د. عدنان الظاهر
أستمتعُ كثيراً بقراءة نصوص الصديق الدكتور زهدي خورشيد الداوودي سواءً أكانت سرداً روائياً حول وقائع تأريخية مأساوية ككتاب اليوم أو عرضاً للسيرة الذاتية كما في كتاب ( تحوّلات / المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، الطبعة الأولى 2007 ) . إنه قادرٌ متمكّنٌ من كلا الفنين وإنه يسيطر على هذين الضربين من السرد ما شاءت له السيطرة . إنه كاتب لا يكبو ولا تخونه ذاكرته ولا موهبته في سرد الأحداث بأساليب متقنة ولغة عربية متينة سليمة ( تقريباً ) علماً أنه سليل عائلة كردية ـ تركمانية .
كرّسَ الدكتور زهدي رواية ( فردوس قرية الأشباح ) لتسجيل كارثة تدمير وحرق القرى والأرياف وما حلَّ في وادي كفران من محافظة كركوك خلال عامي 1987 و 1988 . لعب أدوار هذه الرواية ثلاثة رجال وثلاث نساء نجوا من الكارثة بما يشبه الأعجوبة . رجلٌ طاعنٌ في السن إسمه الشيخ رمضان وإمرأته العجوز ريحانة دمّرَت عناصر من الجيش العراقي منزلهما وهمَّ بالشيخ عسكريٌّ حاول قتله لولا تدخّل ضابط شاب ! وليس بعيداً عن منزل رمضان فلت من الموت صبيٌّ إسمه كاميران حيث إستطاعَ الإختباء وراءَ حظيرة الدجاج . وبعد زمن قصير يكتشف الشيخ رمضان ومعه كاميران فتاة إسمها شيرين لا تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها جالسةً على دكّة بين الأنقاض تحتضنُ صرّةً صفراء . نستمع إلى حوار دار بين هذه الفتاة والشيخ رمضان :
[[ بنتي هل يمكنك أنْ تقولي لنا كيف نصلُ إلى بيت السيد العربي ؟ عندما سمعت المرأةُ إسم السيد تغيّرت ملامحُ وجهها وبدت متفتحةً وأكثرَ جمالاً ثم رفعت عينيها المطرزتين بأهداب طويلة سوداء وألقت عليهما نظرة إستطلاعية سريعة وبعد صمت قصير قالت : في نهاية هذا الطريق ، إنه يسكن في خيمة . ماؤهُ باردٌ . ولكن لماذا أنتِ جالسة هنا بين هذه الأنقاض ، هل تنتظرين أحداً ؟ أجابت بصوتٍ هادئ رقيق : أجل ، أنتظر خطيبي . وأين هو خطيبُك ؟ لا أدري ولكنه يبحث عني . إنه سيأتي . إنني ذهبتُ مع والدتي وأختي إلى المدينة لشراء جهاز العرس داخل هذه الصرّة . إشتريناهُ كاملاً بعد أنْ أعلنّا الخطبة ، وحين رجعنا لم نجده . قالوا أخذوه ولكنني أعرفُ أنه سيرجعُ . وأين أمكِ وأختكِ ؟ لا أدري ، إنهما ذهبتا للبحث عن أبي وإخواني / الصفحة 56 ]] . الشابة شيرين ذاهلة لا تصدّقُ حقيقة ما وقع على قريتها ولا على ما ترى عيناها من خراب ودمار وحرائق . تجلس على دكة ربما تعود لبيت ذويها السابق الذي كان بيتاً . إنها ـ رغم هذا الدمار ـ تنتظر عودة خطيبها الذي إختطفته مع غيره من الرجال والنساء وحدةٌ من الجيش العراقي ولا أحد يعرف مصير هؤلاء المُختطفين . ليست شيرين المسكينة المنكوبة بأهلها وخطيبها ... ليست هي وحدها في حالة الذهول هذه ، إنما يشاركها فيها الصبي كاميران الذي فقد هو الآخرُ أهله والدار التي يملكون . شيرين تنتظر سُدىً ولا تريدُ أنْ تُصدِّقَ ما جرى . شيرين معلّقةٌ بأمل عودة خطيبها وما أشد لوعة الإنسان حين يتعلق بأمل غير منظور ! أما كاميران فوقعُ هول المصيبة عليه أشد وطأةً . غدا هذا الصبيُّ يرى أهله ، أمّه وأباه وباقي إخوته ويقصُّ على الشيخ رمضان قصص وتفاصيل ما يرى أو يتراءى له . نستمع إلى بعض رؤاه :
[[ ... وحين همَّ بترك الزريبة رأى شيئاً غريباً صدمه بقوةٍ بحيثُ تسمّرَ في مكانه دون أنْ يُصدّق عينيه . وجد والده واقفاً وراء الباب بوجه شاحب وعينين براقتين حزينتين كما لو أنه يُريدُ أنْ يُخفي نفسه عن الأنظار . إقتحمته رعشةٌ مفاجئةٌ ، ظلَّ متسمراً في مكانه ومُحدّقاً في عيني والده الكئيبتين دون أنْ يتأكدَ ما إذا كان هذا هو نفسه أم شبحه . وقال بصوتٍ خافت وبصورة لا إرادية كما لو أنه يحلمُ : بابا ، هل هربتَ منهم ؟ / الصفحة 26 ]]. تذكّرني هذه اللوحة بمسرحية هاملت حيث يتراءى شبح والد هذا له فوق سطوح قلعة ألسينور في الدنمارك . لا يريد أو لا يستطيعُ الناس تحمّل الصدمات القوية فيقعون فرائس لآمال لا من حقيقة لها أو تتراءى لهم هذه الآمال في عالم الحلم كحقائق لا من شكٍّ فيها . يجتمعون أو يرون موتاهم لأنَّ هذه هي أمانيهم ورغباتهم . ينشط اللاوعي ويقوى في دنيا الأحلام من حيثُ لا يستطيعُ قهر الوعي في العالم الحقيقي . ليست هذه هي المرة الأولى التي يحلم فيها الصبيُّ كاميران ، إنما تلتها مرات فيها من التفاصيل الشيء الكثير [[ ... قال الصبيُّ بلهجةٍ صارمة : هل تعتقدُ أنني أهذي يا جدُّ ؟ العنزات رأيتها بنفسي في بيتنا مثلما رأيتُ أفرادَ أهلي وأهلك العائدين حتى أنني لم أقتلْ الذئبَ كي لا أزعجهم في نومهم العميق بدويِّ الإطلاقة / الصفحة 52 ]] . لهذه الأسباب قرر الشيخ رمضان عرض كاميران والبنت شيرين على الحكيم السيد العربي لعلاجهما وإنقاذهما من حالة الذهول والهذيان اللتين لا تختلفان عن حالة الخبال . زاروا بالفعل السيد العربي الذي أقام مع زوجه العجوز في خيمة سوداء بعد أنْ دمّرت وحدات عسكرية عراقية داره وباقي بيوت قريته . في الخيمة السوداء هذه مكثت شيرين وكاميران أسبوعاً كاملاً لكي تشملهما بركات السيد ليتخلصا من حالة الخبال ولكنْ ، هنا في هذه الخيمة السوداء المحاطة بحطام البيوت الطينية تنشأ قصة غرام فريد بين شيرين والصبي الذي يصغرها بأحد عشرَ عاماً . دكتور زهدي خبير متمرس بارع في شؤون الرومانس وله صبر عجيب ودقة متناهية في ملاحقة النفوس العاشقة ورسم حالاتها المتبدلة [ بداية هذا الرومانس في الصفحة 61 وتتصاعد وتائره إعتباراً من الصفحة 95 ] .
الحياة ، الأرض ، الوطن
تفرضُ هذه الروايةُ على قارئها جملةً من المبادئ والمسلّمات ولكن بطريقة ملموسة ومنطق قوي واضح لا يحتاج إلى برهنة أو حذلقة . على رأسها تشبث الإنسان بالحياة ومن أنَّ الحياة أقوى من الموت ومن كل دمار . الإنسان قادرٌ على النهوض والمقاومة ومواصلة دورة الحياة حتى بأفقر الوسائل والسبل . أمامنا المدينة اليابانية هيروشيما المنكوية بالقنبلة الذرية يوم السادس من شهر شباط 1945 وأمامنا أوربا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وها هي أوربا المزدهرة الموحّدة كما يراها الناس اليوم ، وتلك هيروشيما التي قامت من بين حرائق ونيران وإشعاعات القنبلة الذرية تستعيدُ صحتها وعافيتها وتنهضُ بإنسانها وكأنَّ شيئاً لم يكنْ البتّةَ . عاش أشخاص الرواية الستة في منطقة محظورة عسكرياً بعيدة عن المدينة وواصلوا حياتهم رغم إستطلاعات طائرات العدو وتحليقات سمتياته و ( زركات ) سيارات شرطته واستفزازات رجال زعيم الجحوش خضر أغا . أداموا حياتهم بما ادخّروا من حبوب جافة كالفاصولياء والقمحجود به عليهم حيواناتهم المتآلفة معهم في بيوتهم كالدجاج والماعز . الحياة تقف بوجه الموت بقوة وثبات وتتحدى جبروتَ سطوته لتفرض نفسها وتواصل دوراتها . كما أنَّ تشبث هذه النخبة من الناس ببيوتهم المهدّمة فوق رؤوسهم وبأراضيهم إنما هو الوجه الآخر للحياة . التشبث بالأرض وطناً وملجأً وسَكناً هو التشبث بالحياة والرضوخ لمشيئتها والتطابق مع نواميسها والخضوع لقوانينها الأبدية الصارمة . لم يشأ الشيخ رمضان الطاعن بالسن أنْ يغادرَ بيته المُدمّر ولا أنْ يغادرَ قريته المهددة دوماً بالقصف الجوي والمراقبة من عالي السماء فضلاً عن عصابات الجحوش المتعاونين مع سلطات البعث في بغداد . وهل من حياةٍ للإنسان بدون أرض ووطن ؟ لا أدري من قال وقد أحسن فيما قال : مَنْ لا وطنَ له ليس له قبرٌ !
أبدع الدكتور زهدي إذ جعل الحياة والمقاومة في وادي كفران جبلاً وسهلاً والمناطق المجاورة لهذا الوادي تسيران جنباً لجنب رغم الموت والحصار والتهديد الدائم ورغم شحّة الموارد التي تقتضيها مهمات مواصلة المقاومة والحياة من سلاح وطعام وماء . فكتب عن شبان خمسة مقاومين زاروا بيت الشيخ رمضان حين كان هذا غائباً بمعية كاميران وشيرين. كتب عن ضابط شاب كان متعاطفاً مع الشيخ فلم يسمح بقتله كما أراد بعض جنوده . الرحمة موجودة إذاً حتى في أحلك الظروف والأوقات . كما كانت الطبيعة متعاونةً مع هذه النخبة من البشر ففي الآبار ماء عذبٌ شراباً سائغاً وتحت الأرض كمأةٌ لذيدة طعاماً شهيا وفي المخازن السريّة قمحٌ وإنْ سرق معظمه الحرامية والجحوش . وما زالت العنزات تزودهم بالحليب والزبدة والدجاجاتُ بالبيض . كما أهلَّ موسم حصاد غلّة الأرض مع قدوم الربيع وفي مقدمه أمل .
الآن ، ما سرُّ وسببُ إقحام صاحب الرواية بالقصة الرومانسية بين شيرين وكاميران ؟ مهما كانت دوافعه فإنَ قراره هذا قرارٌ جليل القيمة والرمز والمغزى . إمرأتان عجوزتان ورجلان عجوزان وضع زهدي إزاءهم شابةً وصبياً يمثلان الحياة والأمل . وهل من حياةٍ بلا حب والحب هو الطريق الطبيعي للزواج والإنجاب أي ديمومة الحياة على سطح الكرة الأرضية ؟ من هنا جاءت تسمية الرواية {{ فردوس قرية الأشباح }} . هناك فردوس حقيقي وسط الدمار والخراب وأشباح من بشر حقيقي وأخرى من وحي الهلوسات .
جعل الروائي الدكتور زهدي الداوودي روايته مفتوحة النهاية . لا نعرف مصير هؤلاء الناس المعزولين ولا كيف واصلوا حياتهم في ظل ظروف بالغة القسوة . كما بقينا نجهلُ مصير علاقة شيرين بكاميران : هل تزوجا وأنجبا أم لا ؟ ما مصيرُ جهاز عرسها وما كان فيه ؟ في مكالمة تلفونية أخبرني العزيز زهدي أنَّ الحالة هناك تغيّرت بعد إنتفاضة شعبان 1991 في الشمال والجنوب ثم إعتبار كردستان منطقة آمنة تحرسها طائرات الولايات المتحدة الأمريكية وقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
· * فردوس قرية الأشباح / رواية للدكتور زهدي الداوودي . الناشر : دار ئراس للطباعة والنشر ، أربيل ( 2008 ؟ )
أستمتعُ كثيراً بقراءة نصوص الصديق الدكتور زهدي خورشيد الداوودي سواءً أكانت سرداً روائياً حول وقائع تأريخية مأساوية ككتاب اليوم أو عرضاً للسيرة الذاتية كما في كتاب ( تحوّلات / المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، الطبعة الأولى 2007 ) . إنه قادرٌ متمكّنٌ من كلا الفنين وإنه يسيطر على هذين الضربين من السرد ما شاءت له السيطرة . إنه كاتب لا يكبو ولا تخونه ذاكرته ولا موهبته في سرد الأحداث بأساليب متقنة ولغة عربية متينة سليمة ( تقريباً ) علماً أنه سليل عائلة كردية ـ تركمانية .
كرّسَ الدكتور زهدي رواية ( فردوس قرية الأشباح ) لتسجيل كارثة تدمير وحرق القرى والأرياف وما حلَّ في وادي كفران من محافظة كركوك خلال عامي 1987 و 1988 . لعب أدوار هذه الرواية ثلاثة رجال وثلاث نساء نجوا من الكارثة بما يشبه الأعجوبة . رجلٌ طاعنٌ في السن إسمه الشيخ رمضان وإمرأته العجوز ريحانة دمّرَت عناصر من الجيش العراقي منزلهما وهمَّ بالشيخ عسكريٌّ حاول قتله لولا تدخّل ضابط شاب ! وليس بعيداً عن منزل رمضان فلت من الموت صبيٌّ إسمه كاميران حيث إستطاعَ الإختباء وراءَ حظيرة الدجاج . وبعد زمن قصير يكتشف الشيخ رمضان ومعه كاميران فتاة إسمها شيرين لا تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها جالسةً على دكّة بين الأنقاض تحتضنُ صرّةً صفراء . نستمع إلى حوار دار بين هذه الفتاة والشيخ رمضان :
[[ بنتي هل يمكنك أنْ تقولي لنا كيف نصلُ إلى بيت السيد العربي ؟ عندما سمعت المرأةُ إسم السيد تغيّرت ملامحُ وجهها وبدت متفتحةً وأكثرَ جمالاً ثم رفعت عينيها المطرزتين بأهداب طويلة سوداء وألقت عليهما نظرة إستطلاعية سريعة وبعد صمت قصير قالت : في نهاية هذا الطريق ، إنه يسكن في خيمة . ماؤهُ باردٌ . ولكن لماذا أنتِ جالسة هنا بين هذه الأنقاض ، هل تنتظرين أحداً ؟ أجابت بصوتٍ هادئ رقيق : أجل ، أنتظر خطيبي . وأين هو خطيبُك ؟ لا أدري ولكنه يبحث عني . إنه سيأتي . إنني ذهبتُ مع والدتي وأختي إلى المدينة لشراء جهاز العرس داخل هذه الصرّة . إشتريناهُ كاملاً بعد أنْ أعلنّا الخطبة ، وحين رجعنا لم نجده . قالوا أخذوه ولكنني أعرفُ أنه سيرجعُ . وأين أمكِ وأختكِ ؟ لا أدري ، إنهما ذهبتا للبحث عن أبي وإخواني / الصفحة 56 ]] . الشابة شيرين ذاهلة لا تصدّقُ حقيقة ما وقع على قريتها ولا على ما ترى عيناها من خراب ودمار وحرائق . تجلس على دكة ربما تعود لبيت ذويها السابق الذي كان بيتاً . إنها ـ رغم هذا الدمار ـ تنتظر عودة خطيبها الذي إختطفته مع غيره من الرجال والنساء وحدةٌ من الجيش العراقي ولا أحد يعرف مصير هؤلاء المُختطفين . ليست شيرين المسكينة المنكوبة بأهلها وخطيبها ... ليست هي وحدها في حالة الذهول هذه ، إنما يشاركها فيها الصبي كاميران الذي فقد هو الآخرُ أهله والدار التي يملكون . شيرين تنتظر سُدىً ولا تريدُ أنْ تُصدِّقَ ما جرى . شيرين معلّقةٌ بأمل عودة خطيبها وما أشد لوعة الإنسان حين يتعلق بأمل غير منظور ! أما كاميران فوقعُ هول المصيبة عليه أشد وطأةً . غدا هذا الصبيُّ يرى أهله ، أمّه وأباه وباقي إخوته ويقصُّ على الشيخ رمضان قصص وتفاصيل ما يرى أو يتراءى له . نستمع إلى بعض رؤاه :
[[ ... وحين همَّ بترك الزريبة رأى شيئاً غريباً صدمه بقوةٍ بحيثُ تسمّرَ في مكانه دون أنْ يُصدّق عينيه . وجد والده واقفاً وراء الباب بوجه شاحب وعينين براقتين حزينتين كما لو أنه يُريدُ أنْ يُخفي نفسه عن الأنظار . إقتحمته رعشةٌ مفاجئةٌ ، ظلَّ متسمراً في مكانه ومُحدّقاً في عيني والده الكئيبتين دون أنْ يتأكدَ ما إذا كان هذا هو نفسه أم شبحه . وقال بصوتٍ خافت وبصورة لا إرادية كما لو أنه يحلمُ : بابا ، هل هربتَ منهم ؟ / الصفحة 26 ]]. تذكّرني هذه اللوحة بمسرحية هاملت حيث يتراءى شبح والد هذا له فوق سطوح قلعة ألسينور في الدنمارك . لا يريد أو لا يستطيعُ الناس تحمّل الصدمات القوية فيقعون فرائس لآمال لا من حقيقة لها أو تتراءى لهم هذه الآمال في عالم الحلم كحقائق لا من شكٍّ فيها . يجتمعون أو يرون موتاهم لأنَّ هذه هي أمانيهم ورغباتهم . ينشط اللاوعي ويقوى في دنيا الأحلام من حيثُ لا يستطيعُ قهر الوعي في العالم الحقيقي . ليست هذه هي المرة الأولى التي يحلم فيها الصبيُّ كاميران ، إنما تلتها مرات فيها من التفاصيل الشيء الكثير [[ ... قال الصبيُّ بلهجةٍ صارمة : هل تعتقدُ أنني أهذي يا جدُّ ؟ العنزات رأيتها بنفسي في بيتنا مثلما رأيتُ أفرادَ أهلي وأهلك العائدين حتى أنني لم أقتلْ الذئبَ كي لا أزعجهم في نومهم العميق بدويِّ الإطلاقة / الصفحة 52 ]] . لهذه الأسباب قرر الشيخ رمضان عرض كاميران والبنت شيرين على الحكيم السيد العربي لعلاجهما وإنقاذهما من حالة الذهول والهذيان اللتين لا تختلفان عن حالة الخبال . زاروا بالفعل السيد العربي الذي أقام مع زوجه العجوز في خيمة سوداء بعد أنْ دمّرت وحدات عسكرية عراقية داره وباقي بيوت قريته . في الخيمة السوداء هذه مكثت شيرين وكاميران أسبوعاً كاملاً لكي تشملهما بركات السيد ليتخلصا من حالة الخبال ولكنْ ، هنا في هذه الخيمة السوداء المحاطة بحطام البيوت الطينية تنشأ قصة غرام فريد بين شيرين والصبي الذي يصغرها بأحد عشرَ عاماً . دكتور زهدي خبير متمرس بارع في شؤون الرومانس وله صبر عجيب ودقة متناهية في ملاحقة النفوس العاشقة ورسم حالاتها المتبدلة [ بداية هذا الرومانس في الصفحة 61 وتتصاعد وتائره إعتباراً من الصفحة 95 ] .
الحياة ، الأرض ، الوطن
تفرضُ هذه الروايةُ على قارئها جملةً من المبادئ والمسلّمات ولكن بطريقة ملموسة ومنطق قوي واضح لا يحتاج إلى برهنة أو حذلقة . على رأسها تشبث الإنسان بالحياة ومن أنَّ الحياة أقوى من الموت ومن كل دمار . الإنسان قادرٌ على النهوض والمقاومة ومواصلة دورة الحياة حتى بأفقر الوسائل والسبل . أمامنا المدينة اليابانية هيروشيما المنكوية بالقنبلة الذرية يوم السادس من شهر شباط 1945 وأمامنا أوربا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وها هي أوربا المزدهرة الموحّدة كما يراها الناس اليوم ، وتلك هيروشيما التي قامت من بين حرائق ونيران وإشعاعات القنبلة الذرية تستعيدُ صحتها وعافيتها وتنهضُ بإنسانها وكأنَّ شيئاً لم يكنْ البتّةَ . عاش أشخاص الرواية الستة في منطقة محظورة عسكرياً بعيدة عن المدينة وواصلوا حياتهم رغم إستطلاعات طائرات العدو وتحليقات سمتياته و ( زركات ) سيارات شرطته واستفزازات رجال زعيم الجحوش خضر أغا . أداموا حياتهم بما ادخّروا من حبوب جافة كالفاصولياء والقمحجود به عليهم حيواناتهم المتآلفة معهم في بيوتهم كالدجاج والماعز . الحياة تقف بوجه الموت بقوة وثبات وتتحدى جبروتَ سطوته لتفرض نفسها وتواصل دوراتها . كما أنَّ تشبث هذه النخبة من الناس ببيوتهم المهدّمة فوق رؤوسهم وبأراضيهم إنما هو الوجه الآخر للحياة . التشبث بالأرض وطناً وملجأً وسَكناً هو التشبث بالحياة والرضوخ لمشيئتها والتطابق مع نواميسها والخضوع لقوانينها الأبدية الصارمة . لم يشأ الشيخ رمضان الطاعن بالسن أنْ يغادرَ بيته المُدمّر ولا أنْ يغادرَ قريته المهددة دوماً بالقصف الجوي والمراقبة من عالي السماء فضلاً عن عصابات الجحوش المتعاونين مع سلطات البعث في بغداد . وهل من حياةٍ للإنسان بدون أرض ووطن ؟ لا أدري من قال وقد أحسن فيما قال : مَنْ لا وطنَ له ليس له قبرٌ !
أبدع الدكتور زهدي إذ جعل الحياة والمقاومة في وادي كفران جبلاً وسهلاً والمناطق المجاورة لهذا الوادي تسيران جنباً لجنب رغم الموت والحصار والتهديد الدائم ورغم شحّة الموارد التي تقتضيها مهمات مواصلة المقاومة والحياة من سلاح وطعام وماء . فكتب عن شبان خمسة مقاومين زاروا بيت الشيخ رمضان حين كان هذا غائباً بمعية كاميران وشيرين. كتب عن ضابط شاب كان متعاطفاً مع الشيخ فلم يسمح بقتله كما أراد بعض جنوده . الرحمة موجودة إذاً حتى في أحلك الظروف والأوقات . كما كانت الطبيعة متعاونةً مع هذه النخبة من البشر ففي الآبار ماء عذبٌ شراباً سائغاً وتحت الأرض كمأةٌ لذيدة طعاماً شهيا وفي المخازن السريّة قمحٌ وإنْ سرق معظمه الحرامية والجحوش . وما زالت العنزات تزودهم بالحليب والزبدة والدجاجاتُ بالبيض . كما أهلَّ موسم حصاد غلّة الأرض مع قدوم الربيع وفي مقدمه أمل .
الآن ، ما سرُّ وسببُ إقحام صاحب الرواية بالقصة الرومانسية بين شيرين وكاميران ؟ مهما كانت دوافعه فإنَ قراره هذا قرارٌ جليل القيمة والرمز والمغزى . إمرأتان عجوزتان ورجلان عجوزان وضع زهدي إزاءهم شابةً وصبياً يمثلان الحياة والأمل . وهل من حياةٍ بلا حب والحب هو الطريق الطبيعي للزواج والإنجاب أي ديمومة الحياة على سطح الكرة الأرضية ؟ من هنا جاءت تسمية الرواية {{ فردوس قرية الأشباح }} . هناك فردوس حقيقي وسط الدمار والخراب وأشباح من بشر حقيقي وأخرى من وحي الهلوسات .
جعل الروائي الدكتور زهدي الداوودي روايته مفتوحة النهاية . لا نعرف مصير هؤلاء الناس المعزولين ولا كيف واصلوا حياتهم في ظل ظروف بالغة القسوة . كما بقينا نجهلُ مصير علاقة شيرين بكاميران : هل تزوجا وأنجبا أم لا ؟ ما مصيرُ جهاز عرسها وما كان فيه ؟ في مكالمة تلفونية أخبرني العزيز زهدي أنَّ الحالة هناك تغيّرت بعد إنتفاضة شعبان 1991 في الشمال والجنوب ثم إعتبار كردستان منطقة آمنة تحرسها طائرات الولايات المتحدة الأمريكية وقرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
· * فردوس قرية الأشباح / رواية للدكتور زهدي الداوودي . الناشر : دار ئراس للطباعة والنشر ، أربيل ( 2008 ؟ )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق