سليمان جبران
سقى الله أيّام الثانوية البعيدة! كنت يومها ولدا مهووسا بالنحو، أبعد طموحاتي أن تكون علامتي في القواعد مئة. " ولا غبرة " ، كما كان الأستاذ يعلنها في الصفّ، على مسامع التلاميذ، والتلميذات طبعا! أتذكّر تلك الأيام، فأسأل نفسي: هل كان هذا الهوس عيبا فرديا، فيّ وحدي، أم كان في الواقع صدى مضخّما لمجتمع يعتبر الإعراب مشروعا قوميا أوّليا؟ هل كنت مدفوعا بحبّ الظهور أمام أبناء صفّي لا أكثر، أم كنت ضحيّة مجتمع عاش قرونا طويلة يناقش أخطر مسألة وجودية: أيّ القراءتين أصحّ في المسألة الزنبورية، بين سيبويه والكسائي؛ كنت أظنّ أن النحلة أشدّ لسعا من الزنبور، فإذا هو إياها أم فإذا هو هي ؟
مع الأيام، كبرت، والحمد لله، فعرفت أن في الحياة، وفي اللغة العربية ذاتها، أمورا أخرى كثيرة، تهمّ الناس، والمثقّفين بوجه خاصّ، غير الفتحة والكسرة. علمت أيضا أن في المكتبة العربية كتبا أخرى كثيرة، غير الشرتوني الذي أدمنت قراءته في تلك السنّ المبكّرة. وتلك كتب يمكن أن أطالعها فتعود عليّ بالمتعة والثقافة معا. أدركت أيضا أن جبران خليل جبران ، عبقريّ الأدب المهجري، لم يكن تلميذا لسيبويه أوالكسائي، بل كانت تلتبس عليه الضمة بالفتحة أحيانا !
في مرحلة تالية، دخلت أيضا عوالم الشدياق، القمّة النهضوية الشامخة. أعترف في هذه المناسبة أنني لم أعجب يوما بأديب، قديم أو معاصر، إعجابي بهذه العبقرية الفذّة. قرأت كتابه " الساق على الساق " طبعا، ونقده الموجع لمن يظنّون النحو أساس الوجود، فخجلت من صباي الباكر يوم كنت مشغولا بالضمة والفتحة عن الحياة كلّها حولي. يقول الشدياق العظيم، متهكّما، على لسان معلم النحو: "... النحو أساس العلوم، وكلّ العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس. ألا ترى أنّ أهل
بلادنا لا يتعلّمون سواه، ولا يعرّجون على غيره. وعندهم أنّ من تمكّن منه فقد تمكّن من معرفة خصائص الموجودات كلّها، ولذلك لا يؤلفون إلا فيه. وإنّما يحصل الخلاف بينهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهما منه بأدلّة وشواهد. واختلفوا أيضا في الشواهد، فمن قائل إنها مفتعلة ومن قائل إنّها ضرورة أو شاذّة. بيد أنّ المآل واحد ، وهو أنّ العالِم لا يسمّى عالِما إلا إذا كان متمكّنا من النحو مستقصيا لجميع دقائقه. ولا يكاد يستتبّ أمر إلا به. فلو قلت مثلا ضرب زيد عمر من غير رفع زيد ونصب عمر فما يكون ضربه حقا، ولا يصحّ الاعتماد على مثل هذا الإخبار. فإنّ حقيقة فعل الضرب متوقّفة على علم كون زيد مرفوعا. وجميع اللغات التي ليس فيها علامات إعراب فهي خالية من الإفادة التّامّة.." .
تسألون ما الذي أثار فيك هذه الخواطر كلّها ؟ أثارها أنّ "مثقفين " كثيرين بيننا ما زالوا، وقد بلغوا من العمر عتيّا، في طيش تلميذ الثانوية ذاك، وفي سخف معلّم النحو هذا!!
( سليمان جبران – بروفسور في اللغة العربية وآدابها ، أشغل منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب، أصدر عددا من الكتب في أدب النهضة والشعر الحديث)
سقى الله أيّام الثانوية البعيدة! كنت يومها ولدا مهووسا بالنحو، أبعد طموحاتي أن تكون علامتي في القواعد مئة. " ولا غبرة " ، كما كان الأستاذ يعلنها في الصفّ، على مسامع التلاميذ، والتلميذات طبعا! أتذكّر تلك الأيام، فأسأل نفسي: هل كان هذا الهوس عيبا فرديا، فيّ وحدي، أم كان في الواقع صدى مضخّما لمجتمع يعتبر الإعراب مشروعا قوميا أوّليا؟ هل كنت مدفوعا بحبّ الظهور أمام أبناء صفّي لا أكثر، أم كنت ضحيّة مجتمع عاش قرونا طويلة يناقش أخطر مسألة وجودية: أيّ القراءتين أصحّ في المسألة الزنبورية، بين سيبويه والكسائي؛ كنت أظنّ أن النحلة أشدّ لسعا من الزنبور، فإذا هو إياها أم فإذا هو هي ؟
مع الأيام، كبرت، والحمد لله، فعرفت أن في الحياة، وفي اللغة العربية ذاتها، أمورا أخرى كثيرة، تهمّ الناس، والمثقّفين بوجه خاصّ، غير الفتحة والكسرة. علمت أيضا أن في المكتبة العربية كتبا أخرى كثيرة، غير الشرتوني الذي أدمنت قراءته في تلك السنّ المبكّرة. وتلك كتب يمكن أن أطالعها فتعود عليّ بالمتعة والثقافة معا. أدركت أيضا أن جبران خليل جبران ، عبقريّ الأدب المهجري، لم يكن تلميذا لسيبويه أوالكسائي، بل كانت تلتبس عليه الضمة بالفتحة أحيانا !
في مرحلة تالية، دخلت أيضا عوالم الشدياق، القمّة النهضوية الشامخة. أعترف في هذه المناسبة أنني لم أعجب يوما بأديب، قديم أو معاصر، إعجابي بهذه العبقرية الفذّة. قرأت كتابه " الساق على الساق " طبعا، ونقده الموجع لمن يظنّون النحو أساس الوجود، فخجلت من صباي الباكر يوم كنت مشغولا بالضمة والفتحة عن الحياة كلّها حولي. يقول الشدياق العظيم، متهكّما، على لسان معلم النحو: "... النحو أساس العلوم، وكلّ العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس. ألا ترى أنّ أهل
بلادنا لا يتعلّمون سواه، ولا يعرّجون على غيره. وعندهم أنّ من تمكّن منه فقد تمكّن من معرفة خصائص الموجودات كلّها، ولذلك لا يؤلفون إلا فيه. وإنّما يحصل الخلاف بينهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهما منه بأدلّة وشواهد. واختلفوا أيضا في الشواهد، فمن قائل إنها مفتعلة ومن قائل إنّها ضرورة أو شاذّة. بيد أنّ المآل واحد ، وهو أنّ العالِم لا يسمّى عالِما إلا إذا كان متمكّنا من النحو مستقصيا لجميع دقائقه. ولا يكاد يستتبّ أمر إلا به. فلو قلت مثلا ضرب زيد عمر من غير رفع زيد ونصب عمر فما يكون ضربه حقا، ولا يصحّ الاعتماد على مثل هذا الإخبار. فإنّ حقيقة فعل الضرب متوقّفة على علم كون زيد مرفوعا. وجميع اللغات التي ليس فيها علامات إعراب فهي خالية من الإفادة التّامّة.." .
تسألون ما الذي أثار فيك هذه الخواطر كلّها ؟ أثارها أنّ "مثقفين " كثيرين بيننا ما زالوا، وقد بلغوا من العمر عتيّا، في طيش تلميذ الثانوية ذاك، وفي سخف معلّم النحو هذا!!
( سليمان جبران – بروفسور في اللغة العربية وآدابها ، أشغل منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب، أصدر عددا من الكتب في أدب النهضة والشعر الحديث)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق