د. حبيب بولس
أ- في الشعر:
بداية تحتم علي الموضوعية قبل التطرق إلى الموضوع أعلاه، الالتزام بجملة من الأمور هي:
أولاً: إن ما سأقدمه حول الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل، سيكون بعيداً عن الاستعراض المألوف في مثل هذه المقاربات، وذلك لسببين:
1. ثقتي في أن القارئ يعرف جيداً المسيرة الأدبية وتأرختها فلسطينياً ومحلياً، وأسماء أعلامها.
2. دفعاً للملل الناتج عن ذكر الإحصائيات والأسماء والتآليف والتصانيف والاقتباسات المكررة.
تأسيساً لما ذكر ، فإن هذه المقاربة السريعة ستحصر نفسها في طرح بعض القضايا الأساسية والمسائل الملحة الساخنة التي تدور على الساحة الأدبية، ومن ثم ستطمح وهي تسعى إلى ذلك إلى تقديم انطباعات خاصّة وتصوّرات للمستقبل.
أما الأمر الثاني: فهو إن هذه المقاربة ستتركز في الأدب العربي الفلسطيني ضمن حدود (1948)، أي ما اصطلح على تسميته بالأدب المحلي.
والأمر الثالث: الذي أرى إلى ضرورة تحديده هنا، هو أن هذه المقاربة وفي قسمها الأول ستسيج نفسها ضمن مساءلتين أساسيتين، الواحدة منهما تنبع من خاصرة الأولى، وذلك كي لا ينفلت الحديث ويتشظى مروحياً ليطال جوانب أخرى، هي ليست في صلب الموضوع أساساً. أما المساءلتان فهما:
ما هي الفلسفة أو الدوافع التي كمنت وراء شعرنا العربي الفلسطيني في حدود (1948)؟ من جهة، ومن أخرى، أين يقف هذا الشعر اليوم من مجمل الحركة الشعرية العربية؟ وبالتالي من مشروع الحداثة؟ تستمد المساءلتان المذكورتان الشرعية من قلة الدراسات التي كتبت في هذا الخصوص. ولكن نحن نقف عند هاتين المساءلتين يترتب علينا أن نشير إلى أنّ شعرنا رغم ما فيه من خصوصية وفرادة فرضتهما عليه خصوصية وفرادة الظروف والمرحلة، هو في الأساس رافد من روافد النهر الأدبي العربي، سواء في مدّه أو في جزره، من هنا فهو يشترك رغم تميزه في الكثير من السمات العامة والملامح مع الشعر العربي عامة.
وبعد
ما هي إذن الفلسفة الكامنة وراء شعرنا العربي الفلسطيني؟ وإلى أي مدى استطاع شعرنا تحقيق متطلبات وجودنا فنياً، والتعبير عن قضايانا بشكل فني؟ ولكن ونحن في غمرة البحث عن إجابة، يجب أن نسأل وهل للشعر بشكل عام فلسفة؟ وإن وجدت فما هي الفلسفة التي تكمن وراء حركة الشعر العربي الحديث عامة؟
الإجابة عن مثل هذا السؤال تكمن في المقولة التالية: " لا شك أن كل عمل فني يفترض فلسفة مسبقة وخطة فكرية ( واعية أو لاواعية)، تؤدي إلى إنجاز هذا العمل وتحقيقه إبداعياً وفكرياً. ولو افترضنا جدلاً انبثاق بعض الأعمال الفنية عن عفوية وتجارب خاصة، ولو افترضنا جدلاً مرة أخرى وجود (اللامعقول في الوجود)، فإن العمل الفني – أي عمل فني، يعكس ظروفاً وأوضاعاً اجتماعية وسيكولوجية خاصة على اعتبار أن الوعي الإنساني هو المقياس المطلق في الوجود. وأن موقف اللاموقف ( وهو موقف اللامبالاة تجاه العالم الخارجي) يفترض وعياً مسبقاً بلا جدوى الوجود وعبثيته، فهو موقف متفكر واع في انسياقه وراء اللاوعي وتسكعه في دروب العدم والمطلق والفراغ".
إذا سلمنا بهذه المقولة، ( وهي عندي صحيحة)، علينا أن نعود إلى الوراء لنرى إلى المستجدات التي طرأت على شعرنا العربي عامة والفلسطيني خاصة، لنقف على الفلسفة الكامنة وراء هذه المسيرة الشائكة والشائقة في آن معاً خلال أكثر من خمسة عقود من الزمن، مع الملاحظة أن الشعر الفلسطيني لم يكن نبتاً شيطانيًا منبتًا عن مسيرة الشعر العربي رغم خصوصيته.
على الصعيد العربي، تميزت المرحلة بما يلي:
1. تململ فكري كان نتيجة لما بذره الروّاد في المرحلة التي سبقت.
2. مدّ قومي عربي دعا إلى العودة إلى التراث والتشبث به كأمة لها رصيدها الحضاري والتاريخي.
3. تململ اجتماعي أدى إلى تغير الكثير من المفاهيم الاجتماعية.
4. تبع ذلك تململ أدبي واضح فقد واكبت حركة الشعر العربي الحديث تاريخيًا ثورة شاملة في الذي ذكر – كان الشعر إيقاعاً لها وتفجيراًً لرموزها الحضارية والإنسانية وتجليًا لحركة هذه الثورة وتناقضاتها واندفاعاً للتحقق والاستمرار.
وكان نتيجة لما تقدم وعنصراً أولياً له، ثورة الشعر الحديث على الصعيد الشكلي حيث حطم الشعر القواعد التقليدية والقوالب الجاهزة للقصيدة العربية واستعاض عن البيت بالتفعيلة كوحدة أساسية في بناء القصيدة، وعن القافية الواحدة بعدد من القوافي. الأمر الذي جعل القصيدة تتحرر من روتينية النغم وتنطلق مع التموجات الإيقاعية الهارمونية والتوزيع الموسيقي. ولم تقتصر الثورة على الشكل بل امتدت إلى المضمون فتغيرت موضوعات الشعر القديمة وتحولت إلى أفكار عصرية إنسانية واقعية تحولت من شعر يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج إلى محايئة هذا الوجود والتزام بالواقع، فصار الشعر ديمقراطيًا يشخص الهموم والأوجاع البشرية العامة، ويتناقل مشاكل القرن وأمراضه الحضارية ومشكلات الإنسان العربي عامة وواقعه المتحول وإمكانياته في البعث والنضال لتحقيق واقع مستقبلي منشود.
إلا أن هذه الثورة لم تلتزم اتجاهاً فكرياً واحداً على صعيد المضمون مع أنها التزمت اتجاهًا واحدًا على صعيد الشكل. ومحصلة التجارب العديدة تشير إلى عدد من الاتجاهات في هذا المضمار، أولها:
الاتجاه الماركسي أو الرومانسية الجديدة، أو الواقعية الاشتراكية، ولا تهمنا التسمية هنا . وقد تميز هذا الاتجاه بالتزامه التام والصريح بالواقع وبقضايا الشعب، واعتبر أن الوضع التعبيري هو الضرورة القصوى في المعركة الكبرى مع الأوهام والقدرية والأفكار البرجوازية والوجودية. وقد أطلق "العقاد" على شعراء هذا الاتجاه اسم ( الشعراء القرمزيون).
يمثل هذا الاتجاه: " بدر شاكر السياب " و " عبد الوهاب البيامي" وغيرهما.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الميتافيزكي أو الوجودي، أو الفني أو اللامعقول، أو الفن للفن أو الاتجاه الرمزي . وأيضًا التسمية هنا لا تهمنا. هذا الاتجاه تبنته مجلة "شعر" اللبنانية أو الشعراء "التموزيون" في بعضهم وقد ألح على ضرورة معانقة الشعر للوجود وانفتاح التجربة الشعرية على معضلات العصر ولا معقوليته وعلى المطلق الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالاتجاه المباشر نحوه والحنين الأبدي إليه. وقد تفرّع عن هذا الاتجاه شعراء الفن للفن، الذين آمنوا بأن العالم غابة من الرموز والكلمات، لذلك قدسوا عبقرية الكلمة الشعرية والجمال الشعري، ولذلك أيضًا جعلوا الجمال المطلق والاستطيقا أنطولوجيا جديدة حلت محل اللاتناسق في العالم وتؤدي إلى مواجهة الجذور الإلهية في أعماق الذات يمثل هذا الاتجاه "توفيق الصايغ"، و "يوسف الخال"، و "سعيد عقل"، و "أدونيس" ، وغيرهم.
والاتجاه الثالث والأخير، هو الاتجاه القومي العربي أو الثوري وهو اتجاه يتميز بالاندفاع الحماسي الثائر المتجه نحو الجماهير والذي يتغنى بالقضية العربية وأمجادها القديمة وانتصاراتها الجديدة. وقد تفرعت عنه مدرسة الشعر الحضاري التي تحررت من الغموض والسطحية وحاولت أن تكتب ملحمة حضارية للقضية العربية ذات رؤيا عصرية جديدة من خلال عبثية الحصار الذاتي ولا معقولية الوجود ككل دون الوقوع في التشاؤم والعبثية.
وقد صور شعراء هذا الاتجاه المأساة العربية ككل وعكسوا في أشعارهم الواقع وصوروه تصويرًا صادقًا على أنه صراع "سيريفي" حاد بين متطلبات الواقع الحضاري ورؤياه المستقبلية، وبين الواقع ذاته كتناقض وديناميكية وصيرورة. يمثل هذا الاتجاه "سليمان العيسى"، و "يوسف الخطيب"، وغيرهما.
هذه هي الاتجاهات الثلاثة بفلسفاتها التي سيطرت على شعرنا العربي الحديث منذ انطلاقته عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والسؤال الذي يرتفع الآن وماذا مع الشعر الفلسطيني الذي نحن بصدده ؟
على صعيد الشعر العربي الفلسطيني المحلي الذي نحن بصدده وبالرغم من اشتراكه في العديد مما ذكر، إلا أنه يظل له تميّزه وفرادته. لذلك تميزت المرحلة فلسطينيًا في حدود (1948)، بما يلي:
1. حيرة سياسية خلفتها النكبة، تشريد \ حكم عسكري \ مصادرة الأرض \ إنكسار اللجوء \ ذل العوز\ الخوف \ الترقب.
2. تغير في البنية الاجتماعية بسبب هذه المستجدات، من مجتمع فلاحين إلى أكثرية عاملة في السوق اليهودية.
3. محاولات متكررة لطمس ولتغييب الشخصية العربية والتراث العربي والهوية القومية.
4. تحوّل بالنسبة للموقف من المرأة. فقد فرض الوضع الجديد خروج المرأة إلى العمل وإلى التعلم لكسب لقمة العيش.
5. لقد تبع ذلك حيرة في الأدب، فبسبب الظروف انقسم أدباؤنا إلى قسمين:
قسم آثر الصمت فكسر قلمه وتقوقع، وآخر آثر التحدي، صمت فترة ثم لملم جراحه وعاد للكتابة وخاصة إلى نظم الشعر. وهذا القسم الثاني انقسم أيضًا إلى قسمين: قسم دمج الخطاب السياسي التاريخي الأيدولوجي مع الخطاب الفني الإبداعي لضرورة المرحلة. وقسم فصل بينهما مؤثراً الابتعاد عن السياسة وإشكالاتها. الأول وجد المنبر أما الثاني فأصاب أدبهم شيء من التعتيم.
من هنا نجد أن معظم ما نشر عندنا من شعر كان يحمل النبرية والوعظية والنزعة التعليمية إلى جانب التوثيقية والتسجيلية، وذلك بسبب الذي ذكر آنفا.
هذه الوعظية استلزمت شعرًا واضحًا مباشرًا خطابيًا. وعندي أن أي ناقد أو دارس لا يستطيع أن ينكر اليوم ما مر به، شعرنا منذ النكبة والشعر بطبيعته يتأثر بالظروف ويعكس المرحلة. منذ النكبة التي حلت بنا عشنا حصارًا واستلابًا ثقافيين مذهلين، بحيث أدّى هذا الحصار إلى أن يتخذ الشاعر موقعًا وطنيًا فوق موقعه الشعري، بمعنى أنه أدّى إلى أن يكرّس الشعراء أدبهم في خدمة قضايا شعبنا وإن كان ذلك على حساب قضية الأدب وأدبيته، أي على حساب شعرية الشعر.
من هنا سيطر نوع معين من الشعر على معظم إنتاج شعرائنا، هو شعر المقاومة وشعر المقاومة هذا جمع الموقف والتعليم معًا . والشعر في هذه الحالة التي بيناها يتدفق ليثور وليثوّر، ولأنه كذلك يصير خطابيًا مباشرًا صريحًا. صاحب مهمة وصفية قريبة من النثر. وشعر المقاومة المذكور انبثق من التأثّر بالتيارين العربيين الفكريين الأول والثالث المذكورين آنفًا.
الظروف إذن هي التي دفعت بمعظم شعرنا وشعرائنا إلى اتخاذ موقف لا مهرب منه ولا حيدة عنه. الظروف هي التي وجهت شعرنا وشعراءنا تلك الوجهة التي نتحدث عنها وأملت عليه فلسفة خاصّة فحتى هؤلاء الذين هربوا من المعركة وابتعدوا بشعرنا عنها بحجة الفنية. نبذ شعرهم وابتعد عنه القراء والناس لأنهم رأوا فيه تزييفًا للمرحلة.
والسؤال الآن ألا يجب على هذا الشعر وبعد قرابة نصف قرن من الزمان أن يبارح نثريته وخطابيته ووعظيته، وأن ينطلق نحو التجديد، ليقترب نحو الحداثة، وليواكب تطور الشعر العربي عامة؟
في رأيي أن الظروف التي أحاطت بشعرنا قد تغيرت، من هنا فعلى هذا الشعر أن يغير نفسه وأن يسعى نحو الشعر الجديد الحداثي. ومع تغير الظروف تغير مفهوم الشعر وتغيرت غايته. فقد كان المفهوم السابق للشعر الذي شاع واحتل مرحلة زمنية طويلة، والذي عبر عنه الشاعر "الزهاوي" بقوله:
"إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقًا أن يقال له الشعر" هذا المفهوم الذي شرحه "شوقي" بقوله:
"الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة أو حكمة فهو تقطيع وأوزان".
بمعنى أن غاية الشعر هز الوجدان والعقل وطريقته إلى ذلك الوزن والقافية وما يتبعهما. هذه الغائية قد تغيرت عربيًا وعليها أن تتغير فلسطينيًا أيضًا. لأن هذه النظرة للشعر بطبيعة الحال تجعل مهمته تعليمية إخبارية أو وصفية كالنثر. ومع تنامي الوعي ومع دخول آليات الثقافة الغربية التي حولت هذا المفهوم وهذه الغائية إلى شيء آخر ومن خلال تأثرنا بها ومع زوال المسبب أرى لزامًا على شعرنا اليوم أن يتغير وأن يفارق سلفيته ليصبح فنًا غايته التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا، يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه . غايته اختراق المألوف وتفتيق العادي إلى الإدهاش والشدهة. على هذا الشعر أن يسعى إلى ترسيخ الضبابية والسرية كميزتين أساسيتين تثيران حك الذهن والتشويق والتحدي والمغامرة وحب الاستطلاع والكشف شريطة ألا تقود هذه السرية إلى الغموض والتعمية. عليه أيضًا أن يسعى إلى كسر حدود اللغة وحواجزها وتحدي الأساليب المتوارثة، عليه أن يستشرف ويتداعى وأن يكون محملاً بالحلم مشتملاً على رؤيا. هذه الأمور مجتمعة تحدد الشعر بآليات وعناصر بدأ شعرنا العربي عامة ومنذ أواسط الستينات يدنو منها ويحاول الوصول إليها- بينما ظل شعرنا في معظمه يراوح مكانه. من هذه الآليات الترميز شريطة ألا يكون الرمز نبتًا شيطانيًا منبتًا عن القصيدة أو منغلقًا. بل عليه أن يكون نابعًا عن ضرورات فنية.
والترميز يستلزم أن تتحول اللغة في الخطاب الشعري من التصريح إلى التلميح، من الوضوح إلى الإيحائية، من الترهل إلى التكثيف . وهذا يقود إلى التضمين، ذلك التضمين الذي بواسطته تكتسب القصيدة جدتها وطرافتها. والتضمين بطبيعة الحال يستدعي تلاقي الأضداد الذي يعطي للقصيدة زخمها وتوتراتها، بحيث نرتفع معها فوق مساق الكلام العادي. وهذه الأمور تقود بالتالي إلى صور تركيبية رامزة ليست بالمسطحة، وإلى لغة نابضة حية، ومفردات وألفاظ منزاحة تؤدي إلى ما وراء المعاني. وهذا معناه أن تكون الألفاظ بعيدة عن المباشرة بحيث تتجنب التقريرية من جهة، وأن تخلو لغة القصيدة من الثرثرة والكلام الفائض واللغو من أخرى.
على شعرنا اليوم أن يسعى إلى مظاهر ذات ديمومة وصيرورة كي يستطيع تحطيم العرض الإيضاحي الأيديولوجي المباشر ليصير تعبيرًا عن التجربة الإنسانية، كاسرًا الرؤية الأفقية ليغوص في الأعماق معلنًا فردية القصيدة وفرادتها وتميزها. هذا بالإضافة إلى توظيف التراث بشكل ذكي تلميحي بحيث يولد هذا التراث تداعيات تضفي على القصيدة جوًا ورونقًا. كذلك توظيف لغة خلاقة مؤثثة بمفردات تقول ما لم نتعوده منها.
ويضاف إلى ذلك آلية التناص الذي يغني الخطاب الشعري ويؤكد على بعد رؤية وعمق طروحاته، وتوظيف كل ذلك يستدعي أيضًا الأسطورة شريطة أن تتفاعل الأسطورة مع ما تقوله القصيدة، لا أن تتحول إلى عبء عليها.
ارتكازا على ما ذكر ينهض سؤال مفاده: أين شعرنا من كل ما ذكر؟ وهو سؤال مهم، لا بل الأهم في هذه المقاربة.
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم الصراحة من جهة، والحذر من أخرى الصراحة لأننا نبغي من هذا الحديث توضيح مسألة مهمة تلح على واقع شعرنا ومستقبله، والحذر لأننا ونحن نتحدث عن حداثية شعرنا لا ننفي وجودها، بل نؤشر على قلتها.
إن الاستقراء العميق والنظرة الفاحصة لمجمل شعرنا يشيران بأن هذا الشعر في معظمه ما زال يدور في خانة السلفية، والقليل منه استطاع مع الزمن أن يرتفع إلى المستوى المطلوب الذي يتلاءم مع ما ذكرناه سابقًا. والحقيقة تستوجب القول إنه رغم كل ذلك استطاع عدد من شعرائنا أن يفلتوا من إسار النبرة التعليمية والمهمة الوصفية لينطلقوا إلى الجديد. وهذا جهد يسجل لصالح هؤلاء الشعراء الذين على قلتهم استطاعوا بمهارة وبذكاء رغم ضرورة المرحلة التي بيناها سابقًا أن يطوروا قصيدتهم وأدواتهم وحتى القصيدة المقاومة منها. وأن يكسروا حواجزها وحدودها وأن يقدموها بشكل جديد ارتفع عن المباشرة والتصريح والإخبارية والتسطيح، آفة هذا النوع من الشعر. لكن هؤلاء قلة كما ذكرت والحركات الشعرية لا تقاس بالأفذاذ أو بالقلة. من هنا أرى إلى أنه رغم التطور الذي حصل فإن عددًا كبيرًا من شعرائنا ولغاية اليوم لم ينجحوا في كسر النبرة التعليمية الوصفية في قصائدهم لينطلقوا إلى الشعر الجديد \ شعر هذه المرحلة. من هنا يستمدّ هذا الكلام شرعيته، ومن هنا أيضًا نعود إلى ما قلناه: إن معظم شعرنا ما زال يدور في خانة السلفية. ومن هنا ثالثًا نقول: على هذا الشعر اليوم وكي يكون صادقًا وأمينًا للمرحلة الجديدة أن يحاول الإفلات من إسار الماضي وقيوده والاتجاه نحو الجديد \ نحو الحداثة ليلائم روح العصر. على هذا الشعر اليوم أن ينطلق ليعانق الحداثة، ومعانقة الحداثة لا تعني بالضرورة أن يطلق الشاعر تراثه الشعري ولا أساليبه القديمة المتوارثة، ولكنها تعني أن يستفيد منها من ناحية، وأن يخترقهما من أخرى. وهذا لا يمنع فرادته ولا فرديته إذ أنهما لا توجدان إلا ضمن هذين العبئين. وفي قدرة الشاعر- وهذا امتحانه - ، أن يتناول اللغة والطريقة المتوارثة وأن يرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.
في تصوري أن على الشاعر اليوم ونظرًا لتطور المرحلة أن يطور مجاله الأنطولوجي لتتسع مضامينه ولتتلون أفكاره ليصبح شموليًا رحبًا، عليه أن يكف عن الدوران على محور ثيمي واحد لينطلق إلى رؤية شاملة للكون. عليه أن ينتشل شعره من التسكع على السطح ومعاناة الوجود من خارج، وأن يحوله إلى محايئة هذا الوجود.
عليه أن يعرف أن الشاعر الحق يرى الكون في حركته وفي حيويته، ويرى فيه ما تحجبه عنه الألفة والعادة. فالشاعر الشاعر هو الذي يكشف العالم المخبوء كما ويكشف علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من التداعيات الملائمة للتعبير عن ذلك. بالإضافة إلى الآليات التي ذكرت سابقًا.
وبالتالي، هكذا فقط نستطيع انتشال قصيدتنا الفلسطينية المحلية من الرتابة والمباشرة ومن الخطابية والإخبارية والوصفية والنثرية التعليمية.
هذا هو ما أراه وهو قابل للتحقق، وقد بدأنا نرى بعض الثمار في شعر الشباب.
ب- في القصة القصيرة والرواية:
ب. 1. القصة القصيرة:
بداية أقول: إن قصتنا القصيرة قطعت شوطًا لا بأس به من التطور خلال مسيرتها بعد النكبة، وكادت بذلك أن تنافس أكثر الفنون التصاقًا بحياتنا، وأعني الشعر. وإن كنا هنا نحاول الحديث عنها والتأشير على بعض النواقص، فهذا لا يعني أننا ندينها، بل يعني أننا نريد لها المزيد من التقدم لتصل إلى حداثية المرحلة، هذا من جهة، أما من أخرى، فإن التأشير على النواقص لا يلغي الإيجابيات والإنجازات الفنية، بل يحاول إغناءها وإثراءها لتستقيم القصة مع كل ما نطمح إليه أدبًا كان أم قضايا فنية أخرى.
يقول "تشيخوف": " القصة القصيرة كذبة متفق عليها ضمنيًا بين القاص والمتلقي" ، ولكن رغم ذلك فإن القصة بقدر ما هي كذبة ، هي أيضًا تجسيد للحقيقة، وذلك لأنها فن. والفن أسمى أنواع الحقائق، فهو لا يطيق الكذب. " تستطيع أن تكذب في الحب وفي السياسة وفي الأدب وأن تخدع الناس كلما أردت ذلك، فهذه أمور معروفة – إلا أنك لا تستطيع أن تلجأ إلى الخداع في الفن". هكذا يقول "تشخوف" ويصادق على قوله هذا "كيبلينج" بقوله: " الحقيقة شقيقتها الكبرى الحكاية" . وطالما أن الفن مرتبط بالحقيقة، طالما أنه يضاهيها في السمو، فمن الطبيعي أن يكون الفن محاكيًا للواقع مستمدًا من الحياة عاكسًا قضايا المجتمع. وطالما أن القصة القصيرة جزء من هذا الفن، يصبح القول النقدي المعروف الذي يقول: " إن صورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعية" . أمرًا بديهيًا. ولكن هذا التشارط وهذا الارتباط ليسا مباشرين آليين بالضرورة بحكم تمايز واستقلال كل من الصيرورتين عن الأخرى كما يرى الدارسون.
انطلاقًا من هذه البدهية يمكن لنا أن نعاين وأن نرصد التحولات والتفاعلات الاجتماعية والأيديولوجية من خلال رصدنا للتحولات والتفاعلات الشكلية والبنيوية والمضمونية، التي عاشتها قصتنا القصيرة منذ انطلاقتها إلى الآن. ومن هنا يرى عدد لا بأس به من الدارسين والنقاد أن " ظاهرة القصة القصيرة تعتبر دليلاً قويًا على التحول الذي أصاب المجرى السوسيو ثقافي للمجتمع". وهذا الكلام يعني أن تطور القصة القصيرة مترابط ومتفاعل مع الأحداث والمستجدات، منذ الأربعينات. وإذا نحن أردنا أن نرى إلى ما طرأ على القصة من تحولات، علينا أن نرى إلى ما طرأ على الساحة السوسيو ثقافية السياسية من تحولات أيضًا، وإلى ما أصاب ساحة الفعل عندنا، هذا الفعل الذي يتلخص بالتشبث بالوطن وفي البحث عن الهوية الاجتماعية الوطنية، وفيما بعد عن الهوية الاجتماعية الثقافية . وإذا أردنا التحديد نقسم مسيرة القصة عندنا إلى مرحلتين: الأولى منذ النكبة حتى أواسط الستينات، والثانية من أواسط الستينات إلى بداية الألفين.
هذا التقسيم يساعد على متابعة المستجدات والمؤثرات ولا يتغيا إلى التحقيب. ولن ندخل هنا في رسم المميزات للمرحلتين سياسيًا واجتماعيا وثقافيًا وذلك لأمرين: لأن معظمنا عاش المرحلة أو قرأ عنها أو سمع بها، وثانيًا لضيق المجال. ولكننا رغم هذا وذاك نجد أنفسنا مضطرين إلى رصد مضامين القصص في المرحلتين لنرى إلى ما كانت تمور به الساحة من جهة وإلى ما استطاعت القصة محايئته واستيعابه من أخرى.
تمحورت قصص المرحلة الأولى حول المضامين التالية:
- الولاء للأرض والارتباط بها.
- النضال ضد الاضطهاد القومي، وضد كل أشكال القمع والإرهاب ومصادرة الأرض.
- إظهار الظلم الواقع على الطبقات المستغلة.
- فضح مؤامرات السلطة.
- الصراع النفسي \ السياسي، كقضية التسلل واختلاف المنطقين العربي والإسرائيلي.
- التغني بالبطولات العربية والعالمية والانحياز إلى حركات التحرر.
- التأكيد على الهوية الفلسطينية، وعلى الانتماء العربي.
- التغني بالأمجاد الفلسطينية والعربية كاستلهام لماض ناصع.
- الكبت العاطفي والحرمان من كل أشكال الحياة.
وما ميز مضامين المرحلة الثانية، مع أن ما ورد في الأولى متواجد في الثنايا، ما يلي:
- التركيز على لقاء طرفي الشعب الفلسطيني.
- المقاومة بكل أبعادها وتفريعاتها وأشكالها وبطولاتها.
- البطالة، أسبابها ونتائجها.
- هموم المثقف على تنويعاتها.
- الانفتاح على معاناة الشعب الفلسطيني في المنافي.
- تصوير المجتمع الإسرائيلي بكل صراعاته.
- مهاجمة الأنظمة العربية الرجعية.
- تعرية سلبيات المجتمع الفلسطيني.
- رصد الأحداث العالمية.
- شخصية اليهودي التقدمية.
- قضايا المرأة بكل ملابساتها وتشظيّاتها وأبعادها.
- الانتفاضة أثرها وأبعادها.
لكن ونحن نسجل ما حوته القصص من مضامين يجب ألا تغيب عن بالنا بعض الشروخ التي تخللت قصتنا في مسيرتها، ومنها:
- النبرة التعليمية الوعظية الإخبارية.
- المباشرة والخطابية إلى حد الكليشية الجاهز والشعارات وهذان أمران فرضتهما الظروف.
- عدم الموازنة بين الخطابين: التخييلي \ الإبداعي\ القصصي\ وبين الواقعي\ الإيديولوجي\ التاريخي. بحيث يشعر القارئ أن صوت التاريخ كان جهريًا دائمًا في الثنايا. وكم كان صادقًا الناقد المعروف عبد الكبير الخطيبي حين قال: " التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب".
- بهتان وتقليص المجال الأنطولوجي للكاتب. من هنا طغت ظاهرة التكرار على العديد من القصص، فدارت بحكم عكسها للحساسية النفسية والفكرية على محور تيمي واحد والأمران أديّا إلى أن يكون القاص حاضرًا كراوية ومحور في النص يفرض ديكتاتوريته، بحيث تحول النص القصصي إلى مرآة لا يرى الكاتب فيها سوى نفسه. الأمر الذي أدى إلى أن ينبش في سرية ذاته أكثر من نبشه في سرية مجتمعه وواقعه وتاريخه. وهذا قاده إلى تصوير الواقع بما هو عليه فقط دون الالتفات إلى ما في الواقع من أنواع مغيبة مضمرة.
ما ذكرناه سابقًا جعل قصتنا في معظمها تميل إلى النظرة الأفقية الولوع بالتفاصيل الكثيرة، وإلى الترهل السردي واللغة الإخبارية الجامدة كما أدى إلى بناء مدماكي تقليدي وإلى شخصية موباسانية متماسكة وإلى التركيز على البراني أي على الموضوع.
وبالتالي ماذا مع الشكل؟ فقد انحصر كلامنا عن قصتنا لغاية الآن في المضامين.
في الحقيقة: إن قصتنا في قضية شكلها تنسجم مع القصة العربية عامة. ولكنها بدأت تقصر في متابعة التطور المتنامي في السنوات العشر الأخيرة.
وإذا تطرقنا إلى قضية الشكل نجد عدداً لا بأس به من الدارسين يرون إلى أن القصة العربية - وينسحب كلامهم على قصتنا -، راوحت بين ثلاثة مناهج هي:
1. منهج العين الرائية الفوتوغرافية، وهي أقرب إلى الكتابة والسينمائية.
2. منهج العين الباطنية \ فاعلية الذاكرة \ المونولوج \ أو ما يسمى بتيار الوعي. بحيث تصبح الكتابة قريبة من الكتابة الشعرية.
3. منهج ثنائي تقريبي يجمع ويوائم بين الفاعليتين: العين والذاكرة بحيث تصبح الكتابة القصصية "كولاجا" أو إنتاجا من اللغات والأصوات . إن قراءة متأنية لمعظم ما كتب عندنا من قصص قصيرة تشي بأن الأغلب يقع ضمن الخانة الأولى، وأن تجاوزتها بعض القصص إلى الثانية، وأقل من القليل نحو الثالثة.
وبالتالي إن ما قلناه رغم قصره ورغم حاجته إلى البرهنة العينّية النصية، التي تمنعنا المساحة المكانية المخصصة عن الولوج فيها، يلخص وضع قصتنا من الأربعينات وحتى بداية الألفين.
والسؤال الذي يرتفع الآن ما هو مصير هذه القصة؟ هل ستظل تراوح مكانها؟ بمعنى ما مستقبلها؟ وكيف نريد لها أن تكون؟ علمًا بأن المجتمع قد تغير والظروف قد تغيرت. يستمد هذا السؤال شرعيته من الفرضية الأساس التي طرحناها سابقًا والتي تقول: "إن صورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعية".
يقول المفكر الكاتب "محمد برادة" . " القصة متعة ولذة، واللذة تحرير للجسد والمخيلة وبحث عن اللامرئي الذي يمفصل الذات من ثم تكون القصة القصيرة قادرة على تجديد نفسها عبر تجديدها للنسوغ والخلايا. إنها فاتنة وخلابة، قاسية وصارمة تستطيع أن تجعلنا نجد عالمًا لا يحتمل أكثر من ذي قبل".
ويضيف: " القصة بما تشمل عليه من محكي ووصف وسرد وخيالات وتأملات تكون مندرجة وملتحمة بلحظات واسعة من الجدلية الاجتماعية فتنقل إلينا معرفة ما وتشرع أمامنا كوى" ننفلت عبرها لنبتعد عن المعرفة المألوفة والعلاقة الرتيبة بالأشياء والظواهر والأناسي. ومن خلال القراءة التأويلية التي توفرها القصة لنا - القراءة العبر نصية – سنلتقي في القصة بالمجتمع الذي هو حاضر عبر الكلمات والرموز والإشارات والأشكال. إن الالتقاء بالمجتمع يعني مواجهة القصاص لأسئلة محرقة لا تحتمل الإرجاء، لأنها أسئلة تنبئ عن المأزق العام للمجتمع، وتضع موضع التساؤل مجموعة القيم والمثل والمبادئ والمراهنات التي كانت تخلق دينامية ما وترسم أفقًا نتطلع إليه. إن القاص يجد نفسه وجهًا لوجه مع ركام من الأشياء، ركام من الظواهر المرضية والسلوكية والاجتماعية ركام من الأحداث والأخبار والنوادر والكلمات.
وكل هذه المواد المتفجرة عن صلبنا وأحشائنا تشكل جسدًا هلاميًا لا يمكن أن نحكيه بنفس الوتائر والنبرات واللغات السابقة. وهذا هو مأزق القصاص: كيف يمكن له أن يخطو ويحدد موقعًا لأقدامه فوق أرض ساخنة مليئة بالندوب والبثور، مليئة بيقينيات تنهار وأخرى تتبرعم وتتأسس" .
وطالما أن القصة التقاء بالمجتمع هي تستند إذن إلى تصورات لمكونات الأدب ووظائفه وعلائقه بالمجتمع وببقية الخطابات.
من هنا يتحتم على القاص الذي يريد أن يتطور أن يراقب المجتمع وأن يرى إلى ما طرأ عليه من تطورات ومستجدات كي يطور معها قصته. والمتتبع لمجرى المجتمع يرى أن ثمة تطورًا حدث استبدل قيمًا بقيم ورؤية برؤية وبنية اجتماعية بينية أخرى وقد واكب هذا التطور ضغط شديد على الحريات الفردية وعنت لا يقل شدة في أمور العيش .
الأمر الذي أدى على خلق حالة من القلق والحصار، من الإحباط والتشويش مما أدى إلى تقديم حقائق وتفاسير متضاربة لواقع واحد كان في فترة الخمسينات إلى السبعينات يفرز حقائق متجانسة وتفاسير مألوفة متكاملة لا متلاغية. بمعنى آخر لقد وجدت هذه التبدلات إشكالية حادة في رؤية الفرد لنفسه ولبيئته وإشكالية موازية في اللغة التي باتت تقدم الكثير. من هنا وإزاء الواقع البشري الجديد بات النمط التشيخوفي في القصة الذي شاع في الخمسينات وبعدها لا ينفع، وبسبب المذكور آنفًا باتت الواقعية التقليدية قاصرة كفاعلية فنية. إذ أن جملتها الوثوقية الواضحة التي تنقل واقعًا وثوقيًا واضحًا أصبحت تتعثر الآن، وأن بنيتها المحاكية والمترابطة تسلسليًا تتناسب عكسًا مع الخلخلة الشديدة التي أصابت بنية المجتمع مع طابع الشدّة والتقطّع والتفكك الذي تتسم به الحياة اليوم.
من هنا فالواقع الجديد قد قلص إلى حد كبير إمكانية التعبير القصصي بأي نمط من الأنماط السابقة وتعيّن على التعبير اللفظي أن يجد تقنية جديدة تنقل المستجدات البالغة الخطورة في حياة الأفراد والمجتمع والتي بدأت تتضح في هذه الفترة. من هنا أيضّا فإن البنية المدماكية للقصة التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الواقع الجديد وذلك لأن المعطيات الجديدة كانت غزيرة وكثيفة وثانيًا لأن طبيعة التجربة الحياتية المستجدة كانت بتخلخلها مناقضة تمامًا للبنية المدماكية للقصة، من هنا ثالثًا يتحتم على قصتنا الجديدة التي نكتبها اليوم أن تفتش عن بنى جديدة ملائمة لما ذكر .
وإذا نحن رصدنا قصتنا الفلسطينية اليوم، نجد أنها ما زالت تدور في نفس أقفاصها منذ الخمسينات. وذلك عندي لأمرين: الأول يعود إلى قلة قراءة الكتاب وإطلاعهم على القصة الجديدة في العالمين الغربي والعربي. والثاني إلى عدم معرفتهم بتطور مجتمعهم. وحين نقول هذا لا نعني بطبيعة الحال الجميع وإنما الأغلب. لذلك فإن قصص اليوم ما زالت تعاني من نفس الشروخ التي ذكرناها سابقًا. وكل ما نرجوه من القصة اليوم عندنا أن تفارق اجترارها لقصة الماضي، وأن تلائم نفسها للمستجدات وأن تنهض كي تصبح ذات معنى جديد يعكس المرحلة مضمونًا وشكلاً.
وبالتالي إن ما نطمح إليه قصة تخلخل القصة الموباسانية التقليدية ذات الوحدات الأرسطية. ما نطمح إليه اليوم قصة انفجارية أو مفصلية أو مركبة. ما نطمح إليه قصة ذات نظرة عمودية ولوع بالتفاصيل الصغيرة لا قصة أفقية ذات تفاصيل كبيرة. قصة ذات تداخل أزمنة وذات لغة إيحائية مكثفة بعيدة عن اللغة الإخبارية ذات الوعظية والتعليمية الجامدة. قصة متحررة من الترهل السردي. نطمح إلى قصة تتحول من البراني إلى الجواني، أي من الموضوع إلى الذات . هذا ما نرجوه من قصتنا القصيرة اليوم. وهو على صعوبته ممكن الحصول.
ب.2. الرواية:
ماذا مع الجانر الروائي الفلسطيني في حدود (1948)؟
بداية أقول وبكل المسؤولية والموضوعية: إن فن كتابة الرواية عندنا ما زال في عهد التجريب. والوصول إلى مثل هذه الحقيقة لا يكلف الواحد منا الكثير من الاجتهاد والجهد أو من الذكاء وكد الذهن. إذ مراجعة بسيطة لمعظم ما نشر عندنا من روايات تكفي.
حقيقة كهذه تقود بطبيعة الحال إلى سؤال ملح. لماذا ؟ أي ما هي الأسباب التي أدت إلى تخلف هذا الجانر بالذات وراء الإبداعات الأخرى أي وراء الأجناس الأدبية الفلسطينية الأخرى؟ هل نحن عاجزون عن الكتابة الروائية؟ بمعنى هل نحن لا نملك القدرة الإبداعية على ذلك؟ أم أن الأمر يتعلق بعدم إتقاننا لأسس وقواعد هذه الكتابة؟ هل واقعنا الاجتماعي \ السياسي يفتقر لمقومات معينة هي أساسيات الكتابة الروائية؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى تجعل هذا النوع من الكتابة صعبًا يحتاج إلى ترو وإلى وقت كاف لينضج؟
أسئلة كثيرة كما المذكورة سابقًا وغيرها من الممكن أن تطرح في إطار الحديث عن مثل هذه المسألة الشائكة.
في خضم الإجابة عن مجمل هذه الأسئلة أقول: نحن لسنا عاجزين عن الكتابة الروائية. والبرهان على ذلك هو تلك الروايات التي تظهر بين حين وآخر في أدبنا رغم تباعد الفترة الزمنية بينها. كما أنه من يملك حركة شعرية ناضجة وقصة قصيرة أصابت الكثير من النجاح لا يمكن له أن يكون عاجزًا عن مثل هذه الكتابة. هذا من جهة، أما من أخرى فإن الواقع الذي نعيشه لا يفتقر للأساسيات الروائية، بل على العكس – هو غني جدًا بها بحيث يستطيع أن يشكل نبعًا ثرا تمتح منه الرواية الكثير من المتنوع والمختلف من المواضيع الجذابة والهامة.
أما قضية عدم إتقاننا لأسس وقواعد الكتابة الروائية ففيها الكثير من التجني على مبدعينا. صحيح أن الكتابة الروائية تتطلب درجة عالية من الإلمام بأسباب الثقافة على تنوعها وتلونها وصحيح أيضًا أن مثل هذه الكتابة تتطلب معرفة دقيقة بشؤون المجتمع وخفاياه ولكن مبدعينا لا ينقصهم مثل هذا الإلمام ولا مثل هذه الثقافة. إذًا كل الأسباب التي زعمناها لاغية أساسًا. وطالما أنها كذلك علينا أن نفتش عن أسباب أخرى تشكل فعلاً العائق أمام مبدعينا، العائق الذي يقف سدًا يمنعهم من ولوج هذا الحقل الإبداعي الذي يسيطر اليوم، واليوم بالذات على حقول الإبداعات الأخرى في العالم. وهذا الأمر يقودنا مرة أخرى إلى المساءلة الأساس ذاتها: لماذا؟ ما هي الأسباب؟
في رأيي إن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقًا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: عامة، وأعني بها تلك الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع. وخاصة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامة سببان هامان هما: طبيعة الظروف التي نعيشها أولاً، وقلة المرجعية لهذا الجانر فلسطينيًا ومحليًا ثانيًا. أما السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن على الموازنة بين الخطابين: الخطاب التاريخي \ الأيديولوجي \ الواقعي والخطاب الإبداعي \ الروائي \ التخييلي. ورغم خصوصية هذا الأخير إلا أن له علاقة بالظروف. ولنبدأ بالأسباب العامة:
- إنصافًا لمبدعينا أقول: إن فن كتابة الرواية ليس بالأمر السهل، فعلى الكاتب الذي يريد ولوج هذا الحقل أن يرصد الأحداث ويعاينها بصبر وأناة ليختزنها في داخله لتتم له عملية هضمها ولتخرج بالتالي في قالب روائي فني يعيد فيه الكاتب خلق ما كان على الشكل الذي يريد له أن يكون. وكي يتم له ذلك عليه أن يعرف أيضًا كيف يخترق الواقع المعيش، وكيف يعبر عنه بصدق وبأمانة تعبيرًا فنيًا، كما عليه أن يعرف كيف يرتفع بعمله من العادي المألوف إلى الإدهاش، وإلى استنطاق الظاهرة وكشف ما وراءها. وهذا كله صعب، خاصة ونحن نعيش في مجتمع متقلب سريع الأحداث، بحيث لا يترك للمبدع فرصة للتأمل والمعاينة وتحليل الظواهر. إن نظرة متأنيّة إلى واقعنا الذي نعيشه تشي بسرعة الخطى وكبر حجم النقلات فيه. فالتحول كان سريعًا وكبيرًا كمًا ونوعًا. فنحن خلال نصف قرن تحولنا من مجتمع قروي فلاحي بمفاهيمه وعقليته وتقاليده إلى مجتمع تكنولوجي. هذا الانتقال السريع غير المدروس أثار الدهشة في مبدعينا وأخرس تحليلاتهم وشل هضمهم له مدة زمنية طويلة.
كما أن هذا الانتقال أدى إلى نقلة أخرى مرتبطة به، هي تلك النقلة الثقافية الكبيرة التي دفعت بمجتمعنا إلى الأمام، بحيث لم يعد أي شيء يرضي القارئ، بل صار القارئ اليوم يطالب المبدع بالمستوى الفني اللائق. وإذا أضفنا إلى ذلك الأحداث السياسية المتسارعة والساخنة على الساحتين المحلية والفلسطينية نفهم الأمر بشكل أعمق. فهذا التسارع وهذه السخونة يجعلان الكتابة الروائية صعبة. ولا يخفى على أحد أننا نعيش فعلاًً في مجتمع متقلب سريع في تحولاته على جميع الأصعدة، وهذا الوضع يؤدي بطبيعة الحال إلى تجاوب أنواع أدبية معينة غير الرواية كالشعر مثلاً، وذلك لأنه أسرع إلى التقاط مثل هذا التحولات وهضمها لذلك نحن لا ندهش اليوم حين نجد أن شعرنا متقدم على الجانر الروائي.
- أما السبب العام الثاني والذي يشكل هو الأخر عائقًا، فهو قضية قلة المرجعية الفنية لهذا الجانر محليًا وفلسطينيًا. فالموروث الروائي في أدبنا قليل جدًا بحيث لا يشكل هذا الموروث مرجعية يمتح منها المبدع وعليها يشيد. صحيح أن أدبنا الفلسطيني لم يعدم هذا الفن في السابق، بل كان له فيه بعض الإسهامات قبل عام (1948) . ولكنها إسهامات قليلة لا تشكل إبداعًا فنيًا حقيقيًا أو إضافة إبداعية على ما كان يكتب في العالم العربي في حينه. وصحيح أيضًاً أننا لم نعدم فن الرواية بعد عام (1948) محليًا، إذ أننا نجد بعض الالتماعات هنا وهناك منذ الخمسينات وحتى اليوم، ولكن حتى هذا لا يمكن اعتباره مرجعًا فنيًا أولاً لقلته، وثانيًا لعدم تواصله، وثالثًا لأن مستواه متفاوت يجنح إلى الهبوط، عدا بعض الإشراقات. أما على المستوى الفلسطيني العام، فبالرغم من أننا نجد روايات ناضجة، لكن لا يمكن لها هي الأخرى على قلتها من جهة، ولعدم وصولها إلينا من أخرى أن تشكل مرجعية، هذا بالإضافة إلى اختلاف مصادرها وظروفها واهتماماتها ومجالاتها الأنطولوجية.
مما تقدم نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تقول، أن تسارع الأحداث السياسية وسرعة التحولات والتقلبات الاجتماعية والثقافية على اختلافها بالإضافة إلى قلة المرجعية والموروث الروائي، كلاهما أدى إلى وضع كالذي بيناه سابقًا وكلا الأمرين مرتبط بما هو عام أي بما هو خارج عن إرادة المبدع.
أما الأمر الثالث والخاص ـ وهو عندي الأهم ـ، والذي يرتبط بالمبدع نفسه، والذي له الأثر الكبير في ولوج هذا الحقل الإبداعي، فهو قضية فنية بحتة، وهي بالتالي لا تقتصر على مبدعينا لوحدهم بل تمتد لتطال معظم هذا الجانر فلسطينيًا، وهي عدم نجاح المبدع في الموازنة بين الخطابين الإبداعي / الروائي / التخييلي والتاريخي / الواقعي / الأيديولوجي . وهذه القضية على غاية من الأهمية. وكي نحدد ارتباط هذه القضية بواقعنا المعيش نقول: إن واقعنا ولكثرة ما فيه من أحداث متسارعة متصارعة في آن معًا، على اختلاف أنواعها، تدعو الروائي دائمًا ِإلى الكتابة عنها والمتح منها. والفن مهما يكن نوعه يكون صادقًا فقط وفنًا فقط حين يستطيع أن يعبر عن الواقع المعيش بطريقة فنية. وكي يعبر عن هذا الواقع بفنية عليه أن يخوض في هذه الأحداث السريعة ، الساخنة، وأن يوازن بينها وبين المتخيل. وهذا أمر في غاية الصعوبة يتطلب معرفة ودراية بأصول اللعبة الروائية. وفي مجتمع كمجتمعنا، وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائمًا تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض السياسي / الاجتماعي، في فلسطين، إبان النكبة، قبلها، في خضمها، بعدها، ومحليًا أيضًا. وهذا أمر من الممكن أن يشكل منزلقًا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى الكاتب أي كاتب، أن يحذر التاريخ وأن يعرف كيف يقيم توازنًا بينه وبين الإبداع. من هنا يتحتم الحذر للذي يحاول ولوج حقل الرواية خوفًا من الوقوع في براثن هذا الواقع / الأيديولوجي / التاريخي، على حساب الروائي / المتخيل / الإبداعي، مما يجعل العمل الروائي عندها مجرد شعارات وبيانات وتقارير ووثائق بعيدة كل البعد عن الفنية.
وأخيرًا، هل نجح روائّيونا في إقامة مثل هذا التوازن؟ أي هل نستطيع أن نقول: إن مبدعينا في كتاباتهم الروائية نجحوا في خلق / إنتاج، واقع متخيل، يستمد أُصوله من آخر موضوعي / مرجعي؟ أم أن عملهم الروائي كان استنساخًا آليًا أو انعكاسا مرآويًا لهذا الواقع الموضوعي/ المرجعي؟
في الحقيقة، إن قراءة متأنية لمعظم إنتاجنا الروائي لغاية الآن تقول: إن روائيّينا على اختلاف مصادرهم وانتماءاتهم وطرائقهم وأساليبهم لم ينجحوا في خلق هذا الواقع المتخيل، بل إن صوت التاريخ / الأيديولوجيا / الواقع، كان غالبًا لدرجة الصراخ في أعمالهم الروائية،بحيث يشعر القارئ بارتباك هذه الأعمال الروائية، وبتقديم الفنية ضحية على مذبح هذا الواقع، وذلك لأن الكاتب ما زال يعاني من عدم السيطرة على أدواته الفنية الإبداعية. فاللعبة ذات أصول، وهي ليست سهلة كما بيّنت، بل تحتاج إلى دربة، وتمرين وقراءة وتجريب، تحتاج إلى وضع التجربة الروائية على نار هادئة كي تستطيع أن تنضج براحة وببطء، لا أن نستعجل الكتابة لأن الحقل الروائي عندنا لا يزال بكرًا.
وبالتالي، أخلص إلى القول بعد هذه الوقفة: تمور في فلسطين الواقعة ضمن حدود (1948) اليوم حركة أدبية نشطة شعرًا وقصة ورواية، وما ينقص هذه الحركة هو عملية التحديث، كي يرقى هذا الأدب إلى المستوى المطلوب واللائق، وكي يلائم المستجدات والمرحلة.
وللحقيقة أقول: مؤخرًا بدأنا نلمس إشارات وعلامات لهذا التحديث وآمل أن يتواصل خاصة في إبداع شبابنا.
هوامش
أ- في الشعر:
بداية تحتم علي الموضوعية قبل التطرق إلى الموضوع أعلاه، الالتزام بجملة من الأمور هي:
أولاً: إن ما سأقدمه حول الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل، سيكون بعيداً عن الاستعراض المألوف في مثل هذه المقاربات، وذلك لسببين:
1. ثقتي في أن القارئ يعرف جيداً المسيرة الأدبية وتأرختها فلسطينياً ومحلياً، وأسماء أعلامها.
2. دفعاً للملل الناتج عن ذكر الإحصائيات والأسماء والتآليف والتصانيف والاقتباسات المكررة.
تأسيساً لما ذكر ، فإن هذه المقاربة السريعة ستحصر نفسها في طرح بعض القضايا الأساسية والمسائل الملحة الساخنة التي تدور على الساحة الأدبية، ومن ثم ستطمح وهي تسعى إلى ذلك إلى تقديم انطباعات خاصّة وتصوّرات للمستقبل.
أما الأمر الثاني: فهو إن هذه المقاربة ستتركز في الأدب العربي الفلسطيني ضمن حدود (1948)، أي ما اصطلح على تسميته بالأدب المحلي.
والأمر الثالث: الذي أرى إلى ضرورة تحديده هنا، هو أن هذه المقاربة وفي قسمها الأول ستسيج نفسها ضمن مساءلتين أساسيتين، الواحدة منهما تنبع من خاصرة الأولى، وذلك كي لا ينفلت الحديث ويتشظى مروحياً ليطال جوانب أخرى، هي ليست في صلب الموضوع أساساً. أما المساءلتان فهما:
ما هي الفلسفة أو الدوافع التي كمنت وراء شعرنا العربي الفلسطيني في حدود (1948)؟ من جهة، ومن أخرى، أين يقف هذا الشعر اليوم من مجمل الحركة الشعرية العربية؟ وبالتالي من مشروع الحداثة؟ تستمد المساءلتان المذكورتان الشرعية من قلة الدراسات التي كتبت في هذا الخصوص. ولكن نحن نقف عند هاتين المساءلتين يترتب علينا أن نشير إلى أنّ شعرنا رغم ما فيه من خصوصية وفرادة فرضتهما عليه خصوصية وفرادة الظروف والمرحلة، هو في الأساس رافد من روافد النهر الأدبي العربي، سواء في مدّه أو في جزره، من هنا فهو يشترك رغم تميزه في الكثير من السمات العامة والملامح مع الشعر العربي عامة.
وبعد
ما هي إذن الفلسفة الكامنة وراء شعرنا العربي الفلسطيني؟ وإلى أي مدى استطاع شعرنا تحقيق متطلبات وجودنا فنياً، والتعبير عن قضايانا بشكل فني؟ ولكن ونحن في غمرة البحث عن إجابة، يجب أن نسأل وهل للشعر بشكل عام فلسفة؟ وإن وجدت فما هي الفلسفة التي تكمن وراء حركة الشعر العربي الحديث عامة؟
الإجابة عن مثل هذا السؤال تكمن في المقولة التالية: " لا شك أن كل عمل فني يفترض فلسفة مسبقة وخطة فكرية ( واعية أو لاواعية)، تؤدي إلى إنجاز هذا العمل وتحقيقه إبداعياً وفكرياً. ولو افترضنا جدلاً انبثاق بعض الأعمال الفنية عن عفوية وتجارب خاصة، ولو افترضنا جدلاً مرة أخرى وجود (اللامعقول في الوجود)، فإن العمل الفني – أي عمل فني، يعكس ظروفاً وأوضاعاً اجتماعية وسيكولوجية خاصة على اعتبار أن الوعي الإنساني هو المقياس المطلق في الوجود. وأن موقف اللاموقف ( وهو موقف اللامبالاة تجاه العالم الخارجي) يفترض وعياً مسبقاً بلا جدوى الوجود وعبثيته، فهو موقف متفكر واع في انسياقه وراء اللاوعي وتسكعه في دروب العدم والمطلق والفراغ".
إذا سلمنا بهذه المقولة، ( وهي عندي صحيحة)، علينا أن نعود إلى الوراء لنرى إلى المستجدات التي طرأت على شعرنا العربي عامة والفلسطيني خاصة، لنقف على الفلسفة الكامنة وراء هذه المسيرة الشائكة والشائقة في آن معاً خلال أكثر من خمسة عقود من الزمن، مع الملاحظة أن الشعر الفلسطيني لم يكن نبتاً شيطانيًا منبتًا عن مسيرة الشعر العربي رغم خصوصيته.
على الصعيد العربي، تميزت المرحلة بما يلي:
1. تململ فكري كان نتيجة لما بذره الروّاد في المرحلة التي سبقت.
2. مدّ قومي عربي دعا إلى العودة إلى التراث والتشبث به كأمة لها رصيدها الحضاري والتاريخي.
3. تململ اجتماعي أدى إلى تغير الكثير من المفاهيم الاجتماعية.
4. تبع ذلك تململ أدبي واضح فقد واكبت حركة الشعر العربي الحديث تاريخيًا ثورة شاملة في الذي ذكر – كان الشعر إيقاعاً لها وتفجيراًً لرموزها الحضارية والإنسانية وتجليًا لحركة هذه الثورة وتناقضاتها واندفاعاً للتحقق والاستمرار.
وكان نتيجة لما تقدم وعنصراً أولياً له، ثورة الشعر الحديث على الصعيد الشكلي حيث حطم الشعر القواعد التقليدية والقوالب الجاهزة للقصيدة العربية واستعاض عن البيت بالتفعيلة كوحدة أساسية في بناء القصيدة، وعن القافية الواحدة بعدد من القوافي. الأمر الذي جعل القصيدة تتحرر من روتينية النغم وتنطلق مع التموجات الإيقاعية الهارمونية والتوزيع الموسيقي. ولم تقتصر الثورة على الشكل بل امتدت إلى المضمون فتغيرت موضوعات الشعر القديمة وتحولت إلى أفكار عصرية إنسانية واقعية تحولت من شعر يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج إلى محايئة هذا الوجود والتزام بالواقع، فصار الشعر ديمقراطيًا يشخص الهموم والأوجاع البشرية العامة، ويتناقل مشاكل القرن وأمراضه الحضارية ومشكلات الإنسان العربي عامة وواقعه المتحول وإمكانياته في البعث والنضال لتحقيق واقع مستقبلي منشود.
إلا أن هذه الثورة لم تلتزم اتجاهاً فكرياً واحداً على صعيد المضمون مع أنها التزمت اتجاهًا واحدًا على صعيد الشكل. ومحصلة التجارب العديدة تشير إلى عدد من الاتجاهات في هذا المضمار، أولها:
الاتجاه الماركسي أو الرومانسية الجديدة، أو الواقعية الاشتراكية، ولا تهمنا التسمية هنا . وقد تميز هذا الاتجاه بالتزامه التام والصريح بالواقع وبقضايا الشعب، واعتبر أن الوضع التعبيري هو الضرورة القصوى في المعركة الكبرى مع الأوهام والقدرية والأفكار البرجوازية والوجودية. وقد أطلق "العقاد" على شعراء هذا الاتجاه اسم ( الشعراء القرمزيون).
يمثل هذا الاتجاه: " بدر شاكر السياب " و " عبد الوهاب البيامي" وغيرهما.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الميتافيزكي أو الوجودي، أو الفني أو اللامعقول، أو الفن للفن أو الاتجاه الرمزي . وأيضًا التسمية هنا لا تهمنا. هذا الاتجاه تبنته مجلة "شعر" اللبنانية أو الشعراء "التموزيون" في بعضهم وقد ألح على ضرورة معانقة الشعر للوجود وانفتاح التجربة الشعرية على معضلات العصر ولا معقوليته وعلى المطلق الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالاتجاه المباشر نحوه والحنين الأبدي إليه. وقد تفرّع عن هذا الاتجاه شعراء الفن للفن، الذين آمنوا بأن العالم غابة من الرموز والكلمات، لذلك قدسوا عبقرية الكلمة الشعرية والجمال الشعري، ولذلك أيضًا جعلوا الجمال المطلق والاستطيقا أنطولوجيا جديدة حلت محل اللاتناسق في العالم وتؤدي إلى مواجهة الجذور الإلهية في أعماق الذات يمثل هذا الاتجاه "توفيق الصايغ"، و "يوسف الخال"، و "سعيد عقل"، و "أدونيس" ، وغيرهم.
والاتجاه الثالث والأخير، هو الاتجاه القومي العربي أو الثوري وهو اتجاه يتميز بالاندفاع الحماسي الثائر المتجه نحو الجماهير والذي يتغنى بالقضية العربية وأمجادها القديمة وانتصاراتها الجديدة. وقد تفرعت عنه مدرسة الشعر الحضاري التي تحررت من الغموض والسطحية وحاولت أن تكتب ملحمة حضارية للقضية العربية ذات رؤيا عصرية جديدة من خلال عبثية الحصار الذاتي ولا معقولية الوجود ككل دون الوقوع في التشاؤم والعبثية.
وقد صور شعراء هذا الاتجاه المأساة العربية ككل وعكسوا في أشعارهم الواقع وصوروه تصويرًا صادقًا على أنه صراع "سيريفي" حاد بين متطلبات الواقع الحضاري ورؤياه المستقبلية، وبين الواقع ذاته كتناقض وديناميكية وصيرورة. يمثل هذا الاتجاه "سليمان العيسى"، و "يوسف الخطيب"، وغيرهما.
هذه هي الاتجاهات الثلاثة بفلسفاتها التي سيطرت على شعرنا العربي الحديث منذ انطلاقته عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين والسؤال الذي يرتفع الآن وماذا مع الشعر الفلسطيني الذي نحن بصدده ؟
على صعيد الشعر العربي الفلسطيني المحلي الذي نحن بصدده وبالرغم من اشتراكه في العديد مما ذكر، إلا أنه يظل له تميّزه وفرادته. لذلك تميزت المرحلة فلسطينيًا في حدود (1948)، بما يلي:
1. حيرة سياسية خلفتها النكبة، تشريد \ حكم عسكري \ مصادرة الأرض \ إنكسار اللجوء \ ذل العوز\ الخوف \ الترقب.
2. تغير في البنية الاجتماعية بسبب هذه المستجدات، من مجتمع فلاحين إلى أكثرية عاملة في السوق اليهودية.
3. محاولات متكررة لطمس ولتغييب الشخصية العربية والتراث العربي والهوية القومية.
4. تحوّل بالنسبة للموقف من المرأة. فقد فرض الوضع الجديد خروج المرأة إلى العمل وإلى التعلم لكسب لقمة العيش.
5. لقد تبع ذلك حيرة في الأدب، فبسبب الظروف انقسم أدباؤنا إلى قسمين:
قسم آثر الصمت فكسر قلمه وتقوقع، وآخر آثر التحدي، صمت فترة ثم لملم جراحه وعاد للكتابة وخاصة إلى نظم الشعر. وهذا القسم الثاني انقسم أيضًا إلى قسمين: قسم دمج الخطاب السياسي التاريخي الأيدولوجي مع الخطاب الفني الإبداعي لضرورة المرحلة. وقسم فصل بينهما مؤثراً الابتعاد عن السياسة وإشكالاتها. الأول وجد المنبر أما الثاني فأصاب أدبهم شيء من التعتيم.
من هنا نجد أن معظم ما نشر عندنا من شعر كان يحمل النبرية والوعظية والنزعة التعليمية إلى جانب التوثيقية والتسجيلية، وذلك بسبب الذي ذكر آنفا.
هذه الوعظية استلزمت شعرًا واضحًا مباشرًا خطابيًا. وعندي أن أي ناقد أو دارس لا يستطيع أن ينكر اليوم ما مر به، شعرنا منذ النكبة والشعر بطبيعته يتأثر بالظروف ويعكس المرحلة. منذ النكبة التي حلت بنا عشنا حصارًا واستلابًا ثقافيين مذهلين، بحيث أدّى هذا الحصار إلى أن يتخذ الشاعر موقعًا وطنيًا فوق موقعه الشعري، بمعنى أنه أدّى إلى أن يكرّس الشعراء أدبهم في خدمة قضايا شعبنا وإن كان ذلك على حساب قضية الأدب وأدبيته، أي على حساب شعرية الشعر.
من هنا سيطر نوع معين من الشعر على معظم إنتاج شعرائنا، هو شعر المقاومة وشعر المقاومة هذا جمع الموقف والتعليم معًا . والشعر في هذه الحالة التي بيناها يتدفق ليثور وليثوّر، ولأنه كذلك يصير خطابيًا مباشرًا صريحًا. صاحب مهمة وصفية قريبة من النثر. وشعر المقاومة المذكور انبثق من التأثّر بالتيارين العربيين الفكريين الأول والثالث المذكورين آنفًا.
الظروف إذن هي التي دفعت بمعظم شعرنا وشعرائنا إلى اتخاذ موقف لا مهرب منه ولا حيدة عنه. الظروف هي التي وجهت شعرنا وشعراءنا تلك الوجهة التي نتحدث عنها وأملت عليه فلسفة خاصّة فحتى هؤلاء الذين هربوا من المعركة وابتعدوا بشعرنا عنها بحجة الفنية. نبذ شعرهم وابتعد عنه القراء والناس لأنهم رأوا فيه تزييفًا للمرحلة.
والسؤال الآن ألا يجب على هذا الشعر وبعد قرابة نصف قرن من الزمان أن يبارح نثريته وخطابيته ووعظيته، وأن ينطلق نحو التجديد، ليقترب نحو الحداثة، وليواكب تطور الشعر العربي عامة؟
في رأيي أن الظروف التي أحاطت بشعرنا قد تغيرت، من هنا فعلى هذا الشعر أن يغير نفسه وأن يسعى نحو الشعر الجديد الحداثي. ومع تغير الظروف تغير مفهوم الشعر وتغيرت غايته. فقد كان المفهوم السابق للشعر الذي شاع واحتل مرحلة زمنية طويلة، والذي عبر عنه الشاعر "الزهاوي" بقوله:
"إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقًا أن يقال له الشعر" هذا المفهوم الذي شرحه "شوقي" بقوله:
"الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة أو حكمة فهو تقطيع وأوزان".
بمعنى أن غاية الشعر هز الوجدان والعقل وطريقته إلى ذلك الوزن والقافية وما يتبعهما. هذه الغائية قد تغيرت عربيًا وعليها أن تتغير فلسطينيًا أيضًا. لأن هذه النظرة للشعر بطبيعة الحال تجعل مهمته تعليمية إخبارية أو وصفية كالنثر. ومع تنامي الوعي ومع دخول آليات الثقافة الغربية التي حولت هذا المفهوم وهذه الغائية إلى شيء آخر ومن خلال تأثرنا بها ومع زوال المسبب أرى لزامًا على شعرنا اليوم أن يتغير وأن يفارق سلفيته ليصبح فنًا غايته التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا، يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه . غايته اختراق المألوف وتفتيق العادي إلى الإدهاش والشدهة. على هذا الشعر أن يسعى إلى ترسيخ الضبابية والسرية كميزتين أساسيتين تثيران حك الذهن والتشويق والتحدي والمغامرة وحب الاستطلاع والكشف شريطة ألا تقود هذه السرية إلى الغموض والتعمية. عليه أيضًا أن يسعى إلى كسر حدود اللغة وحواجزها وتحدي الأساليب المتوارثة، عليه أن يستشرف ويتداعى وأن يكون محملاً بالحلم مشتملاً على رؤيا. هذه الأمور مجتمعة تحدد الشعر بآليات وعناصر بدأ شعرنا العربي عامة ومنذ أواسط الستينات يدنو منها ويحاول الوصول إليها- بينما ظل شعرنا في معظمه يراوح مكانه. من هذه الآليات الترميز شريطة ألا يكون الرمز نبتًا شيطانيًا منبتًا عن القصيدة أو منغلقًا. بل عليه أن يكون نابعًا عن ضرورات فنية.
والترميز يستلزم أن تتحول اللغة في الخطاب الشعري من التصريح إلى التلميح، من الوضوح إلى الإيحائية، من الترهل إلى التكثيف . وهذا يقود إلى التضمين، ذلك التضمين الذي بواسطته تكتسب القصيدة جدتها وطرافتها. والتضمين بطبيعة الحال يستدعي تلاقي الأضداد الذي يعطي للقصيدة زخمها وتوتراتها، بحيث نرتفع معها فوق مساق الكلام العادي. وهذه الأمور تقود بالتالي إلى صور تركيبية رامزة ليست بالمسطحة، وإلى لغة نابضة حية، ومفردات وألفاظ منزاحة تؤدي إلى ما وراء المعاني. وهذا معناه أن تكون الألفاظ بعيدة عن المباشرة بحيث تتجنب التقريرية من جهة، وأن تخلو لغة القصيدة من الثرثرة والكلام الفائض واللغو من أخرى.
على شعرنا اليوم أن يسعى إلى مظاهر ذات ديمومة وصيرورة كي يستطيع تحطيم العرض الإيضاحي الأيديولوجي المباشر ليصير تعبيرًا عن التجربة الإنسانية، كاسرًا الرؤية الأفقية ليغوص في الأعماق معلنًا فردية القصيدة وفرادتها وتميزها. هذا بالإضافة إلى توظيف التراث بشكل ذكي تلميحي بحيث يولد هذا التراث تداعيات تضفي على القصيدة جوًا ورونقًا. كذلك توظيف لغة خلاقة مؤثثة بمفردات تقول ما لم نتعوده منها.
ويضاف إلى ذلك آلية التناص الذي يغني الخطاب الشعري ويؤكد على بعد رؤية وعمق طروحاته، وتوظيف كل ذلك يستدعي أيضًا الأسطورة شريطة أن تتفاعل الأسطورة مع ما تقوله القصيدة، لا أن تتحول إلى عبء عليها.
ارتكازا على ما ذكر ينهض سؤال مفاده: أين شعرنا من كل ما ذكر؟ وهو سؤال مهم، لا بل الأهم في هذه المقاربة.
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم الصراحة من جهة، والحذر من أخرى الصراحة لأننا نبغي من هذا الحديث توضيح مسألة مهمة تلح على واقع شعرنا ومستقبله، والحذر لأننا ونحن نتحدث عن حداثية شعرنا لا ننفي وجودها، بل نؤشر على قلتها.
إن الاستقراء العميق والنظرة الفاحصة لمجمل شعرنا يشيران بأن هذا الشعر في معظمه ما زال يدور في خانة السلفية، والقليل منه استطاع مع الزمن أن يرتفع إلى المستوى المطلوب الذي يتلاءم مع ما ذكرناه سابقًا. والحقيقة تستوجب القول إنه رغم كل ذلك استطاع عدد من شعرائنا أن يفلتوا من إسار النبرة التعليمية والمهمة الوصفية لينطلقوا إلى الجديد. وهذا جهد يسجل لصالح هؤلاء الشعراء الذين على قلتهم استطاعوا بمهارة وبذكاء رغم ضرورة المرحلة التي بيناها سابقًا أن يطوروا قصيدتهم وأدواتهم وحتى القصيدة المقاومة منها. وأن يكسروا حواجزها وحدودها وأن يقدموها بشكل جديد ارتفع عن المباشرة والتصريح والإخبارية والتسطيح، آفة هذا النوع من الشعر. لكن هؤلاء قلة كما ذكرت والحركات الشعرية لا تقاس بالأفذاذ أو بالقلة. من هنا أرى إلى أنه رغم التطور الذي حصل فإن عددًا كبيرًا من شعرائنا ولغاية اليوم لم ينجحوا في كسر النبرة التعليمية الوصفية في قصائدهم لينطلقوا إلى الشعر الجديد \ شعر هذه المرحلة. من هنا يستمدّ هذا الكلام شرعيته، ومن هنا أيضًا نعود إلى ما قلناه: إن معظم شعرنا ما زال يدور في خانة السلفية. ومن هنا ثالثًا نقول: على هذا الشعر اليوم وكي يكون صادقًا وأمينًا للمرحلة الجديدة أن يحاول الإفلات من إسار الماضي وقيوده والاتجاه نحو الجديد \ نحو الحداثة ليلائم روح العصر. على هذا الشعر اليوم أن ينطلق ليعانق الحداثة، ومعانقة الحداثة لا تعني بالضرورة أن يطلق الشاعر تراثه الشعري ولا أساليبه القديمة المتوارثة، ولكنها تعني أن يستفيد منها من ناحية، وأن يخترقهما من أخرى. وهذا لا يمنع فرادته ولا فرديته إذ أنهما لا توجدان إلا ضمن هذين العبئين. وفي قدرة الشاعر- وهذا امتحانه - ، أن يتناول اللغة والطريقة المتوارثة وأن يرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.
في تصوري أن على الشاعر اليوم ونظرًا لتطور المرحلة أن يطور مجاله الأنطولوجي لتتسع مضامينه ولتتلون أفكاره ليصبح شموليًا رحبًا، عليه أن يكف عن الدوران على محور ثيمي واحد لينطلق إلى رؤية شاملة للكون. عليه أن ينتشل شعره من التسكع على السطح ومعاناة الوجود من خارج، وأن يحوله إلى محايئة هذا الوجود.
عليه أن يعرف أن الشاعر الحق يرى الكون في حركته وفي حيويته، ويرى فيه ما تحجبه عنه الألفة والعادة. فالشاعر الشاعر هو الذي يكشف العالم المخبوء كما ويكشف علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من التداعيات الملائمة للتعبير عن ذلك. بالإضافة إلى الآليات التي ذكرت سابقًا.
وبالتالي، هكذا فقط نستطيع انتشال قصيدتنا الفلسطينية المحلية من الرتابة والمباشرة ومن الخطابية والإخبارية والوصفية والنثرية التعليمية.
هذا هو ما أراه وهو قابل للتحقق، وقد بدأنا نرى بعض الثمار في شعر الشباب.
ب- في القصة القصيرة والرواية:
ب. 1. القصة القصيرة:
بداية أقول: إن قصتنا القصيرة قطعت شوطًا لا بأس به من التطور خلال مسيرتها بعد النكبة، وكادت بذلك أن تنافس أكثر الفنون التصاقًا بحياتنا، وأعني الشعر. وإن كنا هنا نحاول الحديث عنها والتأشير على بعض النواقص، فهذا لا يعني أننا ندينها، بل يعني أننا نريد لها المزيد من التقدم لتصل إلى حداثية المرحلة، هذا من جهة، أما من أخرى، فإن التأشير على النواقص لا يلغي الإيجابيات والإنجازات الفنية، بل يحاول إغناءها وإثراءها لتستقيم القصة مع كل ما نطمح إليه أدبًا كان أم قضايا فنية أخرى.
يقول "تشيخوف": " القصة القصيرة كذبة متفق عليها ضمنيًا بين القاص والمتلقي" ، ولكن رغم ذلك فإن القصة بقدر ما هي كذبة ، هي أيضًا تجسيد للحقيقة، وذلك لأنها فن. والفن أسمى أنواع الحقائق، فهو لا يطيق الكذب. " تستطيع أن تكذب في الحب وفي السياسة وفي الأدب وأن تخدع الناس كلما أردت ذلك، فهذه أمور معروفة – إلا أنك لا تستطيع أن تلجأ إلى الخداع في الفن". هكذا يقول "تشخوف" ويصادق على قوله هذا "كيبلينج" بقوله: " الحقيقة شقيقتها الكبرى الحكاية" . وطالما أن الفن مرتبط بالحقيقة، طالما أنه يضاهيها في السمو، فمن الطبيعي أن يكون الفن محاكيًا للواقع مستمدًا من الحياة عاكسًا قضايا المجتمع. وطالما أن القصة القصيرة جزء من هذا الفن، يصبح القول النقدي المعروف الذي يقول: " إن صورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعية" . أمرًا بديهيًا. ولكن هذا التشارط وهذا الارتباط ليسا مباشرين آليين بالضرورة بحكم تمايز واستقلال كل من الصيرورتين عن الأخرى كما يرى الدارسون.
انطلاقًا من هذه البدهية يمكن لنا أن نعاين وأن نرصد التحولات والتفاعلات الاجتماعية والأيديولوجية من خلال رصدنا للتحولات والتفاعلات الشكلية والبنيوية والمضمونية، التي عاشتها قصتنا القصيرة منذ انطلاقتها إلى الآن. ومن هنا يرى عدد لا بأس به من الدارسين والنقاد أن " ظاهرة القصة القصيرة تعتبر دليلاً قويًا على التحول الذي أصاب المجرى السوسيو ثقافي للمجتمع". وهذا الكلام يعني أن تطور القصة القصيرة مترابط ومتفاعل مع الأحداث والمستجدات، منذ الأربعينات. وإذا نحن أردنا أن نرى إلى ما طرأ على القصة من تحولات، علينا أن نرى إلى ما طرأ على الساحة السوسيو ثقافية السياسية من تحولات أيضًا، وإلى ما أصاب ساحة الفعل عندنا، هذا الفعل الذي يتلخص بالتشبث بالوطن وفي البحث عن الهوية الاجتماعية الوطنية، وفيما بعد عن الهوية الاجتماعية الثقافية . وإذا أردنا التحديد نقسم مسيرة القصة عندنا إلى مرحلتين: الأولى منذ النكبة حتى أواسط الستينات، والثانية من أواسط الستينات إلى بداية الألفين.
هذا التقسيم يساعد على متابعة المستجدات والمؤثرات ولا يتغيا إلى التحقيب. ولن ندخل هنا في رسم المميزات للمرحلتين سياسيًا واجتماعيا وثقافيًا وذلك لأمرين: لأن معظمنا عاش المرحلة أو قرأ عنها أو سمع بها، وثانيًا لضيق المجال. ولكننا رغم هذا وذاك نجد أنفسنا مضطرين إلى رصد مضامين القصص في المرحلتين لنرى إلى ما كانت تمور به الساحة من جهة وإلى ما استطاعت القصة محايئته واستيعابه من أخرى.
تمحورت قصص المرحلة الأولى حول المضامين التالية:
- الولاء للأرض والارتباط بها.
- النضال ضد الاضطهاد القومي، وضد كل أشكال القمع والإرهاب ومصادرة الأرض.
- إظهار الظلم الواقع على الطبقات المستغلة.
- فضح مؤامرات السلطة.
- الصراع النفسي \ السياسي، كقضية التسلل واختلاف المنطقين العربي والإسرائيلي.
- التغني بالبطولات العربية والعالمية والانحياز إلى حركات التحرر.
- التأكيد على الهوية الفلسطينية، وعلى الانتماء العربي.
- التغني بالأمجاد الفلسطينية والعربية كاستلهام لماض ناصع.
- الكبت العاطفي والحرمان من كل أشكال الحياة.
وما ميز مضامين المرحلة الثانية، مع أن ما ورد في الأولى متواجد في الثنايا، ما يلي:
- التركيز على لقاء طرفي الشعب الفلسطيني.
- المقاومة بكل أبعادها وتفريعاتها وأشكالها وبطولاتها.
- البطالة، أسبابها ونتائجها.
- هموم المثقف على تنويعاتها.
- الانفتاح على معاناة الشعب الفلسطيني في المنافي.
- تصوير المجتمع الإسرائيلي بكل صراعاته.
- مهاجمة الأنظمة العربية الرجعية.
- تعرية سلبيات المجتمع الفلسطيني.
- رصد الأحداث العالمية.
- شخصية اليهودي التقدمية.
- قضايا المرأة بكل ملابساتها وتشظيّاتها وأبعادها.
- الانتفاضة أثرها وأبعادها.
لكن ونحن نسجل ما حوته القصص من مضامين يجب ألا تغيب عن بالنا بعض الشروخ التي تخللت قصتنا في مسيرتها، ومنها:
- النبرة التعليمية الوعظية الإخبارية.
- المباشرة والخطابية إلى حد الكليشية الجاهز والشعارات وهذان أمران فرضتهما الظروف.
- عدم الموازنة بين الخطابين: التخييلي \ الإبداعي\ القصصي\ وبين الواقعي\ الإيديولوجي\ التاريخي. بحيث يشعر القارئ أن صوت التاريخ كان جهريًا دائمًا في الثنايا. وكم كان صادقًا الناقد المعروف عبد الكبير الخطيبي حين قال: " التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب".
- بهتان وتقليص المجال الأنطولوجي للكاتب. من هنا طغت ظاهرة التكرار على العديد من القصص، فدارت بحكم عكسها للحساسية النفسية والفكرية على محور تيمي واحد والأمران أديّا إلى أن يكون القاص حاضرًا كراوية ومحور في النص يفرض ديكتاتوريته، بحيث تحول النص القصصي إلى مرآة لا يرى الكاتب فيها سوى نفسه. الأمر الذي أدى إلى أن ينبش في سرية ذاته أكثر من نبشه في سرية مجتمعه وواقعه وتاريخه. وهذا قاده إلى تصوير الواقع بما هو عليه فقط دون الالتفات إلى ما في الواقع من أنواع مغيبة مضمرة.
ما ذكرناه سابقًا جعل قصتنا في معظمها تميل إلى النظرة الأفقية الولوع بالتفاصيل الكثيرة، وإلى الترهل السردي واللغة الإخبارية الجامدة كما أدى إلى بناء مدماكي تقليدي وإلى شخصية موباسانية متماسكة وإلى التركيز على البراني أي على الموضوع.
وبالتالي ماذا مع الشكل؟ فقد انحصر كلامنا عن قصتنا لغاية الآن في المضامين.
في الحقيقة: إن قصتنا في قضية شكلها تنسجم مع القصة العربية عامة. ولكنها بدأت تقصر في متابعة التطور المتنامي في السنوات العشر الأخيرة.
وإذا تطرقنا إلى قضية الشكل نجد عدداً لا بأس به من الدارسين يرون إلى أن القصة العربية - وينسحب كلامهم على قصتنا -، راوحت بين ثلاثة مناهج هي:
1. منهج العين الرائية الفوتوغرافية، وهي أقرب إلى الكتابة والسينمائية.
2. منهج العين الباطنية \ فاعلية الذاكرة \ المونولوج \ أو ما يسمى بتيار الوعي. بحيث تصبح الكتابة قريبة من الكتابة الشعرية.
3. منهج ثنائي تقريبي يجمع ويوائم بين الفاعليتين: العين والذاكرة بحيث تصبح الكتابة القصصية "كولاجا" أو إنتاجا من اللغات والأصوات . إن قراءة متأنية لمعظم ما كتب عندنا من قصص قصيرة تشي بأن الأغلب يقع ضمن الخانة الأولى، وأن تجاوزتها بعض القصص إلى الثانية، وأقل من القليل نحو الثالثة.
وبالتالي إن ما قلناه رغم قصره ورغم حاجته إلى البرهنة العينّية النصية، التي تمنعنا المساحة المكانية المخصصة عن الولوج فيها، يلخص وضع قصتنا من الأربعينات وحتى بداية الألفين.
والسؤال الذي يرتفع الآن ما هو مصير هذه القصة؟ هل ستظل تراوح مكانها؟ بمعنى ما مستقبلها؟ وكيف نريد لها أن تكون؟ علمًا بأن المجتمع قد تغير والظروف قد تغيرت. يستمد هذا السؤال شرعيته من الفرضية الأساس التي طرحناها سابقًا والتي تقول: "إن صورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعية".
يقول المفكر الكاتب "محمد برادة" . " القصة متعة ولذة، واللذة تحرير للجسد والمخيلة وبحث عن اللامرئي الذي يمفصل الذات من ثم تكون القصة القصيرة قادرة على تجديد نفسها عبر تجديدها للنسوغ والخلايا. إنها فاتنة وخلابة، قاسية وصارمة تستطيع أن تجعلنا نجد عالمًا لا يحتمل أكثر من ذي قبل".
ويضيف: " القصة بما تشمل عليه من محكي ووصف وسرد وخيالات وتأملات تكون مندرجة وملتحمة بلحظات واسعة من الجدلية الاجتماعية فتنقل إلينا معرفة ما وتشرع أمامنا كوى" ننفلت عبرها لنبتعد عن المعرفة المألوفة والعلاقة الرتيبة بالأشياء والظواهر والأناسي. ومن خلال القراءة التأويلية التي توفرها القصة لنا - القراءة العبر نصية – سنلتقي في القصة بالمجتمع الذي هو حاضر عبر الكلمات والرموز والإشارات والأشكال. إن الالتقاء بالمجتمع يعني مواجهة القصاص لأسئلة محرقة لا تحتمل الإرجاء، لأنها أسئلة تنبئ عن المأزق العام للمجتمع، وتضع موضع التساؤل مجموعة القيم والمثل والمبادئ والمراهنات التي كانت تخلق دينامية ما وترسم أفقًا نتطلع إليه. إن القاص يجد نفسه وجهًا لوجه مع ركام من الأشياء، ركام من الظواهر المرضية والسلوكية والاجتماعية ركام من الأحداث والأخبار والنوادر والكلمات.
وكل هذه المواد المتفجرة عن صلبنا وأحشائنا تشكل جسدًا هلاميًا لا يمكن أن نحكيه بنفس الوتائر والنبرات واللغات السابقة. وهذا هو مأزق القصاص: كيف يمكن له أن يخطو ويحدد موقعًا لأقدامه فوق أرض ساخنة مليئة بالندوب والبثور، مليئة بيقينيات تنهار وأخرى تتبرعم وتتأسس" .
وطالما أن القصة التقاء بالمجتمع هي تستند إذن إلى تصورات لمكونات الأدب ووظائفه وعلائقه بالمجتمع وببقية الخطابات.
من هنا يتحتم على القاص الذي يريد أن يتطور أن يراقب المجتمع وأن يرى إلى ما طرأ عليه من تطورات ومستجدات كي يطور معها قصته. والمتتبع لمجرى المجتمع يرى أن ثمة تطورًا حدث استبدل قيمًا بقيم ورؤية برؤية وبنية اجتماعية بينية أخرى وقد واكب هذا التطور ضغط شديد على الحريات الفردية وعنت لا يقل شدة في أمور العيش .
الأمر الذي أدى على خلق حالة من القلق والحصار، من الإحباط والتشويش مما أدى إلى تقديم حقائق وتفاسير متضاربة لواقع واحد كان في فترة الخمسينات إلى السبعينات يفرز حقائق متجانسة وتفاسير مألوفة متكاملة لا متلاغية. بمعنى آخر لقد وجدت هذه التبدلات إشكالية حادة في رؤية الفرد لنفسه ولبيئته وإشكالية موازية في اللغة التي باتت تقدم الكثير. من هنا وإزاء الواقع البشري الجديد بات النمط التشيخوفي في القصة الذي شاع في الخمسينات وبعدها لا ينفع، وبسبب المذكور آنفًا باتت الواقعية التقليدية قاصرة كفاعلية فنية. إذ أن جملتها الوثوقية الواضحة التي تنقل واقعًا وثوقيًا واضحًا أصبحت تتعثر الآن، وأن بنيتها المحاكية والمترابطة تسلسليًا تتناسب عكسًا مع الخلخلة الشديدة التي أصابت بنية المجتمع مع طابع الشدّة والتقطّع والتفكك الذي تتسم به الحياة اليوم.
من هنا فالواقع الجديد قد قلص إلى حد كبير إمكانية التعبير القصصي بأي نمط من الأنماط السابقة وتعيّن على التعبير اللفظي أن يجد تقنية جديدة تنقل المستجدات البالغة الخطورة في حياة الأفراد والمجتمع والتي بدأت تتضح في هذه الفترة. من هنا أيضّا فإن البنية المدماكية للقصة التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الواقع الجديد وذلك لأن المعطيات الجديدة كانت غزيرة وكثيفة وثانيًا لأن طبيعة التجربة الحياتية المستجدة كانت بتخلخلها مناقضة تمامًا للبنية المدماكية للقصة، من هنا ثالثًا يتحتم على قصتنا الجديدة التي نكتبها اليوم أن تفتش عن بنى جديدة ملائمة لما ذكر .
وإذا نحن رصدنا قصتنا الفلسطينية اليوم، نجد أنها ما زالت تدور في نفس أقفاصها منذ الخمسينات. وذلك عندي لأمرين: الأول يعود إلى قلة قراءة الكتاب وإطلاعهم على القصة الجديدة في العالمين الغربي والعربي. والثاني إلى عدم معرفتهم بتطور مجتمعهم. وحين نقول هذا لا نعني بطبيعة الحال الجميع وإنما الأغلب. لذلك فإن قصص اليوم ما زالت تعاني من نفس الشروخ التي ذكرناها سابقًا. وكل ما نرجوه من القصة اليوم عندنا أن تفارق اجترارها لقصة الماضي، وأن تلائم نفسها للمستجدات وأن تنهض كي تصبح ذات معنى جديد يعكس المرحلة مضمونًا وشكلاً.
وبالتالي إن ما نطمح إليه قصة تخلخل القصة الموباسانية التقليدية ذات الوحدات الأرسطية. ما نطمح إليه اليوم قصة انفجارية أو مفصلية أو مركبة. ما نطمح إليه قصة ذات نظرة عمودية ولوع بالتفاصيل الصغيرة لا قصة أفقية ذات تفاصيل كبيرة. قصة ذات تداخل أزمنة وذات لغة إيحائية مكثفة بعيدة عن اللغة الإخبارية ذات الوعظية والتعليمية الجامدة. قصة متحررة من الترهل السردي. نطمح إلى قصة تتحول من البراني إلى الجواني، أي من الموضوع إلى الذات . هذا ما نرجوه من قصتنا القصيرة اليوم. وهو على صعوبته ممكن الحصول.
ب.2. الرواية:
ماذا مع الجانر الروائي الفلسطيني في حدود (1948)؟
بداية أقول وبكل المسؤولية والموضوعية: إن فن كتابة الرواية عندنا ما زال في عهد التجريب. والوصول إلى مثل هذه الحقيقة لا يكلف الواحد منا الكثير من الاجتهاد والجهد أو من الذكاء وكد الذهن. إذ مراجعة بسيطة لمعظم ما نشر عندنا من روايات تكفي.
حقيقة كهذه تقود بطبيعة الحال إلى سؤال ملح. لماذا ؟ أي ما هي الأسباب التي أدت إلى تخلف هذا الجانر بالذات وراء الإبداعات الأخرى أي وراء الأجناس الأدبية الفلسطينية الأخرى؟ هل نحن عاجزون عن الكتابة الروائية؟ بمعنى هل نحن لا نملك القدرة الإبداعية على ذلك؟ أم أن الأمر يتعلق بعدم إتقاننا لأسس وقواعد هذه الكتابة؟ هل واقعنا الاجتماعي \ السياسي يفتقر لمقومات معينة هي أساسيات الكتابة الروائية؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى تجعل هذا النوع من الكتابة صعبًا يحتاج إلى ترو وإلى وقت كاف لينضج؟
أسئلة كثيرة كما المذكورة سابقًا وغيرها من الممكن أن تطرح في إطار الحديث عن مثل هذه المسألة الشائكة.
في خضم الإجابة عن مجمل هذه الأسئلة أقول: نحن لسنا عاجزين عن الكتابة الروائية. والبرهان على ذلك هو تلك الروايات التي تظهر بين حين وآخر في أدبنا رغم تباعد الفترة الزمنية بينها. كما أنه من يملك حركة شعرية ناضجة وقصة قصيرة أصابت الكثير من النجاح لا يمكن له أن يكون عاجزًا عن مثل هذه الكتابة. هذا من جهة، أما من أخرى فإن الواقع الذي نعيشه لا يفتقر للأساسيات الروائية، بل على العكس – هو غني جدًا بها بحيث يستطيع أن يشكل نبعًا ثرا تمتح منه الرواية الكثير من المتنوع والمختلف من المواضيع الجذابة والهامة.
أما قضية عدم إتقاننا لأسس وقواعد الكتابة الروائية ففيها الكثير من التجني على مبدعينا. صحيح أن الكتابة الروائية تتطلب درجة عالية من الإلمام بأسباب الثقافة على تنوعها وتلونها وصحيح أيضًا أن مثل هذه الكتابة تتطلب معرفة دقيقة بشؤون المجتمع وخفاياه ولكن مبدعينا لا ينقصهم مثل هذا الإلمام ولا مثل هذه الثقافة. إذًا كل الأسباب التي زعمناها لاغية أساسًا. وطالما أنها كذلك علينا أن نفتش عن أسباب أخرى تشكل فعلاً العائق أمام مبدعينا، العائق الذي يقف سدًا يمنعهم من ولوج هذا الحقل الإبداعي الذي يسيطر اليوم، واليوم بالذات على حقول الإبداعات الأخرى في العالم. وهذا الأمر يقودنا مرة أخرى إلى المساءلة الأساس ذاتها: لماذا؟ ما هي الأسباب؟
في رأيي إن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقًا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: عامة، وأعني بها تلك الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع. وخاصة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامة سببان هامان هما: طبيعة الظروف التي نعيشها أولاً، وقلة المرجعية لهذا الجانر فلسطينيًا ومحليًا ثانيًا. أما السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن على الموازنة بين الخطابين: الخطاب التاريخي \ الأيديولوجي \ الواقعي والخطاب الإبداعي \ الروائي \ التخييلي. ورغم خصوصية هذا الأخير إلا أن له علاقة بالظروف. ولنبدأ بالأسباب العامة:
- إنصافًا لمبدعينا أقول: إن فن كتابة الرواية ليس بالأمر السهل، فعلى الكاتب الذي يريد ولوج هذا الحقل أن يرصد الأحداث ويعاينها بصبر وأناة ليختزنها في داخله لتتم له عملية هضمها ولتخرج بالتالي في قالب روائي فني يعيد فيه الكاتب خلق ما كان على الشكل الذي يريد له أن يكون. وكي يتم له ذلك عليه أن يعرف أيضًا كيف يخترق الواقع المعيش، وكيف يعبر عنه بصدق وبأمانة تعبيرًا فنيًا، كما عليه أن يعرف كيف يرتفع بعمله من العادي المألوف إلى الإدهاش، وإلى استنطاق الظاهرة وكشف ما وراءها. وهذا كله صعب، خاصة ونحن نعيش في مجتمع متقلب سريع الأحداث، بحيث لا يترك للمبدع فرصة للتأمل والمعاينة وتحليل الظواهر. إن نظرة متأنيّة إلى واقعنا الذي نعيشه تشي بسرعة الخطى وكبر حجم النقلات فيه. فالتحول كان سريعًا وكبيرًا كمًا ونوعًا. فنحن خلال نصف قرن تحولنا من مجتمع قروي فلاحي بمفاهيمه وعقليته وتقاليده إلى مجتمع تكنولوجي. هذا الانتقال السريع غير المدروس أثار الدهشة في مبدعينا وأخرس تحليلاتهم وشل هضمهم له مدة زمنية طويلة.
كما أن هذا الانتقال أدى إلى نقلة أخرى مرتبطة به، هي تلك النقلة الثقافية الكبيرة التي دفعت بمجتمعنا إلى الأمام، بحيث لم يعد أي شيء يرضي القارئ، بل صار القارئ اليوم يطالب المبدع بالمستوى الفني اللائق. وإذا أضفنا إلى ذلك الأحداث السياسية المتسارعة والساخنة على الساحتين المحلية والفلسطينية نفهم الأمر بشكل أعمق. فهذا التسارع وهذه السخونة يجعلان الكتابة الروائية صعبة. ولا يخفى على أحد أننا نعيش فعلاًً في مجتمع متقلب سريع في تحولاته على جميع الأصعدة، وهذا الوضع يؤدي بطبيعة الحال إلى تجاوب أنواع أدبية معينة غير الرواية كالشعر مثلاً، وذلك لأنه أسرع إلى التقاط مثل هذا التحولات وهضمها لذلك نحن لا ندهش اليوم حين نجد أن شعرنا متقدم على الجانر الروائي.
- أما السبب العام الثاني والذي يشكل هو الأخر عائقًا، فهو قضية قلة المرجعية الفنية لهذا الجانر محليًا وفلسطينيًا. فالموروث الروائي في أدبنا قليل جدًا بحيث لا يشكل هذا الموروث مرجعية يمتح منها المبدع وعليها يشيد. صحيح أن أدبنا الفلسطيني لم يعدم هذا الفن في السابق، بل كان له فيه بعض الإسهامات قبل عام (1948) . ولكنها إسهامات قليلة لا تشكل إبداعًا فنيًا حقيقيًا أو إضافة إبداعية على ما كان يكتب في العالم العربي في حينه. وصحيح أيضًاً أننا لم نعدم فن الرواية بعد عام (1948) محليًا، إذ أننا نجد بعض الالتماعات هنا وهناك منذ الخمسينات وحتى اليوم، ولكن حتى هذا لا يمكن اعتباره مرجعًا فنيًا أولاً لقلته، وثانيًا لعدم تواصله، وثالثًا لأن مستواه متفاوت يجنح إلى الهبوط، عدا بعض الإشراقات. أما على المستوى الفلسطيني العام، فبالرغم من أننا نجد روايات ناضجة، لكن لا يمكن لها هي الأخرى على قلتها من جهة، ولعدم وصولها إلينا من أخرى أن تشكل مرجعية، هذا بالإضافة إلى اختلاف مصادرها وظروفها واهتماماتها ومجالاتها الأنطولوجية.
مما تقدم نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تقول، أن تسارع الأحداث السياسية وسرعة التحولات والتقلبات الاجتماعية والثقافية على اختلافها بالإضافة إلى قلة المرجعية والموروث الروائي، كلاهما أدى إلى وضع كالذي بيناه سابقًا وكلا الأمرين مرتبط بما هو عام أي بما هو خارج عن إرادة المبدع.
أما الأمر الثالث والخاص ـ وهو عندي الأهم ـ، والذي يرتبط بالمبدع نفسه، والذي له الأثر الكبير في ولوج هذا الحقل الإبداعي، فهو قضية فنية بحتة، وهي بالتالي لا تقتصر على مبدعينا لوحدهم بل تمتد لتطال معظم هذا الجانر فلسطينيًا، وهي عدم نجاح المبدع في الموازنة بين الخطابين الإبداعي / الروائي / التخييلي والتاريخي / الواقعي / الأيديولوجي . وهذه القضية على غاية من الأهمية. وكي نحدد ارتباط هذه القضية بواقعنا المعيش نقول: إن واقعنا ولكثرة ما فيه من أحداث متسارعة متصارعة في آن معًا، على اختلاف أنواعها، تدعو الروائي دائمًا ِإلى الكتابة عنها والمتح منها. والفن مهما يكن نوعه يكون صادقًا فقط وفنًا فقط حين يستطيع أن يعبر عن الواقع المعيش بطريقة فنية. وكي يعبر عن هذا الواقع بفنية عليه أن يخوض في هذه الأحداث السريعة ، الساخنة، وأن يوازن بينها وبين المتخيل. وهذا أمر في غاية الصعوبة يتطلب معرفة ودراية بأصول اللعبة الروائية. وفي مجتمع كمجتمعنا، وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائمًا تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض السياسي / الاجتماعي، في فلسطين، إبان النكبة، قبلها، في خضمها، بعدها، ومحليًا أيضًا. وهذا أمر من الممكن أن يشكل منزلقًا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى الكاتب أي كاتب، أن يحذر التاريخ وأن يعرف كيف يقيم توازنًا بينه وبين الإبداع. من هنا يتحتم الحذر للذي يحاول ولوج حقل الرواية خوفًا من الوقوع في براثن هذا الواقع / الأيديولوجي / التاريخي، على حساب الروائي / المتخيل / الإبداعي، مما يجعل العمل الروائي عندها مجرد شعارات وبيانات وتقارير ووثائق بعيدة كل البعد عن الفنية.
وأخيرًا، هل نجح روائّيونا في إقامة مثل هذا التوازن؟ أي هل نستطيع أن نقول: إن مبدعينا في كتاباتهم الروائية نجحوا في خلق / إنتاج، واقع متخيل، يستمد أُصوله من آخر موضوعي / مرجعي؟ أم أن عملهم الروائي كان استنساخًا آليًا أو انعكاسا مرآويًا لهذا الواقع الموضوعي/ المرجعي؟
في الحقيقة، إن قراءة متأنية لمعظم إنتاجنا الروائي لغاية الآن تقول: إن روائيّينا على اختلاف مصادرهم وانتماءاتهم وطرائقهم وأساليبهم لم ينجحوا في خلق هذا الواقع المتخيل، بل إن صوت التاريخ / الأيديولوجيا / الواقع، كان غالبًا لدرجة الصراخ في أعمالهم الروائية،بحيث يشعر القارئ بارتباك هذه الأعمال الروائية، وبتقديم الفنية ضحية على مذبح هذا الواقع، وذلك لأن الكاتب ما زال يعاني من عدم السيطرة على أدواته الفنية الإبداعية. فاللعبة ذات أصول، وهي ليست سهلة كما بيّنت، بل تحتاج إلى دربة، وتمرين وقراءة وتجريب، تحتاج إلى وضع التجربة الروائية على نار هادئة كي تستطيع أن تنضج براحة وببطء، لا أن نستعجل الكتابة لأن الحقل الروائي عندنا لا يزال بكرًا.
وبالتالي، أخلص إلى القول بعد هذه الوقفة: تمور في فلسطين الواقعة ضمن حدود (1948) اليوم حركة أدبية نشطة شعرًا وقصة ورواية، وما ينقص هذه الحركة هو عملية التحديث، كي يرقى هذا الأدب إلى المستوى المطلوب واللائق، وكي يلائم المستجدات والمرحلة.
وللحقيقة أقول: مؤخرًا بدأنا نلمس إشارات وعلامات لهذا التحديث وآمل أن يتواصل خاصة في إبداع شبابنا.
هوامش
[1] أحيل القارئ إلى : محمود، غنايم. (1995). المدار الصعب." فصل البداية مرة أخرى"، ص 37 وما بعدها. حيفا: جامعة حيفا. وأيضًا راجع نبيه، القاسم. (2003). الحركة الشعرية الفلسطينية في بلادنا. كفر قرع: دار الهدى.
[1] إمطانيوس، ميخائيل (1968). دراسات في الشعر العربي الحديث. صيدا، بيروت: المكتبة العصرية. ص 9 – 10.
[1] المقدسي، أنيس (1967). الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث. بيروت: دار العالم للملايين.ط 4. ص 91.
[1] إمطانيوس: مصدر سابق، ص 11، وراجع أيضًا: غالي، شكري. (1968). شعرنا الحديث إلى أين. القاهرة: دار المعارف. الفصل 1، ص 7 وما بعدها.
[1] راجع إمطانيوس، مصدر سبق ذكره: حيث يسمى الاتجاه بالماركسي، بينما غالي شكري، مصدر سبق ذكره، يسميه بالرومانسية الجديدة، ومصطفى بدوي في كتابه: دراسات في الشعر والمسرح، القاهرة،1960، يسميه بالواقعية الاشتراكية. راجع كتاب فهد أبو خضرة (1980). قصائد مختارة. عكا: السروجي. حيث فيه قائمة مقارنة بالتسميات، ص 15-16.
[1] إمطانيوس ـــ مصدر سابق، ص 238 وما بعدها.
[1] إمطانيوس، مصدر سابق، ص 189، وما بعدها. وراجع أيضًا شكري، وبدوي وأبو خضرا مصادر سبق ذكرها.
[1] إمطانيوس ـــ مصدر سابق، ص 190 وما بعدها.
[1] ن.م ص 280 وما بعدها.
[1] حبيب، بولس. (1994). الرحلة الثالثة. الناصرة: دائرة الثقافة العربية. ص 111.
[1] حبيب، بولس. (2000). الوثائق الحرير. الناصرة: مؤسسة توفيق زياد للثقافة الوطنية والإبداع. ص 47 وما بعدها.
[1] يوسف، الخال.(1978). الحداثة في الشعر. بيروت: دار الطليعة. ص 13-14.
[1] أدونيس (1978). زمن الشعر. بيروت: دار العودة.ط 2. ص 9 ما بعدها. وكذلك الخال: مصدر سابق، ص 14.
[1] حبيب، بولس. (1997). قضايا ومواقف أدبية. الناصرة: المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب، ص 91 وما بعدها.
[1] الخال: مصدر سابق، ص 14 وما بعدها.
[1] ن.م. ص 19 وما بعدها.
[1] إمطانيوس: مصدر سابق. ص 11.
[1] نجيب، العوفي. (1986). القصة القصيرة المغربية....، وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. ص 67.
[1] ن.م. ص 67.
[1] ن.م. ص 69.
[1] حبيب، بولس. (1999). انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية في إسرائيل. سخنين: المعهد العربي. المقدمة.
[1] ن.م المقدمة.
[1] العوفي، مصدر سابق، ص 80.
[1] ن.م. ص 75.
[1] محمد، برادة. كتابة الفوضى والفعل المتغير، وقائع ندوة مكناس. مصدر سابق، ص 7 وما بعدها.
[1] ن.م. ص 14.
[1] هاني، الراهب. حول واقع الكتابة القصصية. ندوة مكناس، مصدر سابق، ص 96.
[1] ن.م. ص 97.
[1] حبيب، بولس. الأنطولوجيا. مصدر سابق، المقدمة.
[1] راجع: عبد الرحمن، ياغي. (1968). حياة الأدب الفلسطيني. بيروت: المكتب التجاري. فصل حياة القصص، ص 441 وما بعدها. وكذلك، ناصر الدين، الأسد. (1957). الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن. القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية. فصل القصة، ص 93 وما بعدها. وكذلك أحمد، أبو مطر. ( 1980). الرواية في الأدب الفلسطيني. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. فصل الجهود الروائية قبل 1950، ص 15 وما بعدها.
[1] محمود، أمين العالم. (1986). الرواية العربية بين الواقع والإيديولوجية. اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع. ص 10 وما بعدها.
[1] إمطانيوس، ميخائيل (1968). دراسات في الشعر العربي الحديث. صيدا، بيروت: المكتبة العصرية. ص 9 – 10.
[1] المقدسي، أنيس (1967). الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث. بيروت: دار العالم للملايين.ط 4. ص 91.
[1] إمطانيوس: مصدر سابق، ص 11، وراجع أيضًا: غالي، شكري. (1968). شعرنا الحديث إلى أين. القاهرة: دار المعارف. الفصل 1، ص 7 وما بعدها.
[1] راجع إمطانيوس، مصدر سبق ذكره: حيث يسمى الاتجاه بالماركسي، بينما غالي شكري، مصدر سبق ذكره، يسميه بالرومانسية الجديدة، ومصطفى بدوي في كتابه: دراسات في الشعر والمسرح، القاهرة،1960، يسميه بالواقعية الاشتراكية. راجع كتاب فهد أبو خضرة (1980). قصائد مختارة. عكا: السروجي. حيث فيه قائمة مقارنة بالتسميات، ص 15-16.
[1] إمطانيوس ـــ مصدر سابق، ص 238 وما بعدها.
[1] إمطانيوس، مصدر سابق، ص 189، وما بعدها. وراجع أيضًا شكري، وبدوي وأبو خضرا مصادر سبق ذكرها.
[1] إمطانيوس ـــ مصدر سابق، ص 190 وما بعدها.
[1] ن.م ص 280 وما بعدها.
[1] حبيب، بولس. (1994). الرحلة الثالثة. الناصرة: دائرة الثقافة العربية. ص 111.
[1] حبيب، بولس. (2000). الوثائق الحرير. الناصرة: مؤسسة توفيق زياد للثقافة الوطنية والإبداع. ص 47 وما بعدها.
[1] يوسف، الخال.(1978). الحداثة في الشعر. بيروت: دار الطليعة. ص 13-14.
[1] أدونيس (1978). زمن الشعر. بيروت: دار العودة.ط 2. ص 9 ما بعدها. وكذلك الخال: مصدر سابق، ص 14.
[1] حبيب، بولس. (1997). قضايا ومواقف أدبية. الناصرة: المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب، ص 91 وما بعدها.
[1] الخال: مصدر سابق، ص 14 وما بعدها.
[1] ن.م. ص 19 وما بعدها.
[1] إمطانيوس: مصدر سابق. ص 11.
[1] نجيب، العوفي. (1986). القصة القصيرة المغربية....، وقائع ندوة مكناس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. ص 67.
[1] ن.م. ص 67.
[1] ن.م. ص 69.
[1] حبيب، بولس. (1999). انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية في إسرائيل. سخنين: المعهد العربي. المقدمة.
[1] ن.م المقدمة.
[1] العوفي، مصدر سابق، ص 80.
[1] ن.م. ص 75.
[1] محمد، برادة. كتابة الفوضى والفعل المتغير، وقائع ندوة مكناس. مصدر سابق، ص 7 وما بعدها.
[1] ن.م. ص 14.
[1] هاني، الراهب. حول واقع الكتابة القصصية. ندوة مكناس، مصدر سابق، ص 96.
[1] ن.م. ص 97.
[1] حبيب، بولس. الأنطولوجيا. مصدر سابق، المقدمة.
[1] راجع: عبد الرحمن، ياغي. (1968). حياة الأدب الفلسطيني. بيروت: المكتب التجاري. فصل حياة القصص، ص 441 وما بعدها. وكذلك، ناصر الدين، الأسد. (1957). الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن. القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية. فصل القصة، ص 93 وما بعدها. وكذلك أحمد، أبو مطر. ( 1980). الرواية في الأدب الفلسطيني. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. فصل الجهود الروائية قبل 1950، ص 15 وما بعدها.
[1] محمود، أمين العالم. (1986). الرواية العربية بين الواقع والإيديولوجية. اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع. ص 10 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق