خالد غزال
نظرة أخرى الى بدايات الديانة الإسلامية
الباحث الفرد لويس دي بريمار، الذي كان قبل وفاته عام 2006 أستاذاً في جامعة بروفانس ومدرساً وباحثاً في معهد الأبحاث والدراسات، حول العالمين العربي والإسلامي، يبحث في كتابه الموسوم "تأسيس الإسلام: بين الكتابة والتاريخ"، والصادر حديثاً عن "دار الساقي" (ترجمة عيسى محاسبي)، مسألة تأسيس الإسلام من منظور تاريخي محاولاً طرح فرضيات جديدة حول مرحلة ظهور الديانة الإسلامية وانتشارها إنطلاقاً من كتابات تاريخية إسلامية وأجنبية قديمة، واعتماداً على النقوش والوثائق والنصوص المبكرة التي وجدت في الرقعة الجغرافية التي انتشر عليها الإسلام في عقوده الأولى.
الشك في السيرة المحمدية المتداولة
يلقي الباحث بظلال الشك على موثوقية الكتابات التاريخية التي وصلتنا عن التراث الإسلامي، ويرفض الاعتبار الذي أخذ به البحث الغربي عن الإسلام حتى الآن والذي يعتبر القرآن "المصدر الوحيد الموثوق به كلياً تقريباً" (مكسيم رودنسون) في ما يخص حياة محمد، باعتبار أن القرآن يلمح الى الامور ولا يصرح بها.
لم تكتب حياة محمد إلا بعد وفاته بأكثر من قرن ونصف القرن، وربما اكثر. اما المؤلفات التي تشكل الآن الأساس المعتمد في كتابة سيرة محمد، فلم توضع إلا في القرن التاسع للميلاد. تعتبر المرويات المنسوبة الى محمد بن اسحاق (769م) بمنزلة الاساس في كتابة السيرة المحمدية كما كرسها المأثور الإسلامي، وكان قد كتبها او املاها بناء على طلب الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور (754-775). نعلم بشأن هذه المرويات من خلال سيرة ابن هشام (830م) وهي اهم السير المحمدية الإسلامية، إضافة الى ورود شذرات منها في مؤلفات يونس بن بُكَيْر (814 او 815م) وسَلَمة بن الفضل (807م) والطبري. ويخلص الباحث الى النتيجة التي كان قد وضعها، عام 2000، الباحث هارولد موتزكي ومؤداها أنه "من جهة نجد انه من المستحيل ان نكتب سيرة تاريخية للنبي من دون ان نُتَّهم بأننا نستخدم المصادر القديمة بشكل غير نقدي. ومن جهة اخرى، عندما نستخدم هذه المصادر بشكل نقدي، فاننا نجد بكل بساطة أنه من المستحيل أن نكتب مثل هذه السيرة".
يذكر أن اسم قريش غير موجود في شجرة انساب قبائل مكة التي ينتمي اليها محمد. ويقول ان هناك نوعين من القرشيين: "القرشيون الحقيقيون" المنتسبون إما الى "فهر" الذي كان رئيس جماعة من كنانة، وكان يدافع عن معبد مكة ضد هجمات احد ملوك حمير، وإما الى سليله قصي الذي ولد بعد ستة اجيال من ذلك، ونجح بعد مجيئه من سوريا أو من جنوب فلسطين في فرض سلطته على مكة والحلول محل قبيلة سابقة كانت تهيمن على معبد الكعبة. وهناك فرع "قريش الدليل" الذين اخذوا لقباً اطلق على دليل ابناء كنانة في تجارتهم. وقريش هو لقب يدل على القوة، وجمع الارزاق والاموال بفضل التجارة، والجامع/ الموحّد. وينتسب محمد الى قريش من النوع الأول.
يتحدث عن الناس المؤثرين من المحيطين بمحمد. يذكر تميم الداري، وهو مسيحي من منطقة سوريا - فلسطين، وتقول عنه كتب الحديث انه كان في كل سنة يقدم الى محمد قربة من الخمر، واستمر بذلك حتى تحريم الخمر. وعنه روى محمد حديثاً في خصوص النبي الدجال الذي ينذر بنهاية الأزمان.
يحلل بعض حوادث هجرة الرسول من مكة الى يثرب. ويتساءل عن علاقة يثرب بالمدينة، ليخلص الى ان يثرب هي ناحية من المدينة التي كانت مركزاً لمجموعة من القرى المحيطة بها، علماً ان النبي حرّم تسمية المدينة يثرب وسمّاها طابة أو طاب أو طيْبة، بحسب نقلة الحديث. ويروى عن محمد انه قال "ان الله اوحي اليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنّسرين". والبحرين كانت إسماً لكل المنطقة الساحلية الممتدة على طول الخليج الفارسي، أما قنّسرين فتقع في صحراء سوريا على مسافة مسيرة يوم جنوب حلب. واختار محمد المدينة لأن فيها أنصاراً له، "وقد كان عددهم سبعين شخصاً، تماماً كعدد اتباع يسوع. وكذلك كان ممثلوهم اثني عشر شخصاً، تماماً كالإثني عشر الذين مثلوا اسباط اسرائيل لدى موسى، وكالإثني عشر من حواريّي يسوع".
يطرح اساس قرار النبي الانتقال الى المدينة للتساؤل. وينقل بعض الروايات القديمة التي تفيد بأن قرشيّي مكة من اقرباء محمد، ثم انصاره في يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يتنافسون: فكل طرف يريد ان يبقى محمد عنده. "وفي نهاية المطاف تنازل اعيان قريش عن موقفهم، بمن فيهم اولئك الذين يصوَّرون في العادة على انهم اعداؤه الالداء كأبي سفيان وعمرو بن العاص. لقد تنازلوا لكي يتحاشوا اندلاع صراع عنيف مع قبائل يثرب". اما عن سبب حذف هذه المرويات من السير النبوية، فيرجح تحليل المستشرق م. ليكر الذي يعتبر "ان هذه الأدبيات تفضّل التحدث عن نبي مضطهد ومهان على ان تقول بأن طريق المدينة كان معبّداً امامه من جراء تسوية سياسية". ويطرح مسألة خلاف محمد مع قرشيي مكة كلها للشك، على اعتبار انه لم يرد ذكرهم في صحيفة يثرب التي صاغت اسس تحالف محمد مع قبائل يثرب اليهودية، الا مرة واحدة في الرواية التي ينقلها ابن هشام في جملة ربما اقحمت على النص الأصلي.
نظرة تاريخية للردّات
تشتهر في المدونات الإسلامية كتب "الردّة"، واول ما نعرفه من هذه الكتب هو كتاب لأبي مخنف (774م). تعتبر هذه الكتابات أن سبب حروب "الردّة" التي اندلعت بعد وفاة محمد هو ارتداد المحارَبين عن الدين الجديد. ولكن المعارضين لخلافة ابي بكر لم يرفضوا الإسلام بل رفضوا دفع الزكاة والصدقة، وقد شنّ ابو بكر عليهم هجومات قائلاً: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه الى رسول الله لقاتلتهم عليه ابداً ما حييت".
هذا إضافة الى أن ابا بكر حارب بعض الحركات الإقليمية السياسية التي لم تدخل اصلاً في الإسلام لكي يقال انها ارتدّت، كالحركة التي كانت بقيادة نبي منافس في اليمامة هو مسيلمة بن حبيب، وحركة عيهلة العنسي في اليمن، وحركة نبي منافس آخر هو طليحة الأسدي في نجد، وحركة "سجاح" التي ثارت على رأس قبيلة بني تميم في وسط الجزيرة العربية مدّعية النبوة بدورها. ويذكر الباحث أن طليحة الأسدي ومسيلمة بن حبيب برعا في النثر المقفى (الأول يشهد له الجاحظ)، أما ما يروى عن لسان مسيلمة في كتب التراث الإسلامي فهو مختلق بغية تسفيهه.
يتابع الباحث الفرد لويس دي بريمار تحليل بعض المسائل التي تنتمي زمنياً الى بدايات انتشار الرسالة الإسلامية، مضيئاً على جوانب كثيرة أهملتها الكتب الإسلامية التراثية التي تعتبر رسمية.
وصول الكتابة الى الحجاز
تختلف المرويات العربية حول اصل الكتابة العربية، فكثير منها يرجع هذا الأصل الى النبي اسماعيل أو الى آدم. لكن الكتابة العربية وصلت الى الحجاز من الشمال حيث مدينة الحيرة. يروي البلاذري أن بشر بن عبد الملك، وهو مسيحي من الجندل وأخو زعيمها اكيدر، هو الذي تعلم الكتابة العربية خلال سفراته التجارية الى الحيرة، ونشرها في مكة ثم في الطائف، وقد تم ذلك في بداية القرن السابع الميلادي بحسب شواهد النص. يقول البلاذري: "دخل الإسلام وفي قريش سبعة رجال كلهم يكتب"، ومنهم عمر وعثمان وعلي وابي سفيان ومعاوية. ويروي أنه كان في يثرب أشخاص يتقنون الكتابة العربية ومنهم زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب اللذان سيكتبان لمحمد. وهناك رواية اخرى يوردها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" مفادها أن والد أبي سفيان هو الذي "ذهب الى الحيرة وعاد منها بالخط الى مكة". المهم أن العربية اتت الى الحجاز من الحيرة، وقبل زمن محمد بقليل. والحيرة هي مركز تحالف القبائل اللخمية الذي كان يد الفرس الضاربة قبل سيطرة الفرس مباشرة على المنطقة سنة 611م بعد خشيتهم من استقلال اللخميين. وقد ذابت الحيرة بعد الفتح الإسلامي في مدينة الكوفة.
جمع القرآن
تعود المعلومات التي كتبها المسلمون عن تاريخ النص القرآني في معظمها الى القرن التاسع الميلادي وما بعده. تختلف بحسب المصادر اسماء الذين جمعوا القرآن وعددهم. وبالنسبة الى "جمع" القرآن، يرى الباحث ان هذه العملية تمّت بالإستناد الى صحف مكتوبة إضافة الى آيات محفوظة في "صدور الرجال".
إن مفهوم القرآن كان، في البداية، يجمع القرآن والحديث. ففي رسالة منسوبة الى زيد بن علي حديثان يفتتحان بعبارة "قال محمد"، ومضمونهما موجود في نص القرآن الحالي مع تعديل اسلوبي طفيف.
ينقل عن زيد بن ثابت الذي كلفه كل من ابي بكر وعمر وعثمان جمع القرآن قوله: "فكنت اتبع القرآن اجمعه من الرقاع والاكتاف والعُسُب وصدور الرجال"، وفي رواية اخرى: "فتتبعت القرآن انسخه من الصحف والعسب وصدور الرجال". وهناك رواية اخرى تقول ان أبيّ بن كعب هو الذي جمع القرآن. ويروى ان عائشة، زوجة محمد، كانت تمتلك في عهد الخليفة عثمان "الأُدُم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله". الا ان جمع القرآن انطلق من مصحف آخر كان محفوظاً عند زوجة النبي حفصة بنت عمر بن الخطاب.
تسمى النسخة القرآنية المتداولة بين المسلمين "مصحف عثمان"، دلالة على أن عثمان هو الذي جمع القرآن. لكن عملية الجمع بدأها أبو بكر ثم أكملها عمر، وبعد وفاة عمر (644م)، حفظت الصحف لدى حفصة بنت عمر. واستكمل عمر عملية الجمع، في إشراف زيد بن ثابت، انطلاقاً من الصحف المحفوظة لدى حفصة، والتي اعادها اليها بعد العملية، ثم أمر بحرق كل النسخ الأخرى. وقد اثار اختيار عثمان لزيد بن ثابت حفيظة عبد الله بن مسعود فصرخ قائلاً: "ما لي ولزيد ولقراءة زيد، لقد اخذت من في رسول الله سبعين سورة وان زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان". وعندما صار مروان بن الحكم، وهو ابن عم عثمان، والياً على المدينة (قبل ان يصير الخليفة) طالب حفصة بتسليمه الصحف التي تمتلكها لإحراقها فرفضت. ولكن بعد وفاتها، سلّمه هذه الصحف أخوها عبد الله فمزقها وحرقها، "ولا تقول لنا الروايات لماذا. ولكننا نعلم انه (عبد الله) رفض أن يقدم البيعة لعلي بن ابي طالب، منافس معاوية على السلطة". ولا يعلم ما هو محتوى صحف حفصة.
ومن طريق ابن ابي داؤود السجستاني، مؤلف "كتاب المصاحف"، نعلم ان عبيد الله بن زياد (حفيد ابي سفيان الذي خلف والده سنة 675م على العراق وسحق انتفاضة الخوارج عام 678م وقاد العمليات التي ادت الى هزيمة الحسين بن علي ومقتله في كربلاء عام 680م) تدخل في تثبيت النصوص القرآنية، فقد كلّف كاتبه يزيد الفارسي إدخال إضافات عديدة عليها، فـ"زاد في المصحف الفي حرف"، ويقول السجستاني أن ما أضيف هو احرف العلة الطويلة، وهذا تخمين منه.
ثم تدخل الحجاج بن يوسف، والي العراق، في النص القرآني (يروى انه ادخل النقاط وحروف العلة للمرة الأولى). وتقول بعض المصادر ان الحجاج شكّل مصحفه الخاص وأرسل منه نسخاً الى مختلف عواصم الامبراطورية لاعتماده، وامر بتلف المصاحف الباقية. وتقول مصادر اخرى ان النسخ المغايرة بقيت تُتداول وأن الخلفاء العباسيين ألغوا مصحف الحجاج. وقد عاش الحجاج معظم حياته السياسية في ظل خلافة عبد الملك بن مروان الذي ينقل عنه البلاذري قوله: "أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن".
في كل الأحوال، ارتبط تاريخ النصوص القرآنية في بدايته بأربعة أشخاص تتكرر اسماؤهم في جميع المرويات وهم: أبيّ بن كعب، زيد بن ثابت، عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري. تتحدث روايات عن مصحف أبيّ بن كعب الخاص الذي كان يحظى برضا الأوساط الإسلامية السورية، ويختلف فيه ترتيب السور عنه في النسخة الحالية للقرآن. وهناك مصحف عبد الله بن مسعود الذي لم يكن يحتوي على سورة الفاتحة وسورتي المعوذتين، ويعرف بـ"مصحف الكوفة" الذي كان يرضى عنه معارضو عثمان والأمويين. ويتحدث البعض عن مصحف ابي موسى الأشعري الذي كان يحظى بالتقدير في البصرة. المهم أن عثمان أمر بجمع المصاحف الأخرى واحرقها، ولكن النسخ غير الرسمية ظلت متداولة لفترة طويلة بعد جمع عثمان للقرآن (جرت محاكمات لعلماء في بغداد في القرن العاشر على خلفية انهم يتلون القرآن على غير مصحف عثمان).
أما عن دخول السياسة في صناعة الأحاديث المروية عن النبي، وعن ارتباط رواة الحديث الأوائل بالحكام، فللباحث كلام كثير. كما يتحدث عن دور "الموالي" في تشكيل الكتابات الإسلامية.
حسن عباس
لا حرج في طرح الأسئلة وتجاوزها
يعاني الباحثون في تاريخ الاديان معضلة المصادر الاصلية والوثائق الصحيحة عن فترة التأسيس الاولى، وخصوصا ان جميع الكتابات التي تناولت التأريخ للاديان التوحيدية كتبت بعد وفاة المؤسسين بعقود واحيانا بقرون، مما يضع الباحثين امام معضلة مزدوجة تتصل بمدى الثقة بالمصادر، ومدى تعبيرها عن حقيقة الوقائع. يكتسب الامر صعوبة اكبر عندما يجد الباحثون أنفسهم امام تأريخ للدين تغلب عليه الاسطرة اكثر منه التحليل العلمي. اصابت هذه المعضلة الدينين اليهودي والمسيحي، كما طالت الدين الاسلامي. على رغم غزارة الإنتاج البحثي حول الفترة الاولى من تأسيس الاسلام، والذي يتسم بعضه بالموضوعية وبعضه الاخر بالطابع الايديولوجي، فإن كتاب "تأسيس الاسلام، بين الكتابة والتاريخ" لمؤلفه الفرد لويس دي بريمار، يسعى الى تقديم تأريخ يتسم بالموضوعية من خلال استخدام المناهج العلمية الحديثة في قراءة الوثائق التاريخية. صدر الكتاب عن "دار الساقي" و"رابطة العقلانيين العرب"، وترجمه عيسى محاسبي.
يسعى الكاتب الى اعادة فحص الدين الاسلامي منذ البدايات الاولى للتأسيس، مستندا الى الوثائق التي وصلت الينا من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، وخصوصا الذين اعتمدوا كتابات تتصل بالسيرة النبوية وجمع الاحاديث المنسوبة الى الرسول، وهذا ما جعله ينطلق في بحثه من محاولة كتابة سيرة النبي وصولا الى "جمع القرآن". يشير الكاتب الى ان معظم الوثائق التي نمتلكها حاليا والمستخدمة في قراءة المراحل الاولى للاسلام ، يغلب عليها كونها مصادر ادبية مكتوبة باللغة العربية، فيما يندر وجود مصادر اجنبية في هذا الخصوص. تتسم الكتابات التأريخية الاسلامية القديمة بكونها سرديات متقطعة صادرة عن اكثر من "مخبر"، وكل حادثة لها اسناد عن الاشخاص الذين تناقلوا الخبر جيلا عن جيل، وليس ادل على ذلك من شيوع هذا التعبير: "حدثنا فلان عن فلان...". يضاف الى ذلك ان معظم هذه المرويات وصلت الينا بعد قرنين على حصول الحدث، في فترة كان النقل الشفهي هو الاساس في تأليف الكتب.
تزداد الصعوبة في الوصول الى تأريخ صحيح للاسلام عندما نرى ان المصادر الاسلامية القديمة يغلب عليها طابع التقديس في كتابة السيرة النبوية، بحيث تحولت هذه السيرة "اسطورة بطولية – دينية اكثر مما هي سيرة تاريخية حقيقية". يستشهد الكاتب بالمؤرخ جون وانسبرو الذي يقول: "ان قصص السيرة المتعلقة بنبي الاسلام مشكّلة في قسم كبير منها، او معاد تشكيلها، ثم مرتّبة اخيرا ضمن منظور تاريخ الخلاص". ليس غريبا ان ينحو التأريخ للاسلام وجهة "التعظيم والاسطرة"، فقد كتبت هذه النصوص بعد قرنين من حصول الحوادث الفعلية، وكان طبيعيا ان تغلب عليها الحماسة والدفاع عن الامة الاسلامية في مواجهة الامم الاخرى واظهار فرادتها، بمعنى آخر، اتسمت هذه الكتابات بطابع "ايديولوجي" هادف الى الاعلاء من شأن الدين الجديد على حساب سائر الاديان. وهو امر يجعل من هذه الروايات ذات المقصد الديني والتي باتت تشكل فعليا "التاريخ الاسلامي للخلاص"، ابعد ما تكون عن التغطية التاريخية الفعلية للاسلام.
تحتل الكتابة عن السيرة النبوية موقعا مركزيا في التأريخ للاسلام، ويختلط فيها ما قاله الرواة مع الاحاديث المنسوبة الى النبي ثم اعتماد بعض النصوص القرآنية. اتسمت الكتابات الاولى عن اصول الاسلام بالروايات عن الحملات العسكرية التي قادها الرسول ضد عبادة الوثنية في الجزيرة العربية، ثم لاحقا في الحملات الخارجية لنشر الدين والزام اقوام اخرى اعتناقه. لكن المؤلفات التي وضعت عن حياة محمد ونشاطه صدرت بعد اكثر من قرن ونصف قرن على موته، وهذا امر جعل الكثير من الباحثين، وخصوصا الغربيين منهم، يطرحون علامات استفهام حول صحة التأريخ ومدى صدقية المرويات، مما دفع البعض منهم الى القول بوجوب اعتبار القرآن "المصدر الوحيد الموثوق به كليا تقريبا" على ما يشير ماكسيم رودنسون. بل يذهب البعض الى اعتبار ان الكثير من كتب السيرة وضعت في الاصل لتفسير مقاطع متعددة من الايات القرآنية. يعتمد القرآن التلميح والترميز اكثر منه التصريح، كما انه مليء بالالغاز البعيدة عن "الوضوح ذي الطابع التاريخي". هذا البعد الاسطوري الذي يغلب على السيرة النبوية، يقلص كثيرا من حجم الثقة التي يمكن ايلاؤها الى الاخبار والروايات التي كتبت في وقت متأخر، مما يجعل البحث العلمي المعاصر في وضع يجد نفسه فيه مجبرا على ازاحة هذه الروايات والكتابات الخاصة بالنبي، والتركيز على النقد والتمحيص العلمي لهذه المصادر، وخصوصا ان المناهج العلمية الحديثة في دراسة المجتمعات والاديان باتت توفر مرجعية يمكن الاستناد اليه في فرز الحقيقي والتاريخي عن الغيبي والاسطوري.
يولي الكاتب اهمية لما يعرف بـ"السنّة"، وهي مدوّنة من النصوص على شكل احاديث منسوبة الى الرسول، وتشكل اليوم جزءا من النص الديني الاسلامي. تحوي الاحاديث مجموعة ضخمة من الاقوال والافعال والمسالك التي تعزى جميعها الى النبي، والتي اطلقها خلال مسيرته الطويلة في تأسيس الدين الجديد. تعتمد هذه الاحاديث على اسناد من الصحابة او المقربين من الرسول، بصرف النظر عن الثقة بهذا الاسناد او الشك فيه، لكن ذلك لم يمنع من ان الحديث بات يوازي النص القرآني، بل يتجاوزه بكثير لكونه اصبح معيار الاخلاق الاسلامية ونموذج السلوك والتفكير الواجب اعتماده. تثير الاحاديث مشكلة كبيرة عند اخضاعها الى التمحيص العلمي، فهي تضم مجموعة ضخمة من الاقوال يصل الى مئات الالاف بحيث يُطرح سؤال بديهي عن قدرة شخص واحد على قول هذا الكلام كله. الاخطر من ذلك، الامر الذي تعترف به الكثير من الدوائر الاسلامية، ويقوم على كون الكثير من هذه الاحاديث لا تنتسب الى النبي مطلقا، وقد وضعت وظهرت لاحقا بعد وفاة النبي، وازدهرت خلال الفتوحات اللاحقة، وخصوصا ايضا في الصراع السياسي الذي نشب بين القبائل الاسلامية على الحق في الخلافة والسلطة بعد الرسول، مما دفع كل فئة الى "استحضار" احاديث نبوية تصب في مصلحة هذا الطرف او ذاك.
على رغم قول ماكسيم رودنسون "ان محمدا هو من بين جميع مؤسسي الاديان الكونية الكبرى الشخص الذي نعرفه بشكل افضل"، الا ان الكاتب يتحفظ عن هذا الحكم ويرى ان الكتابة الفعلية لسيرة النبي تبدو مستحيلة بالنظر الى طبيعة المصادر الاسلامية التي لا تقدم المعطيات الفعلية لكتابة هذا التاريخ. لكن السؤال المطروح، هل من الضروري ان تكون هناك رواية وسيرة للنبي محمد من اجل ان نتمكن من فهم اصول الاسلام ومفاهيمه؟ لا يجد الكاتب حرجا في تجاوز هذا السؤال.
نظرة أخرى الى بدايات الديانة الإسلامية
الباحث الفرد لويس دي بريمار، الذي كان قبل وفاته عام 2006 أستاذاً في جامعة بروفانس ومدرساً وباحثاً في معهد الأبحاث والدراسات، حول العالمين العربي والإسلامي، يبحث في كتابه الموسوم "تأسيس الإسلام: بين الكتابة والتاريخ"، والصادر حديثاً عن "دار الساقي" (ترجمة عيسى محاسبي)، مسألة تأسيس الإسلام من منظور تاريخي محاولاً طرح فرضيات جديدة حول مرحلة ظهور الديانة الإسلامية وانتشارها إنطلاقاً من كتابات تاريخية إسلامية وأجنبية قديمة، واعتماداً على النقوش والوثائق والنصوص المبكرة التي وجدت في الرقعة الجغرافية التي انتشر عليها الإسلام في عقوده الأولى.
الشك في السيرة المحمدية المتداولة
يلقي الباحث بظلال الشك على موثوقية الكتابات التاريخية التي وصلتنا عن التراث الإسلامي، ويرفض الاعتبار الذي أخذ به البحث الغربي عن الإسلام حتى الآن والذي يعتبر القرآن "المصدر الوحيد الموثوق به كلياً تقريباً" (مكسيم رودنسون) في ما يخص حياة محمد، باعتبار أن القرآن يلمح الى الامور ولا يصرح بها.
لم تكتب حياة محمد إلا بعد وفاته بأكثر من قرن ونصف القرن، وربما اكثر. اما المؤلفات التي تشكل الآن الأساس المعتمد في كتابة سيرة محمد، فلم توضع إلا في القرن التاسع للميلاد. تعتبر المرويات المنسوبة الى محمد بن اسحاق (769م) بمنزلة الاساس في كتابة السيرة المحمدية كما كرسها المأثور الإسلامي، وكان قد كتبها او املاها بناء على طلب الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور (754-775). نعلم بشأن هذه المرويات من خلال سيرة ابن هشام (830م) وهي اهم السير المحمدية الإسلامية، إضافة الى ورود شذرات منها في مؤلفات يونس بن بُكَيْر (814 او 815م) وسَلَمة بن الفضل (807م) والطبري. ويخلص الباحث الى النتيجة التي كان قد وضعها، عام 2000، الباحث هارولد موتزكي ومؤداها أنه "من جهة نجد انه من المستحيل ان نكتب سيرة تاريخية للنبي من دون ان نُتَّهم بأننا نستخدم المصادر القديمة بشكل غير نقدي. ومن جهة اخرى، عندما نستخدم هذه المصادر بشكل نقدي، فاننا نجد بكل بساطة أنه من المستحيل أن نكتب مثل هذه السيرة".
يذكر أن اسم قريش غير موجود في شجرة انساب قبائل مكة التي ينتمي اليها محمد. ويقول ان هناك نوعين من القرشيين: "القرشيون الحقيقيون" المنتسبون إما الى "فهر" الذي كان رئيس جماعة من كنانة، وكان يدافع عن معبد مكة ضد هجمات احد ملوك حمير، وإما الى سليله قصي الذي ولد بعد ستة اجيال من ذلك، ونجح بعد مجيئه من سوريا أو من جنوب فلسطين في فرض سلطته على مكة والحلول محل قبيلة سابقة كانت تهيمن على معبد الكعبة. وهناك فرع "قريش الدليل" الذين اخذوا لقباً اطلق على دليل ابناء كنانة في تجارتهم. وقريش هو لقب يدل على القوة، وجمع الارزاق والاموال بفضل التجارة، والجامع/ الموحّد. وينتسب محمد الى قريش من النوع الأول.
يتحدث عن الناس المؤثرين من المحيطين بمحمد. يذكر تميم الداري، وهو مسيحي من منطقة سوريا - فلسطين، وتقول عنه كتب الحديث انه كان في كل سنة يقدم الى محمد قربة من الخمر، واستمر بذلك حتى تحريم الخمر. وعنه روى محمد حديثاً في خصوص النبي الدجال الذي ينذر بنهاية الأزمان.
يحلل بعض حوادث هجرة الرسول من مكة الى يثرب. ويتساءل عن علاقة يثرب بالمدينة، ليخلص الى ان يثرب هي ناحية من المدينة التي كانت مركزاً لمجموعة من القرى المحيطة بها، علماً ان النبي حرّم تسمية المدينة يثرب وسمّاها طابة أو طاب أو طيْبة، بحسب نقلة الحديث. ويروى عن محمد انه قال "ان الله اوحي اليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنّسرين". والبحرين كانت إسماً لكل المنطقة الساحلية الممتدة على طول الخليج الفارسي، أما قنّسرين فتقع في صحراء سوريا على مسافة مسيرة يوم جنوب حلب. واختار محمد المدينة لأن فيها أنصاراً له، "وقد كان عددهم سبعين شخصاً، تماماً كعدد اتباع يسوع. وكذلك كان ممثلوهم اثني عشر شخصاً، تماماً كالإثني عشر الذين مثلوا اسباط اسرائيل لدى موسى، وكالإثني عشر من حواريّي يسوع".
يطرح اساس قرار النبي الانتقال الى المدينة للتساؤل. وينقل بعض الروايات القديمة التي تفيد بأن قرشيّي مكة من اقرباء محمد، ثم انصاره في يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يتنافسون: فكل طرف يريد ان يبقى محمد عنده. "وفي نهاية المطاف تنازل اعيان قريش عن موقفهم، بمن فيهم اولئك الذين يصوَّرون في العادة على انهم اعداؤه الالداء كأبي سفيان وعمرو بن العاص. لقد تنازلوا لكي يتحاشوا اندلاع صراع عنيف مع قبائل يثرب". اما عن سبب حذف هذه المرويات من السير النبوية، فيرجح تحليل المستشرق م. ليكر الذي يعتبر "ان هذه الأدبيات تفضّل التحدث عن نبي مضطهد ومهان على ان تقول بأن طريق المدينة كان معبّداً امامه من جراء تسوية سياسية". ويطرح مسألة خلاف محمد مع قرشيي مكة كلها للشك، على اعتبار انه لم يرد ذكرهم في صحيفة يثرب التي صاغت اسس تحالف محمد مع قبائل يثرب اليهودية، الا مرة واحدة في الرواية التي ينقلها ابن هشام في جملة ربما اقحمت على النص الأصلي.
نظرة تاريخية للردّات
تشتهر في المدونات الإسلامية كتب "الردّة"، واول ما نعرفه من هذه الكتب هو كتاب لأبي مخنف (774م). تعتبر هذه الكتابات أن سبب حروب "الردّة" التي اندلعت بعد وفاة محمد هو ارتداد المحارَبين عن الدين الجديد. ولكن المعارضين لخلافة ابي بكر لم يرفضوا الإسلام بل رفضوا دفع الزكاة والصدقة، وقد شنّ ابو بكر عليهم هجومات قائلاً: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه الى رسول الله لقاتلتهم عليه ابداً ما حييت".
هذا إضافة الى أن ابا بكر حارب بعض الحركات الإقليمية السياسية التي لم تدخل اصلاً في الإسلام لكي يقال انها ارتدّت، كالحركة التي كانت بقيادة نبي منافس في اليمامة هو مسيلمة بن حبيب، وحركة عيهلة العنسي في اليمن، وحركة نبي منافس آخر هو طليحة الأسدي في نجد، وحركة "سجاح" التي ثارت على رأس قبيلة بني تميم في وسط الجزيرة العربية مدّعية النبوة بدورها. ويذكر الباحث أن طليحة الأسدي ومسيلمة بن حبيب برعا في النثر المقفى (الأول يشهد له الجاحظ)، أما ما يروى عن لسان مسيلمة في كتب التراث الإسلامي فهو مختلق بغية تسفيهه.
يتابع الباحث الفرد لويس دي بريمار تحليل بعض المسائل التي تنتمي زمنياً الى بدايات انتشار الرسالة الإسلامية، مضيئاً على جوانب كثيرة أهملتها الكتب الإسلامية التراثية التي تعتبر رسمية.
وصول الكتابة الى الحجاز
تختلف المرويات العربية حول اصل الكتابة العربية، فكثير منها يرجع هذا الأصل الى النبي اسماعيل أو الى آدم. لكن الكتابة العربية وصلت الى الحجاز من الشمال حيث مدينة الحيرة. يروي البلاذري أن بشر بن عبد الملك، وهو مسيحي من الجندل وأخو زعيمها اكيدر، هو الذي تعلم الكتابة العربية خلال سفراته التجارية الى الحيرة، ونشرها في مكة ثم في الطائف، وقد تم ذلك في بداية القرن السابع الميلادي بحسب شواهد النص. يقول البلاذري: "دخل الإسلام وفي قريش سبعة رجال كلهم يكتب"، ومنهم عمر وعثمان وعلي وابي سفيان ومعاوية. ويروي أنه كان في يثرب أشخاص يتقنون الكتابة العربية ومنهم زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب اللذان سيكتبان لمحمد. وهناك رواية اخرى يوردها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" مفادها أن والد أبي سفيان هو الذي "ذهب الى الحيرة وعاد منها بالخط الى مكة". المهم أن العربية اتت الى الحجاز من الحيرة، وقبل زمن محمد بقليل. والحيرة هي مركز تحالف القبائل اللخمية الذي كان يد الفرس الضاربة قبل سيطرة الفرس مباشرة على المنطقة سنة 611م بعد خشيتهم من استقلال اللخميين. وقد ذابت الحيرة بعد الفتح الإسلامي في مدينة الكوفة.
جمع القرآن
تعود المعلومات التي كتبها المسلمون عن تاريخ النص القرآني في معظمها الى القرن التاسع الميلادي وما بعده. تختلف بحسب المصادر اسماء الذين جمعوا القرآن وعددهم. وبالنسبة الى "جمع" القرآن، يرى الباحث ان هذه العملية تمّت بالإستناد الى صحف مكتوبة إضافة الى آيات محفوظة في "صدور الرجال".
إن مفهوم القرآن كان، في البداية، يجمع القرآن والحديث. ففي رسالة منسوبة الى زيد بن علي حديثان يفتتحان بعبارة "قال محمد"، ومضمونهما موجود في نص القرآن الحالي مع تعديل اسلوبي طفيف.
ينقل عن زيد بن ثابت الذي كلفه كل من ابي بكر وعمر وعثمان جمع القرآن قوله: "فكنت اتبع القرآن اجمعه من الرقاع والاكتاف والعُسُب وصدور الرجال"، وفي رواية اخرى: "فتتبعت القرآن انسخه من الصحف والعسب وصدور الرجال". وهناك رواية اخرى تقول ان أبيّ بن كعب هو الذي جمع القرآن. ويروى ان عائشة، زوجة محمد، كانت تمتلك في عهد الخليفة عثمان "الأُدُم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله". الا ان جمع القرآن انطلق من مصحف آخر كان محفوظاً عند زوجة النبي حفصة بنت عمر بن الخطاب.
تسمى النسخة القرآنية المتداولة بين المسلمين "مصحف عثمان"، دلالة على أن عثمان هو الذي جمع القرآن. لكن عملية الجمع بدأها أبو بكر ثم أكملها عمر، وبعد وفاة عمر (644م)، حفظت الصحف لدى حفصة بنت عمر. واستكمل عمر عملية الجمع، في إشراف زيد بن ثابت، انطلاقاً من الصحف المحفوظة لدى حفصة، والتي اعادها اليها بعد العملية، ثم أمر بحرق كل النسخ الأخرى. وقد اثار اختيار عثمان لزيد بن ثابت حفيظة عبد الله بن مسعود فصرخ قائلاً: "ما لي ولزيد ولقراءة زيد، لقد اخذت من في رسول الله سبعين سورة وان زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان". وعندما صار مروان بن الحكم، وهو ابن عم عثمان، والياً على المدينة (قبل ان يصير الخليفة) طالب حفصة بتسليمه الصحف التي تمتلكها لإحراقها فرفضت. ولكن بعد وفاتها، سلّمه هذه الصحف أخوها عبد الله فمزقها وحرقها، "ولا تقول لنا الروايات لماذا. ولكننا نعلم انه (عبد الله) رفض أن يقدم البيعة لعلي بن ابي طالب، منافس معاوية على السلطة". ولا يعلم ما هو محتوى صحف حفصة.
ومن طريق ابن ابي داؤود السجستاني، مؤلف "كتاب المصاحف"، نعلم ان عبيد الله بن زياد (حفيد ابي سفيان الذي خلف والده سنة 675م على العراق وسحق انتفاضة الخوارج عام 678م وقاد العمليات التي ادت الى هزيمة الحسين بن علي ومقتله في كربلاء عام 680م) تدخل في تثبيت النصوص القرآنية، فقد كلّف كاتبه يزيد الفارسي إدخال إضافات عديدة عليها، فـ"زاد في المصحف الفي حرف"، ويقول السجستاني أن ما أضيف هو احرف العلة الطويلة، وهذا تخمين منه.
ثم تدخل الحجاج بن يوسف، والي العراق، في النص القرآني (يروى انه ادخل النقاط وحروف العلة للمرة الأولى). وتقول بعض المصادر ان الحجاج شكّل مصحفه الخاص وأرسل منه نسخاً الى مختلف عواصم الامبراطورية لاعتماده، وامر بتلف المصاحف الباقية. وتقول مصادر اخرى ان النسخ المغايرة بقيت تُتداول وأن الخلفاء العباسيين ألغوا مصحف الحجاج. وقد عاش الحجاج معظم حياته السياسية في ظل خلافة عبد الملك بن مروان الذي ينقل عنه البلاذري قوله: "أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن".
في كل الأحوال، ارتبط تاريخ النصوص القرآنية في بدايته بأربعة أشخاص تتكرر اسماؤهم في جميع المرويات وهم: أبيّ بن كعب، زيد بن ثابت، عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري. تتحدث روايات عن مصحف أبيّ بن كعب الخاص الذي كان يحظى برضا الأوساط الإسلامية السورية، ويختلف فيه ترتيب السور عنه في النسخة الحالية للقرآن. وهناك مصحف عبد الله بن مسعود الذي لم يكن يحتوي على سورة الفاتحة وسورتي المعوذتين، ويعرف بـ"مصحف الكوفة" الذي كان يرضى عنه معارضو عثمان والأمويين. ويتحدث البعض عن مصحف ابي موسى الأشعري الذي كان يحظى بالتقدير في البصرة. المهم أن عثمان أمر بجمع المصاحف الأخرى واحرقها، ولكن النسخ غير الرسمية ظلت متداولة لفترة طويلة بعد جمع عثمان للقرآن (جرت محاكمات لعلماء في بغداد في القرن العاشر على خلفية انهم يتلون القرآن على غير مصحف عثمان).
أما عن دخول السياسة في صناعة الأحاديث المروية عن النبي، وعن ارتباط رواة الحديث الأوائل بالحكام، فللباحث كلام كثير. كما يتحدث عن دور "الموالي" في تشكيل الكتابات الإسلامية.
حسن عباس
لا حرج في طرح الأسئلة وتجاوزها
يعاني الباحثون في تاريخ الاديان معضلة المصادر الاصلية والوثائق الصحيحة عن فترة التأسيس الاولى، وخصوصا ان جميع الكتابات التي تناولت التأريخ للاديان التوحيدية كتبت بعد وفاة المؤسسين بعقود واحيانا بقرون، مما يضع الباحثين امام معضلة مزدوجة تتصل بمدى الثقة بالمصادر، ومدى تعبيرها عن حقيقة الوقائع. يكتسب الامر صعوبة اكبر عندما يجد الباحثون أنفسهم امام تأريخ للدين تغلب عليه الاسطرة اكثر منه التحليل العلمي. اصابت هذه المعضلة الدينين اليهودي والمسيحي، كما طالت الدين الاسلامي. على رغم غزارة الإنتاج البحثي حول الفترة الاولى من تأسيس الاسلام، والذي يتسم بعضه بالموضوعية وبعضه الاخر بالطابع الايديولوجي، فإن كتاب "تأسيس الاسلام، بين الكتابة والتاريخ" لمؤلفه الفرد لويس دي بريمار، يسعى الى تقديم تأريخ يتسم بالموضوعية من خلال استخدام المناهج العلمية الحديثة في قراءة الوثائق التاريخية. صدر الكتاب عن "دار الساقي" و"رابطة العقلانيين العرب"، وترجمه عيسى محاسبي.
يسعى الكاتب الى اعادة فحص الدين الاسلامي منذ البدايات الاولى للتأسيس، مستندا الى الوثائق التي وصلت الينا من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، وخصوصا الذين اعتمدوا كتابات تتصل بالسيرة النبوية وجمع الاحاديث المنسوبة الى الرسول، وهذا ما جعله ينطلق في بحثه من محاولة كتابة سيرة النبي وصولا الى "جمع القرآن". يشير الكاتب الى ان معظم الوثائق التي نمتلكها حاليا والمستخدمة في قراءة المراحل الاولى للاسلام ، يغلب عليها كونها مصادر ادبية مكتوبة باللغة العربية، فيما يندر وجود مصادر اجنبية في هذا الخصوص. تتسم الكتابات التأريخية الاسلامية القديمة بكونها سرديات متقطعة صادرة عن اكثر من "مخبر"، وكل حادثة لها اسناد عن الاشخاص الذين تناقلوا الخبر جيلا عن جيل، وليس ادل على ذلك من شيوع هذا التعبير: "حدثنا فلان عن فلان...". يضاف الى ذلك ان معظم هذه المرويات وصلت الينا بعد قرنين على حصول الحدث، في فترة كان النقل الشفهي هو الاساس في تأليف الكتب.
تزداد الصعوبة في الوصول الى تأريخ صحيح للاسلام عندما نرى ان المصادر الاسلامية القديمة يغلب عليها طابع التقديس في كتابة السيرة النبوية، بحيث تحولت هذه السيرة "اسطورة بطولية – دينية اكثر مما هي سيرة تاريخية حقيقية". يستشهد الكاتب بالمؤرخ جون وانسبرو الذي يقول: "ان قصص السيرة المتعلقة بنبي الاسلام مشكّلة في قسم كبير منها، او معاد تشكيلها، ثم مرتّبة اخيرا ضمن منظور تاريخ الخلاص". ليس غريبا ان ينحو التأريخ للاسلام وجهة "التعظيم والاسطرة"، فقد كتبت هذه النصوص بعد قرنين من حصول الحوادث الفعلية، وكان طبيعيا ان تغلب عليها الحماسة والدفاع عن الامة الاسلامية في مواجهة الامم الاخرى واظهار فرادتها، بمعنى آخر، اتسمت هذه الكتابات بطابع "ايديولوجي" هادف الى الاعلاء من شأن الدين الجديد على حساب سائر الاديان. وهو امر يجعل من هذه الروايات ذات المقصد الديني والتي باتت تشكل فعليا "التاريخ الاسلامي للخلاص"، ابعد ما تكون عن التغطية التاريخية الفعلية للاسلام.
تحتل الكتابة عن السيرة النبوية موقعا مركزيا في التأريخ للاسلام، ويختلط فيها ما قاله الرواة مع الاحاديث المنسوبة الى النبي ثم اعتماد بعض النصوص القرآنية. اتسمت الكتابات الاولى عن اصول الاسلام بالروايات عن الحملات العسكرية التي قادها الرسول ضد عبادة الوثنية في الجزيرة العربية، ثم لاحقا في الحملات الخارجية لنشر الدين والزام اقوام اخرى اعتناقه. لكن المؤلفات التي وضعت عن حياة محمد ونشاطه صدرت بعد اكثر من قرن ونصف قرن على موته، وهذا امر جعل الكثير من الباحثين، وخصوصا الغربيين منهم، يطرحون علامات استفهام حول صحة التأريخ ومدى صدقية المرويات، مما دفع البعض منهم الى القول بوجوب اعتبار القرآن "المصدر الوحيد الموثوق به كليا تقريبا" على ما يشير ماكسيم رودنسون. بل يذهب البعض الى اعتبار ان الكثير من كتب السيرة وضعت في الاصل لتفسير مقاطع متعددة من الايات القرآنية. يعتمد القرآن التلميح والترميز اكثر منه التصريح، كما انه مليء بالالغاز البعيدة عن "الوضوح ذي الطابع التاريخي". هذا البعد الاسطوري الذي يغلب على السيرة النبوية، يقلص كثيرا من حجم الثقة التي يمكن ايلاؤها الى الاخبار والروايات التي كتبت في وقت متأخر، مما يجعل البحث العلمي المعاصر في وضع يجد نفسه فيه مجبرا على ازاحة هذه الروايات والكتابات الخاصة بالنبي، والتركيز على النقد والتمحيص العلمي لهذه المصادر، وخصوصا ان المناهج العلمية الحديثة في دراسة المجتمعات والاديان باتت توفر مرجعية يمكن الاستناد اليه في فرز الحقيقي والتاريخي عن الغيبي والاسطوري.
يولي الكاتب اهمية لما يعرف بـ"السنّة"، وهي مدوّنة من النصوص على شكل احاديث منسوبة الى الرسول، وتشكل اليوم جزءا من النص الديني الاسلامي. تحوي الاحاديث مجموعة ضخمة من الاقوال والافعال والمسالك التي تعزى جميعها الى النبي، والتي اطلقها خلال مسيرته الطويلة في تأسيس الدين الجديد. تعتمد هذه الاحاديث على اسناد من الصحابة او المقربين من الرسول، بصرف النظر عن الثقة بهذا الاسناد او الشك فيه، لكن ذلك لم يمنع من ان الحديث بات يوازي النص القرآني، بل يتجاوزه بكثير لكونه اصبح معيار الاخلاق الاسلامية ونموذج السلوك والتفكير الواجب اعتماده. تثير الاحاديث مشكلة كبيرة عند اخضاعها الى التمحيص العلمي، فهي تضم مجموعة ضخمة من الاقوال يصل الى مئات الالاف بحيث يُطرح سؤال بديهي عن قدرة شخص واحد على قول هذا الكلام كله. الاخطر من ذلك، الامر الذي تعترف به الكثير من الدوائر الاسلامية، ويقوم على كون الكثير من هذه الاحاديث لا تنتسب الى النبي مطلقا، وقد وضعت وظهرت لاحقا بعد وفاة النبي، وازدهرت خلال الفتوحات اللاحقة، وخصوصا ايضا في الصراع السياسي الذي نشب بين القبائل الاسلامية على الحق في الخلافة والسلطة بعد الرسول، مما دفع كل فئة الى "استحضار" احاديث نبوية تصب في مصلحة هذا الطرف او ذاك.
على رغم قول ماكسيم رودنسون "ان محمدا هو من بين جميع مؤسسي الاديان الكونية الكبرى الشخص الذي نعرفه بشكل افضل"، الا ان الكاتب يتحفظ عن هذا الحكم ويرى ان الكتابة الفعلية لسيرة النبي تبدو مستحيلة بالنظر الى طبيعة المصادر الاسلامية التي لا تقدم المعطيات الفعلية لكتابة هذا التاريخ. لكن السؤال المطروح، هل من الضروري ان تكون هناك رواية وسيرة للنبي محمد من اجل ان نتمكن من فهم اصول الاسلام ومفاهيمه؟ لا يجد الكاتب حرجا في تجاوز هذا السؤال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق