الأربعاء، سبتمبر 30، 2009

وقوف الشعراء ووقوف النفّري الصوفي

د. عدنان الظاهر

( إلى الدكتور ميثم الجنابي / مُنظِّر فلسفة الوقوف والتوقف للنفّري )
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... لإمرئ القيس
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهمْ ... لشاعر جاهلي لعله إمرئ القيس أو طَرَفة إبن العبد
وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ ... للمتنبي
قفْ بالمِعرةِ وامسحْ خدّها التَرِبا ... للجواهري يخاطب نفسه كأنه زار بلاد الشام أو حلبا فقرر العروج على بلدة أبي العلاء المعري " معرة النعمان " .
قفي قدمي ... لشاعر سوري لعله عمر أبو ريشة يخاطبُ قدمه ويطلب منها أنْ تقف خشوعاً أمام هيبة وعظمة بعض الآثار القديمة ولا تطأها . الشاعر هنا يخاطب بعض أعضاء جسده المسؤولة عن الحركة ولا يخاطب نفسه كما فعل سواه ممن ذكرتُ للتو . قرأت أيام زمان شعراً مماثلاً للشاعر الإنكليزي لورد بَيْرِنْ يأمر فيه قدمه أن تتهيب الوطء على آثار إغريقية أو رومانية قديمة لأنها مقدّسة أو كالمقدسة .
هل من صوفية أو تصوّف في هذه الوقفات الخمس ؟ الوقفة الأولى لإثنين والوقفة الثانية للجمع أما الوقفات الثلاث الباقية فإنها موجّهةٌ لشخص مفرد . هل من فرق بين هذه الوقفات؟ الوقوف الأول لغرض البكاء على ذكرى حبيب ومنزل هذا الحبيب . في الوقوف الثاني يطلب الشاعر أنْ يتوقف الركبُ والمطيُّ عن السير لإمضاء بعض الوقت مع بقايا آثار الحبيب الدارسة . أما الوقوف الثالث فإنه وقوف لا من أثرٍ للصوفية في صدر البيت الشعري وليس لها شئٌ من أثرٍ في عجزه ... ومع ذلك فهناك كثرةٌ من النقّاد ومن المعجبين بشعر المتنبي تمجّدُ هذا البيت وتعتبره من النوادر بل ومن عجائب فنون المتنبي . عجز هذا البيت هو : [[ كأنكَّ في جفن الردى وهو نائمُ ]] . إنها وقفة الثبات في المعركة مع الأعداء الروم فالشاعر إنما كان يخاطب سيف الدولة الحمداني مادحاً ومشجّعاً . أما الوقوفان الرابع والخامس فأمرهما مختلف ، ذاك أنَّ الشاعرَ هنا يأمر نفسه أو يأمر قدمه بالتوقف عن الحركة ، والتوقف عن الحركة هو توقف أو تجميد الزمن فيمن قد وقف ، أي الموت . فتوقف النبض في قلب الأحياء لا يعني إلا موت هذه الأحياء . لكنّ للنفّري رأياً آخرَ بهذا الصدد إذ قال ـ كما سنرى لاحقاً ـ في جملة ما قال عن الوقوف والتوقف [[ لا ديمومة إلا لواقف . ولا وقفة إلا لدائم ]]. ما معنى أنْ يدومَ الواقفُ عن الحركة ؟ هل يعني أنَّ الواقفَ ميّتٌ وموته موتٌ دائم ؟ قد نفهم الجزء الثاني على وجهه الواضح الشديد التبسيط [[ ولا وقفة إلا لدائم ]] على أنَّ الحيَّ هو القادر على الوقوف أو التوقف وهذا يتطابق مع كل ما ذكرتُ سلفاً من أنواع الوقوف الشعري . فكلُّ الذين وقفوا أو طالبوا بالوقوف من الشعراء إنما كانوا أحياءً قادرين على التحكّم بأجسادهم وعقولهم وإصدار الأوامر لأقدامهم بالتوقف لإنجاز غرضٍ ما . ولكن ، من قال إنَّ حياة الإنسان شاعراً وغيرَ شاعرٍ هي حياة دائمة ، حياة أبدية خالدة ، مَنْ قال ومن يجرؤ على قول ذلك ؟
ذكرتُ نماذجَ من الشعر العربي يفتتح فيها الشعراء قصائدهم بالفعل وقفَ يقفُ أو بفعل الأمر قف ْ ، فماذا قال الرجل الصوفي المعروف " النُفّري " في باب أو أبواب الوقوف حيثُ له فلسفة خاصة بالوقوف وموقف شديد الخصوصية بذل الأخ الأستاذ ميثم الجنابي وقتاً وجهداً كبيرين لتوضيح هذه الفلسفة فغاص وتعمّق فيها أكثر مما فعل النفّري نفسه . لا أحسبُ أنَّ أحداً من فلاسفة المتصوفة الإسلاميين المعروفين كرّس من مجمل جهده ووجهات نظره ما فعل النُفّري بخصوص موضوعة الوقوف والتوقف ... بل لعله الوحيد بينهم جميعاً . فماذا قال هذا الفيلسوف المتصوف في التوقف والوقوف ؟ سأقدِّمُ نماذجَ مما قال أخذتها من بحث الدكتور البروفسور ميثم الجنابي المنشور في موقع الهدف الثقافي بتأريخ الجمعة / شهر آب 2009 والرابط هو :
http://www.tahayati.com/Research/371.htm
1ـ (( إذا قلتُ لكَ قفْ فقفْ لي لا لكَ ))
مَن هو قائلُ هذا القول ؟ اللهُ قاله للفيلسوف أم أنَّ الفيلسوف يتكلم مع نفسه ؟ لا إشكالية في الشق الأول لكنَّ الإشكالية تكمنُ في الشق الثاني ، الجزء الذي خاطب فيه الفيلسوفُ نفسه
( قفْ لي لا لكَ ) لماذا ؟ لأنه هنا إنما يشقُّ نفسه إلى نصفين يعبر عنهما مرّةً بضميرالمخاطب " لكَ " ومرةً أخرى بضمير المتلكم " لي " المتصلين بحرف الجر
" اللّام " . مهما كان أمر هذا القول فإني أراه ، كالمثال السابق ، قولاً مسطّحاً بسيطاً لا يرقى إلى عالم التصوّف المعروف ولا إلى عوالم الفلسفة عامةً . [[ قفْ لي لا لكَ ]] . أليس هذا أمراً يصدره ضابط عسكري لأحد جنده سواء في ساحة حرب او ساحة عَرَضات ؟ أين الفلسفة فيه ؟
2ـ (( لا ديمومة إلا لواقف ! ولا وقفة إلا لدائم ))
لقد تعرّضتُ لهذا القول قبل قليل وليس لديَّ ما أضيفه لما سبقَ وأنْ قلتُ إلا أني أجدُه عبارة عن واحدة من فذلكات التلاعب بالألفاظ وتغيير مواقع الكلمات كما كنا نفعل زمان الطفولة إذْ كنا نزاولُ بعض العاب الحروف المتقاطعة وما إلى ذلك من لهو لإزجاء الوقت . لقد قلب النفّري المصدر " ديمومة " في القسم الأول من قوله إلى إسم فاعل في القسم الثاني [[ دائم ] . وقلب إسم الفاعل " واقف " في القسم الأول إلى مصدر في القسم الثاني [[ وقفة ]] لتتم لعبة تقاطع الكلمات لكنْ لتنتهي لا إلى نتيجة فلسفية يتوقعها القارئ . تماماً كما قال أحد الشعراء [[ كأننا والماءُ من حولنا // قومٌ جلوسٌ حولهمْ ماءُ ]] .
3ـ (( يا عبدُ قفْ في موقف الوقوف ))
وأي جديد في هذا القول وأية متعة أو غرابة ؟ يبدو ـ من لفظة العبد ـ أنَّ ربَّ النفّري هو صاحب هذا الأمر ... وقد يكون النفّري نفسه يخاطب فيه نفسه أو إنساناً غيره . المهم ، هناك جهة تأمر وهناك جهة مطلوبٌ منها أنْ تنفّذَ هذا الأمر . [[ قفْ في موقف الوقوف ]]... أين موقف الوقوف هذا ؟ هل هو يوم المحشر وساعة الحساب ؟ وهل يحتاج الوقوف أمام الرب يوم القيامة إلى أمرٍ يتلقّاه المُرَشّحُ للإفادة بشهادته ؟ الجميع يوم الحشر وقوف خاشعون يحمل كل إنسان كتابه في يمينه . هنا نرى كذلك كوميديا اللعب بالألفاظ . ففضلاً عن توظيف الإشتقاقات اللغوية المعروفة لكي تخدمَ أفكار النفّري وما يروم له ولها من معانٍ ... لم أجدْ فيها عمقاً فلسفياً ولا رأياً مُبتَكَراً يغريني بمواصلة قراءة تراث هذا الرجل .
4ـ (( معرفةٌ لا وقفة فيها مرجوعها إلى جهل . الوقفةُ تعيينٌ سرمديٌّ لا ظن فيه . ليس في الوقفة واقفٌ ، وإلاّ فلا وقفة . الوقفة صمودٌ والصمودُ ديمومةٌ ))
أرى في أحد أجزاء هذه المقولة تناقضاً صارخاً مع ما سبق وأنْ قال في مقولته الثانية [[ لا ديمومة إلا لواقف ! ولا وقفة إلا لدائم ]] إذ قال هنا في مقولته الرابعة [[ ليس في الوقفة واقف ]] ، أليس كذلك ؟ ثُمَّ ، إذا كانت الوقفة تعييناً سرمدياً لا ظنَّ فيه فكيف لا يكون فيها واقفٌ ؟ من الذي يقف أو عليه أنْ يقفَ إذاً ؟ ما سرُّ وتفسير فك الإرتباط بين الوقفة والواقف ؟ وهل من وقفة بدون واقف أو الذي يتعين عليه أنْ يقف ؟ ما قيمتها وما جدواها إذا خلت هذه الوقفة ممن يقف ؟ قد يقول قائلٌ إنَّ كلام النفرّي كلامُ صوفيٍّ متفلسفٍ ولكن للفلسفة ولكلام المتصوفة تفسيراتٍ متعددةِ الوجوه ومعانيَ يمكن الوقوف على أسرارها وتفكيك رموزها وإنْ إختلفت الإجتهادات فيها . لا أرى في مقولات النفرّي هذه إلا ضرباً من اللهو الساذج ـ وربما إستغفالاً لقارئه ـ فهي عاجزة عن أنْ تقدحَ شرارةَ نورٍ في العقل أو أنْ تفجّرَ ينبوع معرفة مبتكرة مُبتدعة أو أنْ تثيرَ فكراً أو فضولاً لدى القارئ أو نزعة صوفيةً ـ سورياليةً للتسامي والإستعلاء على عالم الماديات والتماهي في ملكوت الميتافيزيك . أجد هذا أو بعض هذا فيما قرأتُ لباقي علماء التصوّف خاصةً وأغلب فلاسفة العالم . يحضرني في هذا المقام بشكل خاص بعض ما قال المتصوف المعروف الحُسين بن منصور الحلاّج من أقوال أو أشعار يقرأها المرءُ فيجد نفسه هائماً ضائعاً مشتتاً في عالم لا يعرف ماهيته ولا يدرك أبعاده خليطاً من نوع خاص من الدهشة والإنفعال والتوق لمعرفة أسرار أقوال هذا الرجل وما يبتغي من وراء قولها . أضرب لذلك مثلين للمقارنة السريعة لا أكثر . قال الحلاج [[ ركعتان في العشق لا يصحُّ وضؤوهما إلا بالدم ]] . ثم بيته الشعري [[ بدا لكَ سِرٌّ طالَ عنكَ اكتتامُهُ // ولاحَ صباحٌ كنتَ أنتَ ظلامُهُ ]] . هنا المتعة والتحدي والخيال والهيام في عوالم مجهولة من الغبطة والتفكير . وهنا منطق فلسفي ولغوي ومنطق آخر خاص في معاني الكلمات . أين أقوال الحلاج هذه من قول النفّري التالي :
5ـ (( فالوقفةُ تُعتقُ من رقِّ الدنيا والآخرة . وفيها يسقطُ قَدْرُ كلِّ شئٍ . فما هو منها ولا هي منه )) .
ماذا نفهم من هذا القول وما أراد صاحبه أنْ يقولَ ؟ . الوقفةُ تُعتقُ من رقِّ الدنيا والآخرة ! فأين تُرى مكان هذه الوقفة وأين مكان ممارسها الواقف ؟ في الدنيا أم في الآخرة ؟ وما الفرق بين الدنيا والآخرة في مفهوم النفّري وأين مكان الآخرة ؟ نفهم أنَّ في الدنيا رقّاً تأريخياً معروفاً ومدوَّناً ولكن هل في الآخرة من رق ومَن الذي يوقع هذا الرق على الآخر ، البشر ، ولأية أغراض يستخدمه : أفي حرث أرض السماء وزرعها وشق القنوات والترع وتعبيد الطرق ومد الجسور وبناء أهرامات تضاهي أهرامات فراعنة مصر القديمة ... ثم تجنيده قسراً مُرتَزَقاً ليحارب أعداءَ مَنْ إسترقّهُ ؟ أي رق في العالم الآخر ، الدنيا الأخرى أو الآخرة ؟ العالم الآخر مقسوم إلى نصفين متناقضين ، جنة للمتقين ونار للكفرة والملحدين والمشركين ليس فيها إلا العذاب المهين وإلا الكوي بالنار وبالأقماع وشرب الهيم وطعام الزقّوم فأين مكان الرق والإسترقاق وما هي واجبات ومسؤوليات الناس الأرقّاء ؟ لم يستطعْ النفّري من إستيعاب فكرته عن الوقوف والتوقف الفلسفيين ولم ينجح في إقناع قارئه بما أراد قوله وأحسبُ أنه غير مستطيع .
الإستنتاج الأخير : وقوف الشعراء في أشعارهم أكثر بلاغةً من وقفات المتصوف النفّري وإنْ تفاوتت في قوة توظيفها ومتانة موضعها من الجملة أو البيت الشعري ونجاح معناها بحسب قوة شاعرية وثقافة الشعراء وتمكنهم من الفن الشعري ومتطلباته . نجح الشعراء الذين ذكرتهم في مطلع بحثي هذا في تشخيص وقفاتهم ونجحوا أكثر في توقيت زمن هذه الوقفات وربط هذا الزمن بمكان محدد مجسد يكاد القارئ أنْ يراه وأن يتحسسَ أبعاده فيقف حين يقف الشاعر ويجلس إذا جلس ويسيرُ إذا ما سار . لم يحتاجوا إلى فلسفة وتفلسف بل كلّ ما احتاجوا إليه هو ضبط التوازن الحرج بين الزمان والمكان وقد فعلوا وقد نجحوا في حين كبا المتصوف وأخفقَ . مقولات النفّري عائمة لا زمن لها ووقفاته ليست زمانية ولا مكانية فأين يقف الواقف إذا تعيّنَ عليه الوقوف ؟ أساله من باب المناكدة والمشاكسة : سيّدَنا النفّري ، ماذا بين وقوف ووقوف ، أية حالة وما تسميها وإلامَ تدومُ أو كم هو زمانها ؟ الوقوفُ سكونٌ لكنَّ نصفَ السكون هو في اللحظة الراهنة ونصفُهُ الآخر مُعدٌّ للحركة نحو زمن جديد هو المستقبل . أما وقوفك سيدي المتصوف فهو موتٌ أزليٌّ مجرّدٌ من عنصر الزمان ، أي لا وجودَ حقيقياً له لا في الدنيا ولا في الآخرة .

ليست هناك تعليقات: