عدنان الظاهر
( من بيت شعر للمتنبي )
كنّا ، أطفالَ مدارسَ إبتدائية في أربعينيات القرن الماضي ، نبري أقلام الرصاص التي كنا نستخدم في كتابة واجباتنا البيتية الثقيلة ثم في حصص دروس الإملاء والإنشاء وتعلم مبادئ الحساب . نعم ، نبري الأقلام ب [ برّاية ] خاصة كنا نسميها [ مِقطّة ] وما كنا نعرف أنَّ الفعل قطَّ ــ يقطُّ فعل صحيح سليم لغةً ومعنىً يعني في جملة ما يعنيه [ قصَّ يقصُّ ] . هكذا إذاً كنا أطفال ذاك الزمان الصعب نقصُّ الرؤوس ، رؤوس أقلامنا أي نقطّها قَطّاً . مع ذلك ، كانت لفظة ( مِبراة أوبرّاية ) لا شكَّ أفضل من [ مِقطّة ] ، ذاك لأنَّ المبراة لا تقطع رأساً ولا تُسيلُ دماً عبيطاً بريئاً . قلتُ كان ذاك زمناً صعباً وكان صعباً حقاً لأننا إفتتحناه بالحرب العالمية الثانية التي إستمرت لأكثر من خمسة أعوام ( 1939 ـ 1945 ) عانى العالمُ منها ما عانى من ويلات ودمار وخراب وموت ملايين الناس مدنيين وعسكريين في ميادين القتال وخارجها . أتذكر ثورة الجيش العراقي في شهر مايس 1941 ضد المستعمر البريطاني وهزيمته المعروفة وهروب رئيس الوزراء يومذاك المرحوم رشيد عالي الكيلاني وإعدام أربعة من قادة الثورة من أكثرهم شهرةً العقيد صلاح الدين الصبّاغ السوري الأصل . { كرّت السنين وإذا بولده أنمار طالباً معنا في ثانوية الحلة للبنين وكان تحت رعاية ووصاية جده لأمه الطبيب السوري محمد محفوظ } . أخذت تبعيات وذيول الحرب العالمية تصل العراق تباعاً وبالتدريج فارتفعت الأسعار وشحّت الأغذية واختفت مواد إستهلاكية هامة كثيرة ونالنا تلاميذ تلكم الحقبة ما نالنا من ضيق وغياب الكثير من مستلزمات الدراسة كالورق الأبيض والطباشير الجيد بل وحتى الصمغ فكنا ـ أطفال ذاك الزمان التعيس ـ نرتاد حسب نصائح الأهل البساتين المجاورة باحثين عن أشجار المشمش لجمع الصموغ التي تتراكم على سيقانها وهي مواد راتنجية نأتي بها بيوتنا فتغليها الأمهات مع كمية مناسبة من الماء فتنصهر مكونةً سائلاً صمغياً كثيفاً وسط فرحة لا ينساها الطفلُ مهما مرَّ عليها من زمن . بل وتناهى لعلمنا وحسب ما تسرّب من معلومات من لدُنْ بعض النسوة الجارات أنَّ في [ قموع ] أصابع البامياء نوعاً من الصمغ الفعال إسمه [ شِريسْ ] وبالفعل جرّبته بنفسي وجمعتُ كميةً كبيرةً من هذا الشريس ولكن ، ماذا في موسم الشتاء حيث لا من وجود للبامياء ؟ الله كريم !! هكذا كان جواب المرحومة الوالدة الحِجيّة أم جبّار . الله كريم تعني سيدبرها الله فلا تجزع يا ولد ! كيف يدبرها الله والحرب طالت واستمرت حتى التاسع من شهر مايس عام 1945 ؟ لا من ورق أبيض ولا قماش أبيض مقصور فكنا نلبس دشاديش من قماش أسمر ونتناول السكّر الأسمر مع أقداح الشاي إذا ما توفر هذا النوع من السكّر وإلا فالدبس بدل السكر مع الشاي . بل ، واين هو الشاي ؟ كان الشاي من النُدرة بمكان حتى شاعت بين الناس عنه الأغاني والأراجيز منها [[ آيا يا الجاي آيا الجاي هوّه دوشكي وغطاي ]] أي هو فراش نومي وهو غطائي . ثم [[ يمّه اشتريلي جاي من جاي الهنود // إيسمّنْ الذرعان ويحمر الخدود ]] أي يا أماه إبتاعي لي شاياً هندياً لأنه يجعل الأذرع بدينةً متعافية ويجعل خدود شاربيه حُمراً لجودته . ولا أنسى ( التموين ) وما رافقه من فضائح وسرقات وغش حيث وُزع الطحين أحياناً مخلوطاً مع الجص أو نشارة الخشب وحيث المحسوبية والمنسوبية والتزوير إذْ إستلم بعض الناس حصصاً تموينية بدفاتر الجنسية لذويهم الموتى . وعلى هامش التموين غنى المطرب الريفي حضيري أبو عزيز أغنية ساخرة فيها رنّة حزن وشكوى مما أتانا به زمان حرب لا ناقةَ للعراق فيها ولا جمل سوى أنه كان مستعمرة بريطانيّة وبريطانيا كانت إحدى الدول الحليفة التي حاربت المانيا ودول المحور إيطاليا واليابان . بدأ أبو عزيز أغنيته بالقول { عمّي يابو التموين دمضي العريضة // عمي يابو التموين روحي مريضة } . العريضة هي طلب شمول المواطن بالحصص التموينية مع بعض التفصيلات حول تعداد نفوس العائلة وأحوالهم الإقتصادية وهل يستحقون هذه الحصص أم أنَّ غيرهم أحقُّ منهم بها ؟
كان أخي الأكبر يومذاك ضابطاً في الجيش العراقي فكان يأتينا بين الحين والآخر بشئ من الشاي الجيد والسكّر الأبيض والقماش الأبيض وأقمشة أخرى سواه مما كان يوزّع عليهم في حوانيت الجيش خصيصاً للضباط .
(( ما لي أُكّتمُ حُبّاً قد برى جسدي // وتدّعي حُبَّ سيفِ الدولةِ الأممُ )) ؟
أخذني الفعلُ برى يبري بقوة إلى عالم الحرب العالمية الثانية وما عانينا في العراق من تبعاتها فلأول مرة يعرف العراقيون أنَّ بعض الجيوش المتحاربة ربما تستخدم الغازات السامة ضد العدو فرأيت الأقنعة الواقية التي كنا نسميها < كمّامة > . كما رأيتُ طائرات رصاصية اللون محلقةً في السماء قيل إنها طائرات ألمانية مقاتلة . ولأول مرّة تطلبُ الشرطةُ من الناس إطفاءَ الضوءِ في البيوت ليلاً
والإختفاء تحت الأشجار نهاراً حال سماع صفّارات الإنذار . مرعبة ، حقاً مرعبة تلك الظواهر خاصةً على الأطفال . ظلامٌ وتخفّي وسموم وغياب الحاجات الضرورية الأولية لدوام حياة البشر . نعم ، جرفني هذا الفعلُ برى يبري فحملني للحرب وأنساني ما كنتُ فيه وما كنتُ أريدُ أنْ أكونَ فيه : الحب ! نقيض الحرب والموت والدمار . الحب بناء وسلام والحب أحد أسس الحياة ، مُحرِّكها ومولدها وباعث الأمل والنور فيها . قد يُبري الحبُ بعضَ أو أكثرَ أجسادِ المحبين إنْ كانوا من رقيقي الحاشية والقلب . وقد يُبري الحبُّ الأجسادَ ثم العقولَ ! فها هو قيس إبن المُلوَّح مجنون ليلى أو مجنون بني عامر ( قيس العامري ) قد جننه حبُّ ابنة عمه القاسي الفظ القلب . جنون الحب مختلفٌ بالطبع عن جنون الحرب وجنون مشعليها والساعين إليها والمنتفعين منها . إنه جنون ضدَّ الجنون . جنون خاص ضد جنون عام . جنون هادئ مسالم في وجه جنون مدمّر عاتٍ يحرق الأخضر واليابس ويمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بسرعة مُذهلة . هل أعزم فأعقد جلسة بخور خاصة وإستحضار أرواح لأستنطقَ عاشق ليلى وأساله تُرى هل حُبّهُ الفاشل لأبنة عمه كان سبب جنونه الوحيد ؟ حبٌّ واحدٌ وليلى واحدة لا تكفي لجنونِ محبٍّ سويِّ الطبع والطبيعة العقلية والجسدية فما بالُ قيس المسكين أُتهِمَ بالجنون بسبب ليلى ؟ أنا مثلاً أحببتُ [[ لا تصدّقوا هذا القول !! ]] ثلاث ليالٍ ولم يمسّني جنٌّ ولا جانٌ ولا زارني عفريتٌ من رهط إبليس العاصي وبقيتُ طوال عمري متماسكاً ثابتَ الجنان سليم العقل والبنية . بل ومارستُ يوماً رياضةَ رفع الأثقال وبناء الأجسام . لياليَّ الثلاث ما زلنَ على قيد الحياة يشهدنَ ويوقّعنَ أو يختمنَ ببصمات الأصابع مؤكداتٍ صحّةَ ما أدّعي من غير قَسَم مُغلَظٍ بالعباس أو القرآن لأنني كنتُ شريفاً معهنَّ عفيفاً طاهرَ الذيلِ نظيفَ اليدِ واللسان . تمام ؟ أجبنَ بصوتٍ واحد ذي نبرة موسيقية خاصة : نعم ، إنك عندنا واللهِ لصادق . وهل جُننتُ بحبي لكنَّ ؟ قلنَ بصوتٍ واحد غير مموسق : كلا ، ما رأيناك مجنوناً بنا لا فرادى ولا كمجموعة متنافسة على هواك . أما زلتنَّ طامعاتٍ فيَّ أو في بعض بقايايَ ؟ ما زلنا طامعات قانعات حتى ولو بعظم أجرد في هيكلك العظمي. هذا هو الحب يا مجنون بني عامر . هل سمعتَ بأذنك ورأيتَ بعينك ؟ هزَّ المسكينُ رأسه مغبوناً من غير عزّة بالإثم . ثم جرت دموعه مدراراً لا يدري كيف يداريها أو يلاحقها كي يمسحها أو كيف يوقف جريان سيولها على لحيته الكثّة الملآى بالحشرات من براغيثَ وقُمّل وقراد الخيل وغيرها الكثير . إقترحتُ عليه أنْ يأخذَ حمّاماً ساخناً وأنْ يرتدي من ملابسي ما شاء دون حساب كي نتعشى سويةً مع إحدى لياليَ لكنه رفض الفكرة جملةً وتفصيلاً ونهض مغادراً دون كلمة وداع . سمعته يقرأُ شعراً وهو يبتعد عني :
لياليَّ بعدَ الظاعنينَ شُكولُ
طوالٌ وليلُ العاشقينَ طويلُ
تأثرتُ بما سمعت فتضامنتُ معه ومع ما هو فيه . مسكين مجنون ليلى ! الجنون فنون ، حقاً الجنون فنون والرجل مجنون بحب وبدون حب . لا من ذنب لإبنة عمه ليلى فيما هو فيه من حالة مزرية تعيسة . هكذا ولدته أمه مستعداً للجنون فعلّق علّتَه على شماعة الحب والحبُ منه ومن أمثاله بريء . هل كان في مقدوره انْ يتصوفَ بدل أنْ يُدمنَ حالة الجنون ويهيمَ على وجهه في البوادي والسهول وشعاب جبال نجدٍ طعامه الأفاعي السامة والجرابيع والجراد وماؤهُ بولهُ ؟ كلّا ، لا يستطيع . التصوف حالة أخرى مغايرة من الجنون ! صنف آخر من الإنحراف عن السويّة الطبيعية. المتصوّف يفكّرُ أما المجنونُ فلا . تمام يا حضرة شيخنا الحسين بن منصور الحلاّج ؟ قال تمام وأكثر من تمام . المتصوّفُ مجنونٌ ولكنْ لا بحب ليلى وأخواتها الممنوعات من التصريف والمقايضة والتبادل السلعي . إنما مجنون بعشق خالقه وباريه وهو واحدٌ أحدٌ صَمَدٌ أنجبَ عيسى ثم أصابه عُقْمٌ أبديٌّ كما تعلمون . حين وصل إلينا معشر المسلمين أو وصلنا إليه نحنُ معاشر المتصوّفة قيل لنا إنه [[ لم يلدْ ولم يولدْ ]] فصدّقناهم ومضينا عميانَ بصرٍ وبصيرةٍ في إثرهم . ما يجمعنا ومجانين الهوى هو أنَّ المعشوقَ واحدٌ لا يتغير وتلك فضيلة الثبات على مبادئ الحب والوفاء فالحب عقيدةٌ وإيمانٌ وثمن الثبات والإخلاص والوفاء ثمنٌ غالٍ جداً جداً قد يقتضي صاحبه التضحية بحياته شنقاً أو إغتيالاً أو أنْ يقضي تحت التعذيب . الحبُّ سياسةٌ والسياسةُ حبٌّ وولهٌ لا يخلو من بعض الجنون . وهكذا إنتهيتَ أنت يا حلاّج ، صلبوك في بغدادَ وشنقوك ثم لفّوا جسدك الناحل بحصيرِ باريةٍ من القصب وصبوا النِفطَ عليها فاحترقتَ ثم ذرّوا رمادكَ في نهر دجلة . هزَّ الشيخُ الصوفيُّ رأسه قائلاً : هذا هو ثمن الحب والثبات عليه والإلتزام بعقيدته . العقائدُ تضحياتٌ وقرابينُ لفكرةٍ ومبادئ !
قام الحلاجُ نافضاً عباءته . سألته علامَ يا حلاّجُ العَجَلة أجابَ : حان أوانُ موعد لقائي مع معشوقي هناك بعيداً عنكم أنتم معشر البشر !
( من بيت شعر للمتنبي )
كنّا ، أطفالَ مدارسَ إبتدائية في أربعينيات القرن الماضي ، نبري أقلام الرصاص التي كنا نستخدم في كتابة واجباتنا البيتية الثقيلة ثم في حصص دروس الإملاء والإنشاء وتعلم مبادئ الحساب . نعم ، نبري الأقلام ب [ برّاية ] خاصة كنا نسميها [ مِقطّة ] وما كنا نعرف أنَّ الفعل قطَّ ــ يقطُّ فعل صحيح سليم لغةً ومعنىً يعني في جملة ما يعنيه [ قصَّ يقصُّ ] . هكذا إذاً كنا أطفال ذاك الزمان الصعب نقصُّ الرؤوس ، رؤوس أقلامنا أي نقطّها قَطّاً . مع ذلك ، كانت لفظة ( مِبراة أوبرّاية ) لا شكَّ أفضل من [ مِقطّة ] ، ذاك لأنَّ المبراة لا تقطع رأساً ولا تُسيلُ دماً عبيطاً بريئاً . قلتُ كان ذاك زمناً صعباً وكان صعباً حقاً لأننا إفتتحناه بالحرب العالمية الثانية التي إستمرت لأكثر من خمسة أعوام ( 1939 ـ 1945 ) عانى العالمُ منها ما عانى من ويلات ودمار وخراب وموت ملايين الناس مدنيين وعسكريين في ميادين القتال وخارجها . أتذكر ثورة الجيش العراقي في شهر مايس 1941 ضد المستعمر البريطاني وهزيمته المعروفة وهروب رئيس الوزراء يومذاك المرحوم رشيد عالي الكيلاني وإعدام أربعة من قادة الثورة من أكثرهم شهرةً العقيد صلاح الدين الصبّاغ السوري الأصل . { كرّت السنين وإذا بولده أنمار طالباً معنا في ثانوية الحلة للبنين وكان تحت رعاية ووصاية جده لأمه الطبيب السوري محمد محفوظ } . أخذت تبعيات وذيول الحرب العالمية تصل العراق تباعاً وبالتدريج فارتفعت الأسعار وشحّت الأغذية واختفت مواد إستهلاكية هامة كثيرة ونالنا تلاميذ تلكم الحقبة ما نالنا من ضيق وغياب الكثير من مستلزمات الدراسة كالورق الأبيض والطباشير الجيد بل وحتى الصمغ فكنا ـ أطفال ذاك الزمان التعيس ـ نرتاد حسب نصائح الأهل البساتين المجاورة باحثين عن أشجار المشمش لجمع الصموغ التي تتراكم على سيقانها وهي مواد راتنجية نأتي بها بيوتنا فتغليها الأمهات مع كمية مناسبة من الماء فتنصهر مكونةً سائلاً صمغياً كثيفاً وسط فرحة لا ينساها الطفلُ مهما مرَّ عليها من زمن . بل وتناهى لعلمنا وحسب ما تسرّب من معلومات من لدُنْ بعض النسوة الجارات أنَّ في [ قموع ] أصابع البامياء نوعاً من الصمغ الفعال إسمه [ شِريسْ ] وبالفعل جرّبته بنفسي وجمعتُ كميةً كبيرةً من هذا الشريس ولكن ، ماذا في موسم الشتاء حيث لا من وجود للبامياء ؟ الله كريم !! هكذا كان جواب المرحومة الوالدة الحِجيّة أم جبّار . الله كريم تعني سيدبرها الله فلا تجزع يا ولد ! كيف يدبرها الله والحرب طالت واستمرت حتى التاسع من شهر مايس عام 1945 ؟ لا من ورق أبيض ولا قماش أبيض مقصور فكنا نلبس دشاديش من قماش أسمر ونتناول السكّر الأسمر مع أقداح الشاي إذا ما توفر هذا النوع من السكّر وإلا فالدبس بدل السكر مع الشاي . بل ، واين هو الشاي ؟ كان الشاي من النُدرة بمكان حتى شاعت بين الناس عنه الأغاني والأراجيز منها [[ آيا يا الجاي آيا الجاي هوّه دوشكي وغطاي ]] أي هو فراش نومي وهو غطائي . ثم [[ يمّه اشتريلي جاي من جاي الهنود // إيسمّنْ الذرعان ويحمر الخدود ]] أي يا أماه إبتاعي لي شاياً هندياً لأنه يجعل الأذرع بدينةً متعافية ويجعل خدود شاربيه حُمراً لجودته . ولا أنسى ( التموين ) وما رافقه من فضائح وسرقات وغش حيث وُزع الطحين أحياناً مخلوطاً مع الجص أو نشارة الخشب وحيث المحسوبية والمنسوبية والتزوير إذْ إستلم بعض الناس حصصاً تموينية بدفاتر الجنسية لذويهم الموتى . وعلى هامش التموين غنى المطرب الريفي حضيري أبو عزيز أغنية ساخرة فيها رنّة حزن وشكوى مما أتانا به زمان حرب لا ناقةَ للعراق فيها ولا جمل سوى أنه كان مستعمرة بريطانيّة وبريطانيا كانت إحدى الدول الحليفة التي حاربت المانيا ودول المحور إيطاليا واليابان . بدأ أبو عزيز أغنيته بالقول { عمّي يابو التموين دمضي العريضة // عمي يابو التموين روحي مريضة } . العريضة هي طلب شمول المواطن بالحصص التموينية مع بعض التفصيلات حول تعداد نفوس العائلة وأحوالهم الإقتصادية وهل يستحقون هذه الحصص أم أنَّ غيرهم أحقُّ منهم بها ؟
كان أخي الأكبر يومذاك ضابطاً في الجيش العراقي فكان يأتينا بين الحين والآخر بشئ من الشاي الجيد والسكّر الأبيض والقماش الأبيض وأقمشة أخرى سواه مما كان يوزّع عليهم في حوانيت الجيش خصيصاً للضباط .
(( ما لي أُكّتمُ حُبّاً قد برى جسدي // وتدّعي حُبَّ سيفِ الدولةِ الأممُ )) ؟
أخذني الفعلُ برى يبري بقوة إلى عالم الحرب العالمية الثانية وما عانينا في العراق من تبعاتها فلأول مرة يعرف العراقيون أنَّ بعض الجيوش المتحاربة ربما تستخدم الغازات السامة ضد العدو فرأيت الأقنعة الواقية التي كنا نسميها < كمّامة > . كما رأيتُ طائرات رصاصية اللون محلقةً في السماء قيل إنها طائرات ألمانية مقاتلة . ولأول مرّة تطلبُ الشرطةُ من الناس إطفاءَ الضوءِ في البيوت ليلاً
والإختفاء تحت الأشجار نهاراً حال سماع صفّارات الإنذار . مرعبة ، حقاً مرعبة تلك الظواهر خاصةً على الأطفال . ظلامٌ وتخفّي وسموم وغياب الحاجات الضرورية الأولية لدوام حياة البشر . نعم ، جرفني هذا الفعلُ برى يبري فحملني للحرب وأنساني ما كنتُ فيه وما كنتُ أريدُ أنْ أكونَ فيه : الحب ! نقيض الحرب والموت والدمار . الحب بناء وسلام والحب أحد أسس الحياة ، مُحرِّكها ومولدها وباعث الأمل والنور فيها . قد يُبري الحبُ بعضَ أو أكثرَ أجسادِ المحبين إنْ كانوا من رقيقي الحاشية والقلب . وقد يُبري الحبُّ الأجسادَ ثم العقولَ ! فها هو قيس إبن المُلوَّح مجنون ليلى أو مجنون بني عامر ( قيس العامري ) قد جننه حبُّ ابنة عمه القاسي الفظ القلب . جنون الحب مختلفٌ بالطبع عن جنون الحرب وجنون مشعليها والساعين إليها والمنتفعين منها . إنه جنون ضدَّ الجنون . جنون خاص ضد جنون عام . جنون هادئ مسالم في وجه جنون مدمّر عاتٍ يحرق الأخضر واليابس ويمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بسرعة مُذهلة . هل أعزم فأعقد جلسة بخور خاصة وإستحضار أرواح لأستنطقَ عاشق ليلى وأساله تُرى هل حُبّهُ الفاشل لأبنة عمه كان سبب جنونه الوحيد ؟ حبٌّ واحدٌ وليلى واحدة لا تكفي لجنونِ محبٍّ سويِّ الطبع والطبيعة العقلية والجسدية فما بالُ قيس المسكين أُتهِمَ بالجنون بسبب ليلى ؟ أنا مثلاً أحببتُ [[ لا تصدّقوا هذا القول !! ]] ثلاث ليالٍ ولم يمسّني جنٌّ ولا جانٌ ولا زارني عفريتٌ من رهط إبليس العاصي وبقيتُ طوال عمري متماسكاً ثابتَ الجنان سليم العقل والبنية . بل ومارستُ يوماً رياضةَ رفع الأثقال وبناء الأجسام . لياليَّ الثلاث ما زلنَ على قيد الحياة يشهدنَ ويوقّعنَ أو يختمنَ ببصمات الأصابع مؤكداتٍ صحّةَ ما أدّعي من غير قَسَم مُغلَظٍ بالعباس أو القرآن لأنني كنتُ شريفاً معهنَّ عفيفاً طاهرَ الذيلِ نظيفَ اليدِ واللسان . تمام ؟ أجبنَ بصوتٍ واحد ذي نبرة موسيقية خاصة : نعم ، إنك عندنا واللهِ لصادق . وهل جُننتُ بحبي لكنَّ ؟ قلنَ بصوتٍ واحد غير مموسق : كلا ، ما رأيناك مجنوناً بنا لا فرادى ولا كمجموعة متنافسة على هواك . أما زلتنَّ طامعاتٍ فيَّ أو في بعض بقايايَ ؟ ما زلنا طامعات قانعات حتى ولو بعظم أجرد في هيكلك العظمي. هذا هو الحب يا مجنون بني عامر . هل سمعتَ بأذنك ورأيتَ بعينك ؟ هزَّ المسكينُ رأسه مغبوناً من غير عزّة بالإثم . ثم جرت دموعه مدراراً لا يدري كيف يداريها أو يلاحقها كي يمسحها أو كيف يوقف جريان سيولها على لحيته الكثّة الملآى بالحشرات من براغيثَ وقُمّل وقراد الخيل وغيرها الكثير . إقترحتُ عليه أنْ يأخذَ حمّاماً ساخناً وأنْ يرتدي من ملابسي ما شاء دون حساب كي نتعشى سويةً مع إحدى لياليَ لكنه رفض الفكرة جملةً وتفصيلاً ونهض مغادراً دون كلمة وداع . سمعته يقرأُ شعراً وهو يبتعد عني :
لياليَّ بعدَ الظاعنينَ شُكولُ
طوالٌ وليلُ العاشقينَ طويلُ
تأثرتُ بما سمعت فتضامنتُ معه ومع ما هو فيه . مسكين مجنون ليلى ! الجنون فنون ، حقاً الجنون فنون والرجل مجنون بحب وبدون حب . لا من ذنب لإبنة عمه ليلى فيما هو فيه من حالة مزرية تعيسة . هكذا ولدته أمه مستعداً للجنون فعلّق علّتَه على شماعة الحب والحبُ منه ومن أمثاله بريء . هل كان في مقدوره انْ يتصوفَ بدل أنْ يُدمنَ حالة الجنون ويهيمَ على وجهه في البوادي والسهول وشعاب جبال نجدٍ طعامه الأفاعي السامة والجرابيع والجراد وماؤهُ بولهُ ؟ كلّا ، لا يستطيع . التصوف حالة أخرى مغايرة من الجنون ! صنف آخر من الإنحراف عن السويّة الطبيعية. المتصوّف يفكّرُ أما المجنونُ فلا . تمام يا حضرة شيخنا الحسين بن منصور الحلاّج ؟ قال تمام وأكثر من تمام . المتصوّفُ مجنونٌ ولكنْ لا بحب ليلى وأخواتها الممنوعات من التصريف والمقايضة والتبادل السلعي . إنما مجنون بعشق خالقه وباريه وهو واحدٌ أحدٌ صَمَدٌ أنجبَ عيسى ثم أصابه عُقْمٌ أبديٌّ كما تعلمون . حين وصل إلينا معشر المسلمين أو وصلنا إليه نحنُ معاشر المتصوّفة قيل لنا إنه [[ لم يلدْ ولم يولدْ ]] فصدّقناهم ومضينا عميانَ بصرٍ وبصيرةٍ في إثرهم . ما يجمعنا ومجانين الهوى هو أنَّ المعشوقَ واحدٌ لا يتغير وتلك فضيلة الثبات على مبادئ الحب والوفاء فالحب عقيدةٌ وإيمانٌ وثمن الثبات والإخلاص والوفاء ثمنٌ غالٍ جداً جداً قد يقتضي صاحبه التضحية بحياته شنقاً أو إغتيالاً أو أنْ يقضي تحت التعذيب . الحبُّ سياسةٌ والسياسةُ حبٌّ وولهٌ لا يخلو من بعض الجنون . وهكذا إنتهيتَ أنت يا حلاّج ، صلبوك في بغدادَ وشنقوك ثم لفّوا جسدك الناحل بحصيرِ باريةٍ من القصب وصبوا النِفطَ عليها فاحترقتَ ثم ذرّوا رمادكَ في نهر دجلة . هزَّ الشيخُ الصوفيُّ رأسه قائلاً : هذا هو ثمن الحب والثبات عليه والإلتزام بعقيدته . العقائدُ تضحياتٌ وقرابينُ لفكرةٍ ومبادئ !
قام الحلاجُ نافضاً عباءته . سألته علامَ يا حلاّجُ العَجَلة أجابَ : حان أوانُ موعد لقائي مع معشوقي هناك بعيداً عنكم أنتم معشر البشر !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق