الثلاثاء، يونيو 16، 2009

الصورة الثانية / المتنبي في إيبيزا

د. عدنان الظاهر

( إذا أَردتُ كُميتَ اللونِ صافيةً
وجدتها ، وحبيبُ القلبِ مفقودُ )

في شرفة الفندق المطلّة على البحر وساحله الرملي جلستُ والمتنبي لنتداول أمور الزمان والذكريات السالفة . كان أمامنا الكثير من علب البيرة المثلّجة مع شئٍ من البطيخ السكّري واللوز الإسباني المالح ، مزّتنا . رفعنا كأسينا في صحة أبي الطيّب المتنبي وقرعناهما برفقٍ ببعضهما وتناولنا بضعة قطع من البطيخ . جلستْ في الشرفة المجاورة فتاتان يافعتان من هولندا كانتا تلعبان الورق غير مهتمتين بأصحاب الشرفة المجاورة . أخرجتُ من جيب قميصي الصيفي صورة لفتاة مغربية وعرضتها على ضيفي . تفحّصها مليّاً وأطالَ فيها النظر وقلّبها مراراً ثم هزَّ رأسه حين لاحظ تأريخاً مكتوباً على ظهر الصورة { مايس 2007 } . لفّت صاحبي غمامة حزنٍ وكآبةٌ سوداءُ فكبُرَ عليَّ الأمرُ . لا بدَّ من إخراجه مما هو فيه من حالة حزينة بائسة . رفعتُ كأسي في صحة أبي الطيّب فجاملني ورفع كأسَه حتى لامسَ شفتيه الجافتين لكنه لم يرتشف شيئاً منه . وضعَ كأسه برفقٍ على الطاولة وتناول الصورةَ إياها ثانيةً وأطال التطلّع فيها . ما سرُّ هذه الصورة يا صديقي ؟ جرحٌ ، جرحٌ عميقٌ غائرٌ في أعماق القلب والروح ، أجابَ. عدّلَ جلسته ليلقي نظرةً طويلة على جارتينا . هل أعجبتك هاتان الفتاتان ؟ قال إنَّ في وجه الطويلة منهنَّ شَبَهاً كثيراً من وجه صاحبة الصورة . هل أعرفّكَ عليها يا شاعرُ ؟ قال كلاّ ، جرحٌ واحدٌ شديدُ العمقِ كافٍ وأكثر من كافٍ . جرحان يقتلانني لأنني لم أعدْ أتحمل الكثير حتى [ تكسّرت النصالُ على النصالِ ] . بدا لي أنَّ فكرةَ التعرّفِ عليها قد راقت للرجل . إنشرحتْ أساريرُهُ فجأةً وإنقشعت الغمامة السوداءُ التي كانت تغشى عينيه فرفعَ كأسَهُ صوبَ الفتاتين ثم صاح بالإنكليزية :

Cheer You

ضحكت حوريتا جنان الخُلد بصوتٍ صاخب ثم رفعتا كأسيهما عالياً وصاحتا [ جير يو ] . ماذا يريد الشاعرُ أكثرَ من هذا ؟ تعرّف خلال بضعة دقائق على فتاتين هولنداويتين جاءتا جزيرة إيبيزا الإسبانية لوحدهما للتمتع بالشمس والرمل والبحر ومطلق الحرية بعيداً عن الأهل . [ جير يو ] ... هكذا أُغرمَ المتنبي بهذه الجملة فصار يرددها همساً تارةً وبصوتٍ عالٍ تاراتٍ . وصلتني العدوى مع تكاثر عدد الأنخاب المرفوعة والكؤوس الموضوعة فطفقتُ أرددها ولكن مع نفسي ... لا أجرؤ أنْ أنافسَ أو أُجاري نديمي . سرعانَ ما عاد المتنبي إلى سابق كآبته فسرّح عينيه المحملتين بكل بُن اليمن شماله وجنوبه ، بحره وسد مأربه ، ليمسح كلَّ المسافة الشاسعة الممتدة ما بين شرفتنا وقرص الشمس الأحمر الأرجواني الباقي عالقاً فوق سطح البحر قبيل الغياب الكامل . يعود للصورة كلما غاصَ في سوداويته ومع الغوص يسرفُ في تناول كؤوس البيرة وقضم قطع البطيخ السكّري الذي يضاهي لون الشمس وقت الظهيرة . تركَ الصورة على الطاولة برفق مبالغ فيه كأنه يضع طفلاً رضيعاً في مهده . إلتفت صوب شرفة جارتينا ، جاريتي المتعة والسرور ، وكانتا ما زالتا منهمكتين في لعب الورق ، رفع كأسه دون أنْ يطقّه بكأسي وصاح بصوتٍ عالٍ : جير يو ! صاحت بلبلتا الشرفة المجاورة بنغمة تحاكي نغمة المتنبي تماماً : جير يو ! كاد أنْ يُجنَّ صاحبي . تجربة جديدة بالنسبة له ما مرَّ بمثلها في سابق حياته لا في العراق ولا في بلاد الشام ولا في فسطاط مصر ولا في بلاد فارس . ما أنْ وضع كأسه على الطاولة حتى شرع يقرأ بيتاً شعرياً من قصيدة قالها في بلاد فارس :

أبوكمْ آدمٌ سنَّ المعاصي

وعلّمكمْ مفارقةَ الجِنانِ

قلتُ فلأشاكسه طالما تورّط إلى هذا الحد في ميله لهاتين الفتاتين . ما رأيك يا متنبي في أنْ أعرّفك على الفتاة الطويلة القامة الكبيرة الوِرك التي أعجبتك لعلها تفلح في انْ تنسيك حبَّ صاحبة الصورة التي أخذتْ منك أكثر عقلك ؟ قال معاذَ معاذَ أنْ أُحبَّ سواها . أنا كما تعلم رجلٌ مع الثبات على الوفاء لا أبدِّلُ قناعاتي ولا أتراجعُ عن معتقداتي ولا أخون . تناول كأسه وغمامة من حزن حقيقي عميق لا تُخفيه مقلتاهُ ثم قرأ بعض شعره بسوداوية مؤثّرة :

لياليَ بعدَ الظاعنينَ شكولُ

طوالٌ ، وليلُ العاشقينَ طويلُ

يُبنَّ ليَ البدرَ الذي لا أريدهُ

ويُخفينَ بدراً ما إليهِ سبيلُ

كيف أساعد ضيفي في أنْ يخرج من حالته الحزينة وقد أسرفَ في ذكرياته مع صاحبة الصورة المغربية ؟ داعبته مشاكساً وقد أحضرتُ المزيد من البطيخ السكّري وعُلب البيرة المثلّجة ففي الشقة مطبخٌ تام التجهيزات . يا أبا الطيّب ، لكنك بالغتَ في مجاملة الفتاتين جارتينا وبالغتَ أكثر في فن مداعبتهنَّ بتكرير جملة ( جير يو ) وبالصوت العالي الأمر الذي لا يتناسب مع وقارك المعروف عنك ويُسيءُ لهيبتك الشخصية والإجتماعية ثم الأدبية . قال منزعجاً : كفَّ عن هذا الكلام السخيف . اتركني وشأني رجاءً . لا وقتَ عندي أضيّعه على مثل هذه السخافات . أنا الآن في أمسِّ الحاجة إلى حالةٍ وجوٍّ يساعدانني على نسيان مصيبتي مع صاحبة الصورة . العبث ومداعبة الجميلات من النساء ونسيان الوقار والهيبة وما إلى ذلك مما حمّلنا البشرُ المُعقّدُ هي من العوامل المساعدة على سرعة إلتئام الجروح القديمة التي لا تشفى ولا تقتل كما قال بعدي شاعرٌ أجنبيٌّ عن بعض جروحه . ثم ، لعلمك يا لائم ، ما حاجتي للوقار وقد كبرتُ وتقدّمَ العمرُ بي وتوغلتُ عميقاً فيه ؟ حين يهرم الرجلُ يتساوى في عينيه الأسودُ والأبيض وتهون عليه التقاليد والعادات والمعروف من القيم . تنهار الجدران الفاصلة فيستخف بكل المعروف والمتعارف عليه من مبادئ وطقوس وأخلاقيات.

هل نسيتَ القول المأثور { عودةُ الشيخ إلى صِباه } ؟ هل أضعُ أمامه ما قال شكسبير حول نفس الموضوع ؟ يا نديمي يا أبا الطيّب ، يرحمك اللهُ في دنياكَ وآخرتك ، هل قرأتَ ما قال شاعرُ الإنكليز بهذا الصدد ؟ ماذا قال ؟ قال [[ الرجلُ العجوزُ طفلٌ مرتين ]]

An old man is twice a child

يعني أن العجوز في سلوكه أسوأ من الطفل ، إنه طفلٌ مُضاعَف .قال قد أحسن الرجلُ في قوله ولا إعتراضَ عليه لديَّ . هذا ما أنا فيه وقد بلغتُ أرذلَ العمر واشتعلَ الرأسُ شيبا . لكنك ما زلتَ يا رجلُ صريعَ هوى سابق لا تستطيع التحرر من قيوده وحبائله ومشاكله ! قال هذه هي الطبيعة البشرية ولكل إمرئٍ من دهره ما تعوّدا . فمن يتحكّمُ فيه هواه يظل أبداً أسيره حتى لو تزوّجَ أو أحبَّ امرأةً اخرى . هذا يعني يا أبا الطيّب أنَّ قول ما قال أحدُ الشعراء بهذا الخصوص صحيح . وما قال هذا الشاعر ؟ قال :

نقّلْ فؤادكَ حيث شئتَ من الهوى

فما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّلِ

رفعَ المتنبي كأسَه وصاح ملتفتاً ناحية جارتينا جير يو فأجابتاهُ جير يو ! عاد إليَّ ليقولَ وقد أفرغَ نصف كأسه : ليس دوماً صحيحاً إنما يتوقف على طبيعة المحب. فبعض الناس قادرٌ على نسيان الهوى الأول والبعض الآخر غير قادر . ثم النسيان يتوقف على عوامل شتى متباينة والنسيان يعني إحلال شئ محل شئ آخر. فإذا تكافأ هذان الشيئان نسيَ الإنسانُ شيئَهُ الأول سريعاً . ثم ، نسيانُ حبيب سابق غير نسيان عزيز من أهل بيتك ، أعني موت والد أو والدة أو جدة كما حصلَ معي بعد وفاة جدتي في الكوفة . قرأ والصورة في يده :

أحنُّ إلى الكأسِ التي شَرِبتْ بها

وأهوى لمثواها الترابَ وما ضمّا

هبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ من العِدى

فكيف بأخذِ الثأرِ فيكِ من الحُمّى ؟

رفع كأسه مسدداً نظرةً ودودةً طويلةً إلى لاعبتي الورق وقال : جير يو !

كانت تلك أبيات من قصيدة معروفة قالها المتنبي في رثاء جدته لأمه وكانت هي من ربّاه وتعهده بدلَ والدته المجهولة المصير .

أشجيتني برثائك هذا يا متنبي وقد إلتقينا لا لنحزن ونشقى إنما لنسكرَ ونبتهجَ ونُسرَّ فأمامنا زرقة البحر اللازوردية ومنصهر عسجد الشمس المتقد بالعقيق الأرجواني وصفوف أشجار النخيل الرشيقة السيقان المشذّبة الأطراف ثم ... وجوه ملائكة الهولاند ! قال إنما الذنبُ ذنبك أولاً وآخراً . كيف ؟ أقحمتنا في موضوع عويص شديد التعقيد في طبيعته ، أولُهُ حبٌّ وولهٌ وهوى وسقوط في مهاوي التخبط واليأس وآخرهُ الموتُ وفقدُ الأعزة . وضعتني لا وفقّكَ ربُّك بين نارين أو شأنين أحلاهما مرُّ . طيّب يا أبا الطيّب ، سأجعلك تنسى هوى صاحبة الصورة المطروحة أمامك لا تفارقك ولا تفارقها . قال كيف ؟ هل أقرأ عليك ما قال شاعرٌ مثلك في هذا الموضوع وما شكا من هوى ولوعات الحب أبداً بل كان دوماً الأقوى والأكثر تفاؤلاً والأشد قوةً ؟ قال إقرأ فقرأتُ لأبي نؤاس :

دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ

وداوني بالتي كانت هيَ الداءُ

سرح صاحبي بفكره بعيداً وقد تجلببَ البحرُ أمامنا بعتمة ظلام الليل خلا بصيص لمعان غمزات النجوم . كان يعاني من صراع نفسي عنيف . أيتبع وصفة ونصيحة أبي نؤاس فيخون ضميره ويتخلى عن ثباته على الحب أم يبقى ذلك العاشق المحب حتى الرمق الأخير ؟

ليست هناك تعليقات: