو ... هل أنت مجرد ملكة أو أنك آلهة وربّة ؟ جوابكِ عن هذا السؤال ضروري يا سيدة . ضروري لأنه يترتب عليه أسلوب مخاطبة سموكم من ثم نمط وأساليب ومقتضيات حفل إستقبالكم الرسمي على أرض المطار وأوزان مَن سيشارك في هذا الإستقبال ؟ فإنْ سألتك وما قصدك من هذا السؤال أجبها إني بشر ٌ سوي ٌّ ممن يعبدونك ذو جسد لكني آلهة ٌ من روح دون جسد ... أنوي أن أوجه لجنابكم دعوة رسمية لزيارتي في مكان ما من هذا العالم الكروي . وإذا رفضتك ودعوَتك من باب التعالي عليك جملة ً وتفصيلا ً فما عسى أن ْ يكونَ موقفك ؟ سأقترح حينئذ ٍ عليها أنْ تغيّر جلدها وطبيعتها وطبيعة مهماتها لتغدو إمرأة ً بشراً صرفاً مثلي من لحم وعظم وعصب ودم . إمرأة كغيرها من نساء العالمين تحب وتكره تفرح وتحزن تأكل الطعام وتنام تزور وتزار تتزوج فتنجب . سأقترحُ عليها ـ إنْ تعذر عليها هذا الأمر ـ أنْ تطلبَ مساعدة إلهها الأعلى السيد مردوخ . وإنْ رفض التعاونَ معها هذا الربُ / الصنم ُ ؟ ستلجأ هي عند ذاك إلى مليك بابلَ جلالة حمورابي العظيم ذي الكرش الواسع والمقعد العريض والرقبة المخنوقة وصاحب المليارات في بنوك لندن وسويسرا ونيويورك وغيرها من العواصم . أمرٌ رئاسي ٌّ واحد ٌ منه كاف ٍ لتغيير كل ما في بابلَ من طقوس ٍ وعادات ٍ ومعتقدات ٍ ودمقراطيات توافقية وأخرى رقمية . أمرٌ واحدٌ لا يحتاج إلى موافقة برلمان بابلَ التوافقي أو المجالس الرئاسية القرة قوزية المتعددة الأشكال والألوان والطُرُز . مليكُ بابلَ اليومَ أقوى وأعلى مقاماً من ربه مردوخ . تنفستُ الصُعداء َ. وجدتُ الحل َّ الأمثل . لا من مشكلة ٍ تواجهني في هذا الأمر . البساطة بلسمٌ سحريٌّ يفكُّ العُقد ويعبّد الطرق ويفتح المسالك الصعبة والممالك البعيدة .
ها هي ضيفتي آلهة بابل َ سابقاً تخلت بمرسوم ٍ صادر عن مكتب الملك حمورابي عن نصفها [[ الألوهاني ]] وإحتفظت بنصفها البشري فجاءتني إمرأة ً كاملة َالأنوثة والنضج الجسدي كأنها سفيرة . لم أصدقْ عيني ! هل حقاً هذه هي عشتار ربة بابل سابقاً ؟ ربة الجنس المقدس والخُصب والتناسل ؟ مدت يدها تصافحني فوددتُ لو أقبلها في كل مكان من جسدها السامي الأصول والفروع . لو أقبلُ رأسَها وعينيها وخديها ثم شفتيها الورديتين . لم أجرؤ على القيام بذلك . إنها زيارتها الأولى لي فلأحتفظ أمامها بوقاري ورزانتي وثقل وزني ولأحفظ لها حرصها على صيانة مستلزمات هيبتها السابقة وهي التي كانت تملأ سمعَ وبصرَ العالمين . إحترامي لنفسي ثم هيبة عشتار التي غيّرت كلَّ شئ فيها إلا إسمها ولقبَ عائلتها المبارك القديم . ما أسباب هذه الدعوة يا صديق ؟ [ غدونا أصدقاء تربطنا علاقة صداقة لا علاقة عابد ٍ بمعبود ]. تلعثمتُ وتحيرتُ لأنني لا أعرف الجواب. لماذا دعوتها ؟ لا أدري . كانت مجرد نزوة ٍ وطيش ِ غرور ٍ وشطحة من شطحات خريف العمر . أريد أنثى أقول لها إني أحبك ... إني أتفانى في حبي هذا ... إني أعبدك حبيبة ً ونبية ً وربة ً أتتني من مسقط رأسي في بابل . ها هي الآن أمامي إمرأة ً وجسداً ممتلئاً له خوارٌ لا آلهة شبحاً من ظل ليس له حدود ٌ أو وجود . إنْ عبدتها فلسوف لا أعبدُ فيها إلا جسدَها الأنثوي التام النضوج الذي لم يكتمل على نار فحمٍ هادئة ٍ إلا بعد خمسين عاماً . بعد إستراحة مناسبة تخللتها أحاديث شتى مع الكثير من أكواب عصير البرتقال الطبيعي وبعض فاكهة الصيف عرضتُ عليها أن نتناول طعام الغداء في مطعم راق ٍ مجاور يقدم أفخرَ أنواع لحوم عجول البقر المشوية والمقلية مع الكثير من الخُضار الطازجة الشهية . هل من كأس جعّة أو منقوع الشعير ؟ قالت أجلْ ولكن بدون كحول . أنا متدينة ما دمتُ في عالمكم هذا بل وأميلُ إلى التوشح بربطة رأس وعباءة تنشق إلى نصفين عند الركبتين كي يظهرَ سروالي الحريري الجميل الذي أرتديه عادة ً مع هذه العباءة . تجوّلنا بعد الغداء في عوالم خيالية كثيرة لم ترَ هي مثيلاً لها لا في مملكة بابلَ ولا فيما عداها من ممالك ذاك الزمان . قالت قص َّ عليَّ أخبارَك وكيف تقضي أوقاتك وأية بلدان تزور وكيف تكتب مقالاتك وهل لديك صديقات غيري أو ربما حبيبات . ضحكتُ بأدب جم ثم قلت لها يا ضيفتي وزائرتي بعد قطيعة خمسة آلاف عام ... لم أكن لأصدق أني أراك ثانية ً معي وإننا هنا مجتمعان كصديقين مع الأمل أنْ تتطور صداقتنا إلى حب ٍّ أو شئ ٍ يشبه الحب . قالت ماذا تقصد ؟ أقصدُ أنْ تتكلمي أنت بالتفصيل عن مجمل أحوالك المدنية والدينية ، البشرية العادية وغيرها التي تخص شؤون ومسؤوليات الالهة العليا . كنت أنتِ على الدوام آلهة ً مرة ً للخصب والتناسل ومرة ً أخرى لممارسة الجنس المقدس في زوايا المعبد الذي يحمل إسمك في بابل وفي سومر قبل بابل . ثم كنت تتطوعين أحياناً لمساعدة الملك حمورابي في تصريف شؤون المملكة وتترأسين مكتبه الصحافي مستشارة ً في شؤون الإعلام أو مستشارة في أمور الحرب والسلام وتربية الحمام والديك الرومي ( علي شيش ) . وإذا تبقى لديك بعض الوقت تسامرين إلهك مردوخ وترفهين عنه في بعض قصوره الباذخة أو بين بساتين بابل العامرة أو على ضفاف نهر الفرات تحت القمر الكبير الخاص بمملكة بابل. وعليه يا صديقتي القديمة ـ الجديدة فإني أتوقع منك أن تسهبي في الحديث عن نفسك لا أنا مَن يتحدث. حياتي جفافٌ في جفاف لم أعاشر الملوك ولا الملكات ولا كنتُ يوماً خدينَ الأرباب والربّات . لم أكنزْ مالاً ولا ذهباً ولا فضة ً . حرمني البعثيون من وطني وداري وأهلي وسيارتي ومكتبتي وكانوا عازمين على التخلص مني بتصفيتي تحت التعذيب أو إغتيالاً في الطرقات المظلمة كما حدث مع الكثير من العراقيين . لذا تركتُ العراق للبعثيين ومَن والاهم وفضّلتُ التشرّد والمغامرات ومعي أطفالي لكي أجنبهم الكارثة التي كانت قاب قوسين أو أدنى منا . ماذا أحكي لك يا سيدة ٌ حاضرة ٌ أمامي ويا آلهة ٌ في غيابي ؟ أنتِ التي ستحكين وتقصين فأنا في الحقيقة مشتاق لأنْ أسمعك تتحدثين لي عن دقائق حياتك فأنتِ ما زلتِ غامضة ً بالنسبة لي بل ومجهولة كبحر الظلمات . لِمَ على سبيل المثال لبيتِ دعوتي وقبلتِ التنازل عن كافة خصائصك وإمتيازاتك الملكية وطبائع الآلهة فيكِ . ما الذي أغراك يا سيدتي بالنزول إلى مستوى البشر العادي وقبولك دعوتي التي وجهتها لك بالبريد الألكتروني الذي لا يليق بمقامات الملوك والآلهة وممارسي الجنس المقدس ؟ كيف قبلتِ دعوتي وقمتِ بزيارتي وماذا تتوقعين أنْ تجدي عندي ؟ تنهدتْ عشتارُ بابلَ عميقاً وبعد فترة صمت محيّر قالت : إشتقتُ للبشر ... وجدتُ فيَّ هوىً جباراً لا يُقاوم لأنْ أمارسَ بشريتي فقد ضقتُ ذرعاً بمسؤولياتي ملكة ً يوماً وآلهة ً يوماً ثانياً ونائبة ً للملك يوماً ثالثاً ونديمة ً ومحظية ً لمردوخ يوماً رابعاً . نعم يا صديق ، أسأمتني هذه الواجبات والمسؤوليات حتى كنتُ أحياناً أفضِّل الموتَ على مثل هذه الحياة . فأنا كما ترى بشرٌ كاملٌ مثلك فلِمَ التنازل عن إنسانيتي وطبيعتي البشرية وتقمص هيئة ملاك أو مليكة أو نصف آلهة ؟ ما هذا التلفيق العاري والتدليس عليكم أنتم بشر الكرة الأرضية ؟ كله خداع ... خداع في خداع ... خُدعة تجر ُّ إلى أخرى وهكذا دامت وعمّرت المهزلة آلاف السنين . أجد وأرى مظاهرها وأشكالها وتلاوينها عندكم اليوم في العراق الحديث سليل بابل القديمة ولا من شبه بين الإثنين .
قاربت الساعة السابعة مساء فتناولنا طعام العشاء في مطعم حديث يقدم الكباب العراقي [ لحم غنم ] مع خبز حار من التنور والطماطة المشوية .
أتفقنا أنْ نواصل حديثنا غداً وربما نقوم بسفرة على ظهر باخرة تمخر بنا مياه البحيرة الهائلة الواقعة في ضواحي المدينة المحاطة بالغابات الكثيفة وجبال الألب الشاهقة .
ذهبتُ وعشتار إلى مكان إقامتها في فندق فخم ذي خمس نجوم . ودّعتها عند مدخل الفندق وتركتُ على خديها قبلتين بريئتين جداً جداً .
...
قصدتُ فندقها صباح اليوم التالي في الوقت الذي حددنا حسب الإتفاق . فوجئت بل أصابتني صدمة كهربائية تشبه في بعض وجوهها الزلزلة . قدم لي مدير الفندق ورقة صغيرة صفراء اللون مكتوباً عليها بخط يد عشتار الذي أعرف ما يلي << يؤسفني أنْ أقولَ لك إني غادرتُ بلدك الجميل على عجل . طلب مني مجلس الرئاسة أنْ أعود لبابلَ على الفور . تعالَ زرني هناك إذا شئتَ . سأكون في إنتظارك . التوقيع : صديقتك عشتار >> . تركتُ الفندق ونجومه الخمس مترنحاً لا أقوى على السيطرة على حركات قدميَّ . شعرتُ بجوع غريب وظمأ لا يرحم . ماذا جرى ؟ ما حقيقة الأمر ؟ لم أجدْ جواباً فقررت أن أغادرَ قاصداً بابلَ كما إقترحت عشتارُ . حجزتُ تذكرة سفر ٍ على الطائرة المغادرة من مدينتي إلى مطار النجف . حطّت الطائرةُ في مطار النجف بعد أقل من ساعتين . إستأجرتُ سيارة تاكسي فطارت بي أسرع من الريح . فتحت الخادمُ باب قصر عشتارَ فماذا وجدتُ ؟ وجدت الصديقة التي تخلت عن تاج الملوكية وعرش الآلهة شعثى باكية في أتعس حال . وضعتُ كفي على رأسها ذي الشعر الطويل الناعم الكستنائي فرفعت عينيها صوبي . قامت تمسح الدموع التي سفحتها عيناها بسخاء فإنفرجت أساريرها قليلاً قليلاً ثم تبسّمت وقالت إجلسْ ، إجلسْ هنا قربي . حضر الشاي المعطّر بالهيل والدارسين والمعتق بمسحوق القرنفل . ماذا تودُ أنْ تأكل ؟ سألتني فقلتُ لا شئ ، قصّي عليَّ حكاية ما جرى . تركتني ومضت لتغتسلَ وتتكحل وتصلح زينتها وتمشط شعرها وتبدل ملابسها ثم عادت بعد فترة وجيزة مشرقة َ الوجه باسمة َ العينين . هيا إحكي لي يا صديقة قصة ما حدث لك .
قالت : كنت في حجرتي أتهيأ للنوم ففاجأتني إدارة الفندق ببرقية يطلب الملكُ حمورابي مني فيها العودة إلى بابل بأقصى سرعة ممكنة . حين وصلت قصرَ الملك في المنطقة الخضراء من بابلَ وجدتُ أمرَ إعفائي من كافة وظائفي ومسؤولياتي الدينية والدنيوية !! ووجدتُ مع هذا الأمر مرسوماً ملكياً يقضي بإحالتي على التقاعد مع كامل مخصصاتي ومرتباتي التي كنتُ أتقاضها قبلاً . مضافاً إلى ذلك قطعة أرض أينما أشاء داخل حدود المملكة وداراً جميلة ً في منطقة كرادة مريم في بغداد ومخصصات حماية ومنحي لقب [ دوقة ] إلى الأبد يحمله ورثتي من بعدي . سألت ُ جلالته عن السبب فقال إنك خالفت البروتوكول المتبع في مملكتنا . غادرتِ المملكة بدون إذن ٍ مني . وغادرتِ لتلتقي برجل غريب ليس من طبقتنا . كانت وجنتاها تشعان لوناً وردياً يخطف الأبصار وهي تقصُّ عليَّ حكايتها . هل أواسيها على فقدانها إمتيازات الملوك والأرباب أم أهنئها على ما نالت من إمتيازات لا سابق لها في عالم التقاعد ؟ كانت في السابق آلهة ً مهيبةَ الجانب مطاعة الأمر واللحظ أما اليوم فلقد غدت نسخة بشرية ً أخرى عادية من الأنماط التي أرى وألاقي كل يوم هنا وهناك . ما كان الحصولُ على موعد للقائها في السابق أمراً هيناً بل كان في غاية الصعوبة . اليوم في وسعي أن أزورها متى ما أشاءُ أنا ومتى ما أرادت هي فكل الطرق وكل السبل مفتوحة أمامي متاحة ليلاً ونهاراً . وهذه أكبر مزايا البشر . هيأتُ نفسي للرحيل فطلبت منها تحديد موعد لألتقيها فقالت أمهلني شهراً واحداًُ كي أتكيف َ والوضعَ الجديد وحتى يتم تصليح ونصب أجهزتي. عند ذاك سأرسل لك إيميل أدعوك فيه لزيارتي وسأكون مع خدمي وحشمي في إستقبالك على مدرج مطار النجف .
مَن يا ترى يرفضُ في هذا اليوم دعوة ً سامية ً دبلوماسية المستوى ؟ هل سترفضها عشتارُ بابلَ وهي الدبلوماسية المحنكة ذات الباع الطويل في شؤون السياسة والإقتصاد وفن المراوغة والمناورة ؟ لا أظن ذلك . إذا ً توكلْ ووجهْ لها دعوتك ولسوف نرى . أرسلْ لها دعوتك بالطرق الدبلوماسية عن طريق سفارة العراق في برلين . فإنْ رفضت السفارةُ التعاونَ معك أرسلْ الدعوة لها بالبريد الألكتروني العادي فلا بروتوكولات ولا أتيكيتات ولا هم يحزنون . هذه الرسائل بسيطة تصل أهدافها بسرعة فائقة تضاهي سرعة سريان الكهرباء في أسلاكه المعدنية.
ماذا سأكتب لها في هذه الرسالة وهي لا تفهم أو تقبل إلا لغة الدبلوماسية العالية المستوى فقد دخلت دورة أمدها ستة أشهر في معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية العراقية ؟ قلْ لها مثلاً : سيدتي المبجَّلة مليكة بابل َاليوم وسومرَ في غابر الزمان ... آلهتي عشتروت أو عشتراو ... هل أنت مجرد ملكة أو أنك آلهة وربّة ؟ جوابكِ عن هذا السؤال ضروري يا سيدة . ضروري لأنه يترتب عليه أسلوب مخاطبة سموكم من ثم نمط وأساليب ومقتضيات حفل إستقبالكم الرسمي على أرض المطار وأوزان مَن سيشارك في هذا الإستقبال ؟ فإنْ سألتك وما قصدك من هذا السؤال أجبها إني بشر ٌ سوي ٌّ ممن يعبدونك ذو جسد لكني آلهة ٌ من روح دون جسد ... أنوي أن أوجه لجنابكم دعوة رسمية لزيارتي في مكان ما من هذا العالم الكروي . وإذا رفضتك ودعوَتك من باب التعالي عليك جملة ً وتفصيلا ً فما عسى أن ْ يكونَ موقفك ؟ سأقترح حينئذ ٍ عليها أنْ تغيّر جلدها وطبيعتها وطبيعة مهماتها لتغدو إمرأة ً بشراً صرفاً مثلي من لحم وعظم وعصب ودم . إمرأة كغيرها من نساء العالمين تحب وتكره تفرح وتحزن تأكل الطعام وتنام تزور وتزار تتزوج فتنجب . سأقترحُ عليها ـ إنْ تعذر عليها هذا الأمر ـ أنْ تطلبَ مساعدة إلهها الأعلى السيد مردوخ . وإنْ رفض التعاونَ معها هذا الربُ / الصنم ُ ؟ ستلجأ هي عند ذاك إلى مليك بابلَ جلالة حمورابي العظيم ذي الكرش الواسع والمقعد العريض والرقبة المخنوقة وصاحب المليارات في بنوك لندن وسويسرا ونيويورك وغيرها من العواصم . أمرٌ رئاسي ٌّ واحد ٌ منه كاف ٍ لتغيير كل ما في بابلَ من طقوس ٍ وعادات ٍ ومعتقدات ٍ ودمقراطيات توافقية وأخرى رقمية . أمرٌ واحدٌ لا يحتاج إلى موافقة برلمان بابلَ التوافقي أو المجالس الرئاسية القرة قوزية المتعددة الأشكال والألوان والطُرُز . مليكُ بابلَ اليومَ أقوى وأعلى مقاماً من ربه مردوخ . تنفستُ الصُعداء َ. وجدتُ الحل َّ الأمثل . لا من مشكلة ٍ تواجهني في هذا الأمر . البساطة بلسمٌ سحريٌّ يفكُّ العُقد ويعبّد الطرق ويفتح المسالك الصعبة والممالك البعيدة .
ها هي ضيفتي آلهة بابل َ سابقاً تخلت بمرسوم ٍ صادر عن مكتب الملك حمورابي عن نصفها [[ الألوهاني ]] وإحتفظت بنصفها البشري فجاءتني إمرأة ً كاملة َالأنوثة والنضج الجسدي كأنها سفيرة . لم أصدقْ عيني ! هل حقاً هذه هي عشتار ربة بابل سابقاً ؟ ربة الجنس المقدس والخُصب والتناسل ؟ مدت يدها تصافحني فوددتُ لو أقبلها في كل مكان من جسدها السامي الأصول والفروع . لو أقبلُ رأسَها وعينيها وخديها ثم شفتيها الورديتين . لم أجرؤ على القيام بذلك . إنها زيارتها الأولى لي فلأحتفظ أمامها بوقاري ورزانتي وثقل وزني ولأحفظ لها حرصها على صيانة مستلزمات هيبتها السابقة وهي التي كانت تملأ سمعَ وبصرَ العالمين . إحترامي لنفسي ثم هيبة عشتار التي غيّرت كلَّ شئ فيها إلا إسمها ولقبَ عائلتها المبارك القديم . ما أسباب هذه الدعوة يا صديق ؟ [ غدونا أصدقاء تربطنا علاقة صداقة لا علاقة عابد ٍ بمعبود ]. تلعثمتُ وتحيرتُ لأنني لا أعرف الجواب. لماذا دعوتها ؟ لا أدري . كانت مجرد نزوة ٍ وطيش ِ غرور ٍ وشطحة من شطحات خريف العمر . أريد أنثى أقول لها إني أحبك ... إني أتفانى في حبي هذا ... إني أعبدك حبيبة ً ونبية ً وربة ً أتتني من مسقط رأسي في بابل . ها هي الآن أمامي إمرأة ً وجسداً ممتلئاً له خوارٌ لا آلهة شبحاً من ظل ليس له حدود ٌ أو وجود . إنْ عبدتها فلسوف لا أعبدُ فيها إلا جسدَها الأنثوي التام النضوج الذي لم يكتمل على نار فحمٍ هادئة ٍ إلا بعد خمسين عاماً . بعد إستراحة مناسبة تخللتها أحاديث شتى مع الكثير من أكواب عصير البرتقال الطبيعي وبعض فاكهة الصيف عرضتُ عليها أن نتناول طعام الغداء في مطعم راق ٍ مجاور يقدم أفخرَ أنواع لحوم عجول البقر المشوية والمقلية مع الكثير من الخُضار الطازجة الشهية . هل من كأس جعّة أو منقوع الشعير ؟ قالت أجلْ ولكن بدون كحول . أنا متدينة ما دمتُ في عالمكم هذا بل وأميلُ إلى التوشح بربطة رأس وعباءة تنشق إلى نصفين عند الركبتين كي يظهرَ سروالي الحريري الجميل الذي أرتديه عادة ً مع هذه العباءة . تجوّلنا بعد الغداء في عوالم خيالية كثيرة لم ترَ هي مثيلاً لها لا في مملكة بابلَ ولا فيما عداها من ممالك ذاك الزمان . قالت قص َّ عليَّ أخبارَك وكيف تقضي أوقاتك وأية بلدان تزور وكيف تكتب مقالاتك وهل لديك صديقات غيري أو ربما حبيبات . ضحكتُ بأدب جم ثم قلت لها يا ضيفتي وزائرتي بعد قطيعة خمسة آلاف عام ... لم أكن لأصدق أني أراك ثانية ً معي وإننا هنا مجتمعان كصديقين مع الأمل أنْ تتطور صداقتنا إلى حب ٍّ أو شئ ٍ يشبه الحب . قالت ماذا تقصد ؟ أقصدُ أنْ تتكلمي أنت بالتفصيل عن مجمل أحوالك المدنية والدينية ، البشرية العادية وغيرها التي تخص شؤون ومسؤوليات الالهة العليا . كنت أنتِ على الدوام آلهة ً مرة ً للخصب والتناسل ومرة ً أخرى لممارسة الجنس المقدس في زوايا المعبد الذي يحمل إسمك في بابل وفي سومر قبل بابل . ثم كنت تتطوعين أحياناً لمساعدة الملك حمورابي في تصريف شؤون المملكة وتترأسين مكتبه الصحافي مستشارة ً في شؤون الإعلام أو مستشارة في أمور الحرب والسلام وتربية الحمام والديك الرومي ( علي شيش ) . وإذا تبقى لديك بعض الوقت تسامرين إلهك مردوخ وترفهين عنه في بعض قصوره الباذخة أو بين بساتين بابل العامرة أو على ضفاف نهر الفرات تحت القمر الكبير الخاص بمملكة بابل. وعليه يا صديقتي القديمة ـ الجديدة فإني أتوقع منك أن تسهبي في الحديث عن نفسك لا أنا مَن يتحدث. حياتي جفافٌ في جفاف لم أعاشر الملوك ولا الملكات ولا كنتُ يوماً خدينَ الأرباب والربّات . لم أكنزْ مالاً ولا ذهباً ولا فضة ً . حرمني البعثيون من وطني وداري وأهلي وسيارتي ومكتبتي وكانوا عازمين على التخلص مني بتصفيتي تحت التعذيب أو إغتيالاً في الطرقات المظلمة كما حدث مع الكثير من العراقيين . لذا تركتُ العراق للبعثيين ومَن والاهم وفضّلتُ التشرّد والمغامرات ومعي أطفالي لكي أجنبهم الكارثة التي كانت قاب قوسين أو أدنى منا . ماذا أحكي لك يا سيدة ٌ حاضرة ٌ أمامي ويا آلهة ٌ في غيابي ؟ أنتِ التي ستحكين وتقصين فأنا في الحقيقة مشتاق لأنْ أسمعك تتحدثين لي عن دقائق حياتك فأنتِ ما زلتِ غامضة ً بالنسبة لي بل ومجهولة كبحر الظلمات . لِمَ على سبيل المثال لبيتِ دعوتي وقبلتِ التنازل عن كافة خصائصك وإمتيازاتك الملكية وطبائع الآلهة فيكِ . ما الذي أغراك يا سيدتي بالنزول إلى مستوى البشر العادي وقبولك دعوتي التي وجهتها لك بالبريد الألكتروني الذي لا يليق بمقامات الملوك والآلهة وممارسي الجنس المقدس ؟ كيف قبلتِ دعوتي وقمتِ بزيارتي وماذا تتوقعين أنْ تجدي عندي ؟ تنهدتْ عشتارُ بابلَ عميقاً وبعد فترة صمت محيّر قالت : إشتقتُ للبشر ... وجدتُ فيَّ هوىً جباراً لا يُقاوم لأنْ أمارسَ بشريتي فقد ضقتُ ذرعاً بمسؤولياتي ملكة ً يوماً وآلهة ً يوماً ثانياً ونائبة ً للملك يوماً ثالثاً ونديمة ً ومحظية ً لمردوخ يوماً رابعاً . نعم يا صديق ، أسأمتني هذه الواجبات والمسؤوليات حتى كنتُ أحياناً أفضِّل الموتَ على مثل هذه الحياة . فأنا كما ترى بشرٌ كاملٌ مثلك فلِمَ التنازل عن إنسانيتي وطبيعتي البشرية وتقمص هيئة ملاك أو مليكة أو نصف آلهة ؟ ما هذا التلفيق العاري والتدليس عليكم أنتم بشر الكرة الأرضية ؟ كله خداع ... خداع في خداع ... خُدعة تجر ُّ إلى أخرى وهكذا دامت وعمّرت المهزلة آلاف السنين . أجد وأرى مظاهرها وأشكالها وتلاوينها عندكم اليوم في العراق الحديث سليل بابل القديمة ولا من شبه بين الإثنين .
قاربت الساعة السابعة مساء فتناولنا طعام العشاء في مطعم حديث يقدم الكباب العراقي [ لحم غنم ] مع خبز حار من التنور والطماطة المشوية .
أتفقنا أنْ نواصل حديثنا غداً وربما نقوم بسفرة على ظهر باخرة تمخر بنا مياه البحيرة الهائلة الواقعة في ضواحي المدينة المحاطة بالغابات الكثيفة وجبال الألب الشاهقة .
ذهبتُ وعشتار إلى مكان إقامتها في فندق فخم ذي خمس نجوم . ودّعتها عند مدخل الفندق وتركتُ على خديها قبلتين بريئتين جداً جداً .
...
قصدتُ فندقها صباح اليوم التالي في الوقت الذي حددنا حسب الإتفاق . فوجئت بل أصابتني صدمة كهربائية تشبه في بعض وجوهها الزلزلة . قدم لي مدير الفندق ورقة صغيرة صفراء اللون مكتوباً عليها بخط يد عشتار الذي أعرف ما يلي << يؤسفني أنْ أقولَ لك إني غادرتُ بلدك الجميل على عجل . طلب مني مجلس الرئاسة أنْ أعود لبابلَ على الفور . تعالَ زرني هناك إذا شئتَ . سأكون في إنتظارك . التوقيع : صديقتك عشتار >> . تركتُ الفندق ونجومه الخمس مترنحاً لا أقوى على السيطرة على حركات قدميَّ . شعرتُ بجوع غريب وظمأ لا يرحم . ماذا جرى ؟ ما حقيقة الأمر ؟ لم أجدْ جواباً فقررت أن أغادرَ قاصداً بابلَ كما إقترحت عشتارُ . حجزتُ تذكرة سفر ٍ على الطائرة المغادرة من مدينتي إلى مطار النجف . حطّت الطائرةُ في مطار النجف بعد أقل من ساعتين . إستأجرتُ سيارة تاكسي فطارت بي أسرع من الريح . فتحت الخادمُ باب قصر عشتارَ فماذا وجدتُ ؟ وجدت الصديقة التي تخلت عن تاج الملوكية وعرش الآلهة شعثى باكية في أتعس حال . وضعتُ كفي على رأسها ذي الشعر الطويل الناعم الكستنائي فرفعت عينيها صوبي . قامت تمسح الدموع التي سفحتها عيناها بسخاء فإنفرجت أساريرها قليلاً قليلاً ثم تبسّمت وقالت إجلسْ ، إجلسْ هنا قربي . حضر الشاي المعطّر بالهيل والدارسين والمعتق بمسحوق القرنفل . ماذا تودُ أنْ تأكل ؟ سألتني فقلتُ لا شئ ، قصّي عليَّ حكاية ما جرى . تركتني ومضت لتغتسلَ وتتكحل وتصلح زينتها وتمشط شعرها وتبدل ملابسها ثم عادت بعد فترة وجيزة مشرقة َ الوجه باسمة َ العينين . هيا إحكي لي يا صديقة قصة ما حدث لك .
قالت : كنت في حجرتي أتهيأ للنوم ففاجأتني إدارة الفندق ببرقية يطلب الملكُ حمورابي مني فيها العودة إلى بابل بأقصى سرعة ممكنة . حين وصلت قصرَ الملك في المنطقة الخضراء من بابلَ وجدتُ أمرَ إعفائي من كافة وظائفي ومسؤولياتي الدينية والدنيوية !! ووجدتُ مع هذا الأمر مرسوماً ملكياً يقضي بإحالتي على التقاعد مع كامل مخصصاتي ومرتباتي التي كنتُ أتقاضها قبلاً . مضافاً إلى ذلك قطعة أرض أينما أشاء داخل حدود المملكة وداراً جميلة ً في منطقة كرادة مريم في بغداد ومخصصات حماية ومنحي لقب [ دوقة ] إلى الأبد يحمله ورثتي من بعدي . سألت ُ جلالته عن السبب فقال إنك خالفت البروتوكول المتبع في مملكتنا . غادرتِ المملكة بدون إذن ٍ مني . وغادرتِ لتلتقي برجل غريب ليس من طبقتنا . كانت وجنتاها تشعان لوناً وردياً يخطف الأبصار وهي تقصُّ عليَّ حكايتها . هل أواسيها على فقدانها إمتيازات الملوك والأرباب أم أهنئها على ما نالت من إمتيازات لا سابق لها في عالم التقاعد ؟ كانت في السابق آلهة ً مهيبةَ الجانب مطاعة الأمر واللحظ أما اليوم فلقد غدت نسخة بشرية ً أخرى عادية من الأنماط التي أرى وألاقي كل يوم هنا وهناك . ما كان الحصولُ على موعد للقائها في السابق أمراً هيناً بل كان في غاية الصعوبة . اليوم في وسعي أن أزورها متى ما أشاءُ أنا ومتى ما أرادت هي فكل الطرق وكل السبل مفتوحة أمامي متاحة ليلاً ونهاراً . وهذه أكبر مزايا البشر . هيأتُ نفسي للرحيل فطلبت منها تحديد موعد لألتقيها فقالت أمهلني شهراً واحداًُ كي أتكيف َ والوضعَ الجديد وحتى يتم تصليح ونصب أجهزتي. عند ذاك سأرسل لك إيميل أدعوك فيه لزيارتي وسأكون مع خدمي وحشمي في إستقبالك على مدرج مطار النجف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق