زياد جيوسي
"صورة من بيوت رام الله القديمة"
بعدستي
جو رام الله الخريفي له متعة خاصة، فما بين رشات أمطار إلى شمس دافئة، إلى رياح وهواء قوي وخاصة في المناطق المكشوفة، مما يعطي لجو المدينة في الخريف جمالاً خاصاً، وأعشق في هذا الجو أن أخرج في الصباح المبكر لأمتع روحي بالهواء البارد الندي، الذي يحمل عبق البحر وعبق البرتقال.
أمس واليوم مارست السير السريع مرتدياً لباساً رياضياً متناسباً مع برودة الصباح، فالمدينة بهدوئها وضعف حركة السيارات وانعدام تلوث الجو في الصباح، يكون لها نكهة جمالية خاصة، وان شابني بعض من انزعاج حين وجدت إهمالا بالنظافة في بعض المناطق، ويظهر أن العمال الذين تكون مهمتهم تلك الشوارع، افتقدوا الرقابة المفروضة، فقد اعتدت في الصباح أن أجد معظم الشوارع نظيفة نسبياً، وهذا يتنافى مع استعدادات البلدية للاحتفال بمائة عام على إنشائها، كما ينافى الذوق والحس الإنساني، والجمالية المميزة لرام الله، فهلا أولت البلدية اهتماماً ورقابة أكثر على موضوع النظافة، فمن غير المعقول أن تكون أكياس القمامة متراكمة وتفوح روائحها، بعد أن اعتدنا على جهود نظافة تبدأ في الصباح الباكر، فأخرج وأتنشق عبق الياسمين الذي ينتشر في المدينة وعلى أسوار المنازل.
حين عدت لصومعتي وأخذت حمامي الصباحي، وأعددت كوباً من الشاي الأخضر بالنعناع، مارست هواية قديمة، فنزلت من الصومعة إلى باب البناية، ومن السابعة والنصف حتى الثامنة وقفت أرقب الشارع والمارة، فهذه فترة حركة كبيرة وجميلة ونشطة، ومن الممتع رؤية حركة الناس وحركاتهم اللاإرادية وهم يسيرون في الشارع، أو يسوقون سياراتهم، فبين مبتسم إلى من تشعر أنه لم يعرف الابتسام يوماً، ومن تراه متعجل بلا ضرورة ولا تتوقف يده عن الضغط على بوق السيارة، رغم أن هذا لن يفيده بشيء ولن يجعل السيارات الأخرى تطير في الجو لتفسح له المجال، فلا يناله إلا الشتائم من المنـزعجين، ويظهر أن هذه أصبحت عادة أكثر منها استعجالاً للغير، فسيارة كانت متوقفة تنـزل الركاب على الزاوية وأمامها الطريق فارغة، ومع هذا كان السائق يمارس الإزعاج بإطلاق أبواق سيارته المتعددة الأشكال والنغمات النشاز.
ومن أجمل ما في هذه الهواية أنني رأيت أكثر من شخص لم أراه منذ زمن، فأتاح لي ذلك تبادل تحية الصباح معهم وتذكرهم، وجعلني هذا الجو مع مسير الصباح المبكر أعود للذاكرة والذكريات، فمنذ مقالتي "مركب الريح" لم أعد لاستكمال ذاكرة عمان، فقد استلبتني رام الله وطولكرم، ولعل شعور ما مع هذا الخريف اللطيف أثار الذكريات في تلافيف الذاكرة، ولعل قراءتي مساء الأمس لنص للكاتب والأديب "زياد السعودي" عن عمان قال في مقطع منه: "المجد لك يا ربة عمون.. ومسحت على وجهي.. فتساقط مني الشِعر.. تراتيل عبادة.. لملمته وبشرياني.. عقدته تميمة.. وعلقته في جيد عمان"، ما أهاج الشوق للأهل والأسرة والعشيرة، فعدت لعمان وعدت لطفولتي، وعدت للأشرفية التي انتقلنا إليها، حيث سكنا في المنطقة المواجهة لمخيم الوحدات والحي الناشئ الذي كبر عشوائياً فيما بعد.
في تلك الفترة كان حي جبل الاشرفية قليل البيوت قليل السكان، ففي أعلى المنطقة التي سكناها ولم يكن بها شارع معبد واحد، كانت توجد بناية نسميها "الإصلاحية"، وهي عبارة عن سجن للأحداث الذين جنى عليهم الدهر والأهل، فانحرفوا عن جادة الصواب وأصبحوا وهم أطفال منحرفين، فكنا نراهم والشرطة تضع القيود بأياديهم محضرة إياهم لهذا السجن أو تأخذهم منه، وهذه البناية تحولت لاحقاً إلى مؤسسة للعناية بالأطفال الذين تخلى عنهم أهلهم أو لا يوجد لهم أهل، وحملت اسم مبرة أم الحسين، ولا أعرف إن تغيرت أيضاً عن ذلك، في ظل غياب امتد بي ما يزيد عن عشرة سنوات حتى الآن عن عماني الجميلة، وفي السفح المقابل كانت توجد بناية صغيرة جميلة كانت تسمى دار النهضة، أما ما هي وما مكنونها وماذا كانت تعمل فلا علم لدي وليس في ذاكرتي من شيء يتعلق بذلك، وكانت تنتشر بعض البيوت المتناثرة حتى المشفى الذي كان اسمه المشفى الجراحي، وتحول بعدها إلى مشفى الاشرفية فمشفى البشير، وكان الطريق المار مقابل شرطة البادية وصولاً للمشفى معبداً، وعلى يمينه في القسم الأول مخيم الوحدات وعلى يساره البيوت القليلة المتناثرة، إضافة لمساحات من الأراضي الفارغة التي كانت تزرع بالقمح، فنراها في موسم الحصاد تمتد كالذهب الأصفر اللماع، وهذه المساحة كانت تمتد إلى مبنى الإصلاحية وخلف مبنى مشفى الهلال الأحمر وصولاً إلى دار النهضة، أما المنطقة جنوب مشفى البشير والمواجهة للمخيم فكانت تزرع بالفقوس والكوسا وغيره من القثائيات، وكنا نسميها "المقثاة"، وكان التجول في تلك المنطقة يحمل لنا الأطفال جمالا رائعاً، وخصوصاً حين يتكرم علينا الزراع بحبة فقوس أو غيره، فنأكلها بفرح وشهية ونحن نشكرهم على هذا الكرم وهذه الطيبة، أما زراع القمح فكانوا يطردوننا بقسوة ويحرموننا من الحصول ولو على سنبلة واحدة، وذات مرة ركبني العناد حين طلبت منهم سنبلة واحدة فرفضوا وطردوني، ولم أكن قد دخلت المدرسة بعد، فاختطفت بعض السنبلات فلحقني أحدهم، ولولا سرعتي بالجري لكانت النتيجة لا تحمد عقباها، وأبسطها أنني كنت سأشبع ضرباً ولربما بحجم مساحة الحقل المزروع، وان كنت لم أنجو من عقوبة الوالدة حين عرفت مني ما جرى، فلقنتني درساً لم أنساه.
أما أعالي جبل الاشرفية فلم يكن بها بناء بعد، وكان المشفى الجراحي عبارة عن المبنى القديم، وحتى الجامع المشهور باسم جامع أبو درويش لم يكن مبنيا بعد، وقد بناه أبو درويش الشيخ الشركسي الجليل المهاجر من القوقاز ، ولم يكن هناك إلا كنيسة ذات جرس لا يدق لأسباب مجهولة وان سمعت العديد من القصص حول ذلك، حتى أن الحمام بنى أعشاشه في برج الجرس، والبيوت كانت قليلة جداً وان كان منظر الإطلالة على جبل القصور وعلى جبل القلعة له جمال خاص من تلك القمة، وأما المشفى فكانت القصص تنسج حوله، وخاصة عن غرفة إيداع الجثث في البرادات المخصصة، وكنا نسميها "غرفة عزريين"، وراجت الإشاعات التي نسجها الخيال الشعبي حول هذه الغرفة، وحول الأموات الذين تتجول أشباحهم ليلا، حتى أنه يندر أن يجرؤ أحد على المرور من تلك المنطقة ليلا، حتى أن خال لي وكان يعمل بصحيفة ما ليلا، روى لنا وهو يرتجف من الرعب انه حين عاد من ذلك الشارع، رأى مارداً يقف أمامه ورأسه تطاول السماء، وساقيه كل واحدة على رصيف من الشارع، ولعله مع النعاس والإرهاق توهم ذلك، فركض كما قال من بين ساقي المارد حتى وصل لبيته في المخيم، وقد أصيب بالحمى بعد هذه الحادثة، وان كان ما زال يصر على حقيقة وقوعها في لقاءي الأخير معه قبل حوالي السبعة عشر عاماً.
أكثر ما يرتبط بذاكرتي عن تلك الفترة عدة أحداث لها حديث قادم، ففي تلك الفترة تعلمت القراءة على يدي الوالدة قبل دخولي المدرسة، وشهدت "الثلجة" الثالثة الكبيرة، وشهدت غزو الجراد للحقول وكيف لم يترك أخضراً ولا يابس، وجلوسي المتكرر في الربيع وحيداً بجوار دار النهضة أتأمل الحقول الخضراء والربيع الجميل والأزهار البرية، وحين أعود للبيت أقطف بعض من هذه الزهور لأقدمها لوالدتي أطال الله بعمرها وجمعني وإياها، بعد هذه السنوات الطويلة التي حرمنا الاحتلال فيها من أن نلتقي.
أعود من الماضي على صوت قوي لبوق سيارة لصديق روائي مر ولم انتبه، فلم يجد غير هذه الوسيلة المزعجة للفت نظري، أحييه بغيظ وأصعد لصومعتي، أتصفح صحيفتي والقيها جانباً، فقد هان الدم الفلسطيني حتى أصبح الفلسطيني يطلق النار على الفلسطيني بسهولة، وأصبحنا إضافة للاحتلال نعاني ما بين تكفير وتخوين، ولكني ما زلت أحلم بالفجر القادم حاملاً الحرية على جناحيه، ملقياً بالاحتلال ومن يخدمون الاحتلال في مزبلة التاريخ، أقف من جديد أمام النافذة مع فنجان القهوة، أتناول آخر حبة شيكولاتة وجدتها في جاروري، أشعر بروح طيفي معي وان تخيلت وأنا أتأمل المارة أني سألتقيه رغم استحالة الأمنية في الوقت الحاضر، أحن لحروف خمسة ويزداد الشوق، فلا أجد إلا أن أعود لفيروز رفيقة الصبح وكل صبح وهي تشدو:
"مملكتي أنا قنديل المظلومين، والنجمة الوحيدة السهرانة بليل الشرق الحزين، مملكتي أنا مملكة الموعودين بالحب والفرح اللي جاي مع الناس اللي جايين، لأجل السعادة ولأجل الأطفال والشمس والمزارع ولأجل الحقيقة، ولأجل الإنسان بلا خوف، بلدنا عم بيدافع.."
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
"صورة من بيوت رام الله القديمة"
بعدستي
جو رام الله الخريفي له متعة خاصة، فما بين رشات أمطار إلى شمس دافئة، إلى رياح وهواء قوي وخاصة في المناطق المكشوفة، مما يعطي لجو المدينة في الخريف جمالاً خاصاً، وأعشق في هذا الجو أن أخرج في الصباح المبكر لأمتع روحي بالهواء البارد الندي، الذي يحمل عبق البحر وعبق البرتقال.
أمس واليوم مارست السير السريع مرتدياً لباساً رياضياً متناسباً مع برودة الصباح، فالمدينة بهدوئها وضعف حركة السيارات وانعدام تلوث الجو في الصباح، يكون لها نكهة جمالية خاصة، وان شابني بعض من انزعاج حين وجدت إهمالا بالنظافة في بعض المناطق، ويظهر أن العمال الذين تكون مهمتهم تلك الشوارع، افتقدوا الرقابة المفروضة، فقد اعتدت في الصباح أن أجد معظم الشوارع نظيفة نسبياً، وهذا يتنافى مع استعدادات البلدية للاحتفال بمائة عام على إنشائها، كما ينافى الذوق والحس الإنساني، والجمالية المميزة لرام الله، فهلا أولت البلدية اهتماماً ورقابة أكثر على موضوع النظافة، فمن غير المعقول أن تكون أكياس القمامة متراكمة وتفوح روائحها، بعد أن اعتدنا على جهود نظافة تبدأ في الصباح الباكر، فأخرج وأتنشق عبق الياسمين الذي ينتشر في المدينة وعلى أسوار المنازل.
حين عدت لصومعتي وأخذت حمامي الصباحي، وأعددت كوباً من الشاي الأخضر بالنعناع، مارست هواية قديمة، فنزلت من الصومعة إلى باب البناية، ومن السابعة والنصف حتى الثامنة وقفت أرقب الشارع والمارة، فهذه فترة حركة كبيرة وجميلة ونشطة، ومن الممتع رؤية حركة الناس وحركاتهم اللاإرادية وهم يسيرون في الشارع، أو يسوقون سياراتهم، فبين مبتسم إلى من تشعر أنه لم يعرف الابتسام يوماً، ومن تراه متعجل بلا ضرورة ولا تتوقف يده عن الضغط على بوق السيارة، رغم أن هذا لن يفيده بشيء ولن يجعل السيارات الأخرى تطير في الجو لتفسح له المجال، فلا يناله إلا الشتائم من المنـزعجين، ويظهر أن هذه أصبحت عادة أكثر منها استعجالاً للغير، فسيارة كانت متوقفة تنـزل الركاب على الزاوية وأمامها الطريق فارغة، ومع هذا كان السائق يمارس الإزعاج بإطلاق أبواق سيارته المتعددة الأشكال والنغمات النشاز.
ومن أجمل ما في هذه الهواية أنني رأيت أكثر من شخص لم أراه منذ زمن، فأتاح لي ذلك تبادل تحية الصباح معهم وتذكرهم، وجعلني هذا الجو مع مسير الصباح المبكر أعود للذاكرة والذكريات، فمنذ مقالتي "مركب الريح" لم أعد لاستكمال ذاكرة عمان، فقد استلبتني رام الله وطولكرم، ولعل شعور ما مع هذا الخريف اللطيف أثار الذكريات في تلافيف الذاكرة، ولعل قراءتي مساء الأمس لنص للكاتب والأديب "زياد السعودي" عن عمان قال في مقطع منه: "المجد لك يا ربة عمون.. ومسحت على وجهي.. فتساقط مني الشِعر.. تراتيل عبادة.. لملمته وبشرياني.. عقدته تميمة.. وعلقته في جيد عمان"، ما أهاج الشوق للأهل والأسرة والعشيرة، فعدت لعمان وعدت لطفولتي، وعدت للأشرفية التي انتقلنا إليها، حيث سكنا في المنطقة المواجهة لمخيم الوحدات والحي الناشئ الذي كبر عشوائياً فيما بعد.
في تلك الفترة كان حي جبل الاشرفية قليل البيوت قليل السكان، ففي أعلى المنطقة التي سكناها ولم يكن بها شارع معبد واحد، كانت توجد بناية نسميها "الإصلاحية"، وهي عبارة عن سجن للأحداث الذين جنى عليهم الدهر والأهل، فانحرفوا عن جادة الصواب وأصبحوا وهم أطفال منحرفين، فكنا نراهم والشرطة تضع القيود بأياديهم محضرة إياهم لهذا السجن أو تأخذهم منه، وهذه البناية تحولت لاحقاً إلى مؤسسة للعناية بالأطفال الذين تخلى عنهم أهلهم أو لا يوجد لهم أهل، وحملت اسم مبرة أم الحسين، ولا أعرف إن تغيرت أيضاً عن ذلك، في ظل غياب امتد بي ما يزيد عن عشرة سنوات حتى الآن عن عماني الجميلة، وفي السفح المقابل كانت توجد بناية صغيرة جميلة كانت تسمى دار النهضة، أما ما هي وما مكنونها وماذا كانت تعمل فلا علم لدي وليس في ذاكرتي من شيء يتعلق بذلك، وكانت تنتشر بعض البيوت المتناثرة حتى المشفى الذي كان اسمه المشفى الجراحي، وتحول بعدها إلى مشفى الاشرفية فمشفى البشير، وكان الطريق المار مقابل شرطة البادية وصولاً للمشفى معبداً، وعلى يمينه في القسم الأول مخيم الوحدات وعلى يساره البيوت القليلة المتناثرة، إضافة لمساحات من الأراضي الفارغة التي كانت تزرع بالقمح، فنراها في موسم الحصاد تمتد كالذهب الأصفر اللماع، وهذه المساحة كانت تمتد إلى مبنى الإصلاحية وخلف مبنى مشفى الهلال الأحمر وصولاً إلى دار النهضة، أما المنطقة جنوب مشفى البشير والمواجهة للمخيم فكانت تزرع بالفقوس والكوسا وغيره من القثائيات، وكنا نسميها "المقثاة"، وكان التجول في تلك المنطقة يحمل لنا الأطفال جمالا رائعاً، وخصوصاً حين يتكرم علينا الزراع بحبة فقوس أو غيره، فنأكلها بفرح وشهية ونحن نشكرهم على هذا الكرم وهذه الطيبة، أما زراع القمح فكانوا يطردوننا بقسوة ويحرموننا من الحصول ولو على سنبلة واحدة، وذات مرة ركبني العناد حين طلبت منهم سنبلة واحدة فرفضوا وطردوني، ولم أكن قد دخلت المدرسة بعد، فاختطفت بعض السنبلات فلحقني أحدهم، ولولا سرعتي بالجري لكانت النتيجة لا تحمد عقباها، وأبسطها أنني كنت سأشبع ضرباً ولربما بحجم مساحة الحقل المزروع، وان كنت لم أنجو من عقوبة الوالدة حين عرفت مني ما جرى، فلقنتني درساً لم أنساه.
أما أعالي جبل الاشرفية فلم يكن بها بناء بعد، وكان المشفى الجراحي عبارة عن المبنى القديم، وحتى الجامع المشهور باسم جامع أبو درويش لم يكن مبنيا بعد، وقد بناه أبو درويش الشيخ الشركسي الجليل المهاجر من القوقاز ، ولم يكن هناك إلا كنيسة ذات جرس لا يدق لأسباب مجهولة وان سمعت العديد من القصص حول ذلك، حتى أن الحمام بنى أعشاشه في برج الجرس، والبيوت كانت قليلة جداً وان كان منظر الإطلالة على جبل القصور وعلى جبل القلعة له جمال خاص من تلك القمة، وأما المشفى فكانت القصص تنسج حوله، وخاصة عن غرفة إيداع الجثث في البرادات المخصصة، وكنا نسميها "غرفة عزريين"، وراجت الإشاعات التي نسجها الخيال الشعبي حول هذه الغرفة، وحول الأموات الذين تتجول أشباحهم ليلا، حتى أنه يندر أن يجرؤ أحد على المرور من تلك المنطقة ليلا، حتى أن خال لي وكان يعمل بصحيفة ما ليلا، روى لنا وهو يرتجف من الرعب انه حين عاد من ذلك الشارع، رأى مارداً يقف أمامه ورأسه تطاول السماء، وساقيه كل واحدة على رصيف من الشارع، ولعله مع النعاس والإرهاق توهم ذلك، فركض كما قال من بين ساقي المارد حتى وصل لبيته في المخيم، وقد أصيب بالحمى بعد هذه الحادثة، وان كان ما زال يصر على حقيقة وقوعها في لقاءي الأخير معه قبل حوالي السبعة عشر عاماً.
أكثر ما يرتبط بذاكرتي عن تلك الفترة عدة أحداث لها حديث قادم، ففي تلك الفترة تعلمت القراءة على يدي الوالدة قبل دخولي المدرسة، وشهدت "الثلجة" الثالثة الكبيرة، وشهدت غزو الجراد للحقول وكيف لم يترك أخضراً ولا يابس، وجلوسي المتكرر في الربيع وحيداً بجوار دار النهضة أتأمل الحقول الخضراء والربيع الجميل والأزهار البرية، وحين أعود للبيت أقطف بعض من هذه الزهور لأقدمها لوالدتي أطال الله بعمرها وجمعني وإياها، بعد هذه السنوات الطويلة التي حرمنا الاحتلال فيها من أن نلتقي.
أعود من الماضي على صوت قوي لبوق سيارة لصديق روائي مر ولم انتبه، فلم يجد غير هذه الوسيلة المزعجة للفت نظري، أحييه بغيظ وأصعد لصومعتي، أتصفح صحيفتي والقيها جانباً، فقد هان الدم الفلسطيني حتى أصبح الفلسطيني يطلق النار على الفلسطيني بسهولة، وأصبحنا إضافة للاحتلال نعاني ما بين تكفير وتخوين، ولكني ما زلت أحلم بالفجر القادم حاملاً الحرية على جناحيه، ملقياً بالاحتلال ومن يخدمون الاحتلال في مزبلة التاريخ، أقف من جديد أمام النافذة مع فنجان القهوة، أتناول آخر حبة شيكولاتة وجدتها في جاروري، أشعر بروح طيفي معي وان تخيلت وأنا أتأمل المارة أني سألتقيه رغم استحالة الأمنية في الوقت الحاضر، أحن لحروف خمسة ويزداد الشوق، فلا أجد إلا أن أعود لفيروز رفيقة الصبح وكل صبح وهي تشدو:
"مملكتي أنا قنديل المظلومين، والنجمة الوحيدة السهرانة بليل الشرق الحزين، مملكتي أنا مملكة الموعودين بالحب والفرح اللي جاي مع الناس اللي جايين، لأجل السعادة ولأجل الأطفال والشمس والمزارع ولأجل الحقيقة، ولأجل الإنسان بلا خوف، بلدنا عم بيدافع.."
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق