الخميس، سبتمبر 03، 2009

أطفأتها بأنواري

د. عدنان الظاهر

( أقصوصة صوفيّة ـ رمزية )
حدّثني صاحبي فقال :
عثرتُ ذات يوم في قارعة الطريق [ القارعة وما أدراكَ ما القارعة ! ] على صعلوكة من صعلوكات هذا الزمان ... زمان الأمريكان ومودة التأمرك والإنزلاق حتى حافة الهذيان ... عثرتُ عليها في غفلة من الزمان التعبان تلعب بمجموعة من الخرق البالية تحسبها دُمىً أتاها بها الشيطان إبليسُ سليل الأباليس سألتها وهل يصفو أو يحلو اللهو مع البالي من الخرق مُنسلّة الخيوط واهية البنيان ؟ قالت وما عساي أصنع بي وبزماني وما أحسبُ نفسي إلا خرقةً مثلها بالية بالت عليها الثعالب ؟ فكّرتُ جديّاً وحككتُ الباقي من الشعر في قحفة رأسي متسائلاً : تُرى ، هل من علاقة قربى أو جيرة أو أصل يجمع بين كلمتي البلى والبول ؟ بليَ يبلى ـ بالَ يبولُ !! هل من شبه في شكل الكلمات وترتيب حروفها وطرائق تلفّظ هذه الحروف وهل ثّمّةُ من شبه في معانيها ؟ نأيتُ بنفسي عن هذا الموضوع العويص ... أبعدته عن رأسي المتعب جملةً وتفصيلاً . قلتُ فلأشغل نفسي الدوّارة الأوّارة بها ، هي ، الصعلوكة التي تأمركت في آخر زمانها . فلأسألها لمَ لا تلعب لعبة {{ طمّة خريزه }} بدل اللهو بسقط المتاع ؟ أجابت : السقوط يستهويني لذا ، أضافت ، يحلو لي مداعبة ومقاربة أجواء السقوط ! سقط المتاع قريب من طبعي ومن طبيعتي وممارسة السقوط إحدى هواياتي المفضّلة ولا سيّما السقوط على أمِّ الرأس من عالي السطوح . وكيف تسوّغين لنفسك السقوط وممَ تسقطين وعلى ماذا تسقطين ، سألها صاحبي فقالت جذلى : أهوى السقوط بطبعي فهو فيَّ جزءٌ مني وُلدَ معي وأنا فيه جزءٌ منه . والذي يهوى لا يخشى والذي يهوى يهوي . وأنْ تسقط يعني أنْ تهوي ألا تعرف حكاية النجم الذي هوى المذكورة في القرآن ؟ قال صاحبي في قرارة نفسه : ستورطني هذه الصعلوكة التي تمدّنت حديثاً في ضواحي لندن ! تتكلم عن الكواكب والنجوم الهاوية وتتطرق إلى ذكر القرآن وهذه أمور محرّمة في هذا الزمان ! إنها خبيثة متقلبة ولعينة لم تشرب في طفولتها الباكرة حليباً صافياً نقياً من ثدي طاهر . اللعنة لها ولأمها المرحومة واللعنة للميت والحي كما أنَّ الرحمةَ لكليهما . أوقعني صاحبي في ورطة لم أحسب لها حساباً . أردت منه حديثاً شيّقاً يؤنسني فأقحمني في أمور معقّدة لا ناقةَ لي فيها ولا من جمل . ما علاقتي بالصعاليك المتصعلكة وبالسقوط المدوّي والخرق البالية ؟ ما علاقتي بالنجوم المتساقطة التي جاء في القرآن ذكرها {{ والنجمِ إذا هوى . ما ضلَّ صاحبكم وما غوى . سورة النجم / الآيتان الأولى والثانية }} . يا للعجب العجاب ! أطلّت أم الخرق البالية برأسها محتجّةً بصوتٍ عالٍ لتقولَ لي : لا تُلحدْ يا هذا . لا تقتربْ من الدين ولا تلهُ بآياته كما ألعبُ وألهو بخرقي . جدْ لكَ يا هذا لُعبةً أخرى تلهيك عما أنت فيه ولا تلعب بالنار الحارقة الكبرى فتكونُ نصيبك في دنياك كما ستكون جهنمُ مأواك في آخرتك . أُسقطَ في يدي ، أجلْ ، أُسقطَ في يدي . حصرتني الخبيثةُ بنت الخبيثة في زاوية حرجة لا مخرجَ فيها أو لها أو منها . تتهمني بالإلحاد ولا شأنَ لي به . وتهددني بنار جهنم الحامية الوطيس والفوران في دنياي الأخرى . هل أجادلها في الدنيا الأخرى وعدم وجودها أصلاً لا على الأرض ولا في السماء ؟ هل أقولُ لها إنما أنت يا صعلوكة يا بنت الصعاليك ... أنما أنتِ ومثيلاتك هي نيران جهنم الحامية وحطبها وحصباؤها وأفاعيها السامة ؟ ثم ما شأنكِ يا هاوية التساقط والسقوط واللعب ببالي الخرق ... ما شأنك بالدين وقد قال القرآن بعبارة صريحة {{ لكم دينكم وليَ دين / سورة الكافرون / 6 }} ؟ دينكِ وهوايتك وديدنك السقوط أما ديني فهو السمو والتسامي . الإنسانيةُ ديني والإنسان ربّي . هل أدركتِ الفرق الكبير بيني وبينك أمْ أنك قاصرة غبيّة عاجزة عن إدراك هذا الأمر ؟ لكِ دينُكِ ولي ديني . قلتُ فلأنسحبَ تاركاً إياها لصاحبي فهو أقدرُ مني على فهمها ومجاملتها ويُحسن الإصغاء لها ويداري نقاطَ ضعفها . ثم إنه مثلها لا يستنكفُ من السقوط واللهو بالخرق وسقط المتاع . ذهبت جهودي أدراجَ الرياح . لم أفلت منها ومن خرقها وحبائلها التي أخذت تلتفُّ حول عُنقي .عافت صاحبها ومثيلها واقتحمت عالمي فويلي منها وكيف الخلاص ؟ تركت صاحبها وانصرفت لي مثل جنيّة البحر عارية إلا من مئزرٍ شفيف يرى الإنسان ما وراءه . تجمدّت أطرافي وجفَّ لساني فقلتُ لا مَحالةَ أني من الموت قابَ قوسين أو أدنى . إستسلمتُ للحتف المرسوم وإني أعرفُ أنَّ الموت هو الموتُ [[ ومن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيره ]] وأنَّ [[ كلَّ نفسٍ ذائقةٌ الموت ]] فلأمتْ صامداً واقفاً شجاعاً وليكنْ بعد موتي ما يكنْ . ظلّت الخبيثة مركّزةً بصرها ـ الشبيه ببصر الجرذان ـ في عينيَّ فقلتُ قد وقعت الواقعة ولا مهربَ من حتفي والقارعة . لم أتخذْ موقف دفاعٍ كنتُ قادراً عليه ولم أتخذ موقف هجوم أعرفُ أني لستُ أهلاً له . أتخذتُ حالة البين ـ بين الحرجة وفي خيالي ما قال المتنبي مخاطباً سيف الدولة الحمداني [[ وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقف ٍ // كأنّكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ ]] . أجلْ ، كان الردى في حالتي بالفعل نائماً . أخيراً نطقت مجنونة الخرق ودُمى المطاط وخوص سعف النخيل . نطقت فتنفّستُ الصُعداءِ فقالت : تذكّرتكَ أخيراً يا هذا . تذكّرتكَ جيداً . لقد زرتني ذات ليلةٍ في منامي . داعبتني ... غازلتني ... قبّلتني في كل بقعةٍ من جسدي نزولاً وصعوداً . زال رعبي بعد هُنيهةٍ فاطمأنّت نفس لك وداعبتك وغازلتك تماماً كما فعلتَ معي وقبّلتك من جميع جهاتك صعوداً ونزولاً ثم ضممتك بكل ما في جسدي من قوة إلى صدري اللاهث ودعوتك آخر الأمر إلى المبيت معي في حجرة نومي لكنك أيها المكابرُ المغرور رفضتَ دعوتي وقلتَ إنكَ مشغولٌ بسواي . حين تركتني وأغلقتَ باب حجرتي وراءكَ أصابتني حالةُ ذعر حقيقي فنهضتُ من نومي كالمجنونة . مددتُ يدي لأضيءَ مصابيح الحجرة فلم أجدْ أحداً فيها . أين وكيف ولماذا إختفيتَ يا خارقَ جدران عزلتي وهاتك ستر حصانتي والذي فعل معي وبي ما لم يفعلهُ أحدٌ من البشر من قبلُ ؟ ماذا سأقول لنفسي وقد بادلتك عن طيب خاطر كل المحرمّات ؟ لم أصدّق ما وقع. تحسستُ جسدي ووجهي وفمي وذراعيَّ فوجدتها كما هي وكما تركتها مساءً قبلَ أنْ آوي إلى فراشي . ما تفسير هذه الزيارة وما مسبباتها وما كنتَ أنتَ أصلاً أحد فقرات جدول أعمالي وأجندة مشاغلي في دنياي ومع دمى الورق والخوص والخرق ؟ ما أنْ فرغت من خطبتها الخِرقية المتخرقة الخرقاء حتى وجدتُ نفسي تائهاً مشتتَ الفكرِ حائراً فيما قصّتْ الدمية المجنونةُ من أمر ما رأت في الحُلُم . جمعت بعد لأيٍ أشتاتي ـ وقد تيقّنتُ أني ما زلتُ حياً ـ فسألتها إنْ كانت ما زالت تحلمُ وأنها ما زالت خائفةً مني ومن حلمها ومما رأت فيه وما فعلتْ مع رجلٍ طاريء غريب ؟ قالت كلا ، زال عني بعد أنْ خاطبتك خوفي واختفى رعبي وعدتُ أتحسس أركان وتفاصيل جسدي الظاهرة منها والمخفية لعلك سحرتني ليلةَ زيارتكَ وفعلتَ بي فعلاً مُنكراً لا تسيغهُ التقاليدُ ولا تجيزهُ الأعرافُ . تحسستُ كافة أعضائي وتأكدتُ من سلامتها ومن نظافة ملابسي الصغيرة منها والكبيرة فتمنيتُ لو أنك كنتَ قد قبلتَ دعوتي وأمضيتَ تلك الليلة معي في فرشي أحضنك وتحضنني أضمّكَ إلى صدري وتضمني إلى صدرك حتى يختفي ليلنا فينا ونختفي نحنُ فيه . ذكّرني قولها هذا ببيتٍ من الشعر قلته عام 1960 :
مشينا نختفي حيناً بدربٍ
وحيناً تختفي فينا الدروبُ
هنا دربٌ يُخفينا حيناً ويختفي فينا أحيانا ... وهناك ليلٌ يُبادلنا الإختفاء المتبادل !
أما زلتَ معنا يا صاحبي وصاحب هذه اللعينة المعتوهة ؟ توجّهتُ للصديق الذي ورّطني وواصلت أسئلتي له : ما الذي أعجبكَ فيها ومنها حتى جاملتها وتنازلتَ لها وقضيّتَ بعض أوقاتك معها تتبادلان الرسائل والمكالمات التلفونية المطوّلة من خلال التلفونات الأرضية والمحمولة ؟ قال إنما الشفقةُ والرحمةُ والعطف ! قيل لي إنها مريضةٌ وإنها وحيدةٌ معزولةٌ خائفةٌ تتوجسُّ . ثم َّ ، سألته ؟ قال وجدتها بالفعل مريضةً لكنها لم تكن معزولةً ولا وحيدةً بل وجدتها محاطةً بعدد كبير من الأصدقاء من شتى القوميات والأديان ! إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه !
عدتُ إلى بيتي في ساعة متأخرة وكان المطرُ مِدراراً والبرق يتخطّفُ الأبصارَ ورعود السماء الغضبى تهزُّ المدينة شرقاً وغرباً . ما أنْ فتحتُ أجهزتي حتى وجدتُ رسالةً منها تملأ شاشة الكومبيوتر . قرأتها وأعدتُ قراءتها فلم أصدّق ما أرى . كتبت باللغة الإنكليزية :
Hug me before I go to my bed !
ثم أضافت :
I hug you !
يا لعينة ويا أم الخرق البالية : ألا يكفيك أنْ أحتضنك أنا فتعرضين عليَّ أنْ تضمينني أنتِ إلى صدرك؟

ليست هناك تعليقات: