نبيل عودة
اتساع حدود الكتابة الشعرية بدأ يولد حالات ادبية مستهجنة ، بعضها يلصق عنوة بالجينار الشعري ، وبعضها هجين لا يمكن توصيفه ، وببساطة دخلنا في تناقضات واشكالات انعكست بشكل مشوه على الحياة الثقافية لمجتمعنا وما عدنا نقدر على ايجاد باب لتصنيفها ادبيا ..
انا شخصيا بت لا اعرف من يستحق الرحمة ... شعرنا ام اولئك المتكاثرون على ابواب الشعر ، حتى ضاق الشعر ذرعا بهم ، وعافت القوافي نفسها ، وخجلت اللغة من كثرة شرشحتها ، وعاف القراء الشعر ، واضحى أقل انواع الادب قراءة ، رغم انه اكثر الانواع غزارة في الانتاج والنشر .. وبصراحة مطلقة ، اصبحت نادرا ما اواصل قراءة قصيدة .. احيانا اكتفي بالمقطع الاول ، واحيانا لا اكمله ، وقليلا ما اقع على شعر يقرأ ..كثرت التسميات لما يعرف بالكتابة الشعرية ..
فهذا شعر النثر او النثر الشعري ، والشعر الحر وشعر التفعيلة ، الذي يتبع هندسة لتمييزه عن الشعر العمودي ، والشعر العمودي بشكليه ، شعر البيت او الشطرين ، والبعض بات يستعمل تعابير اكثر حداثة ( هذا لا يعني ان شعرهم تجاوز المستوى المأزوم للشعر ) مثل صفة "النثر المركز" و " القصائد العارية " ولللأسف لم اجد جديدا يستحق هذا الجهد في صياغة التسميات ..
بالطبع عدا الشعر العامي بمدارسه واشكاله المختلفة .يبدو لي للوهلة الاولى ، ان المسألة تنحصر في الرغبة على التمرد على القيود التقليدية في الشعر ، ولا يتعلق الموضوع بعملية تأصيل للابداع ، وعلى الاغلب ، معظم هذا الشعر اصحابه لايعرفون اوزان الشعر ، ودوافعهم ابعد ما تكون عن فكر الابداع الثقافي ، وعن فهم القيمة الثقافية للشعر ، عبر الامتداد الاجتماعي للمسألة الثقافية .لاشك بأن بعض قصائد النثر فيها من الموسيقى الداخلية ، ومن الابداع الشعري ما يتجاوز قصائد الشعر العمودي الملتزم بالاوزان والقوافي ...
ولللأسف ليست هذه هي الصورة السائدة في شعرنا - اعني بالاساس الابداع الشعري العربي داخل اسرائيل ، رغم اني متنبه لحالة مشابهة في الشعر العربي الحديث كله .لدينا في الواقع شعراء جيدون ، ولكنهم اكثر الزاهدين في طرق ابواب الشعر ، واكثر الملتزمين بالصمت عن قول كلمة حق حول ما ينشر ، " خوفا من التلوث " كما قال لي احدهم .. ويقر شاعر آخر ان " الاجواء الشعرية قاحلة ولا تمطر علينا ما يبعث الخصب في الارض " ويقر معظمهم بخطأ الصمت .. ولكن صمتهم لا ينكسر الا في احاديث " ليست للنشر باسمائهم " كما نبهني شاعر يمتنع عن النشر في الصحافة المحلية التي لا تحترم نفسها ولا الشعر ولا الشعراء وتنشر "ما هب ودب" من الصياغات المرعبة في فقرها الادبي والابداعي وليس الشعري فقط . ..
اذن نحن لسنا امام ظاهرة جدل حول الشعر ومدارسه واساليب كتابته المختلفة .نحن امام ظاهرة زهد المجيدين من الشعراء عن نظم الشعر ، او نشره بدون حماس ، في اجواء يتسلط فيها الانشاء " الشعري " الممل ، الفارغ من المضمون ، والفارغ من روح الشعر ومن كيمياء الشعر ومن اي احساس ثقافي بسيط ... او كما قال لي شاعر من "الصامتين " : "هذا ترتيب لغوي فارغ من المعنى ، فارغ من جمالية اللغة ، فارغ من الأحاسيس ، ومن الصور التي تشحن الخيال ..: وخلو حتى من التعابير اللغوية السليمة .والملاحظة التي تطرقنا اليها تلقائيا ، بان اكثر ما يؤذي ادبنا ، وخاصة الجانر الشعري ، هو التصفيق الذي يتجاوز حدود التشجيع ، تحت صيغ نقدية ومراجعات نقدية .. يمارسها على الأغلب دخلاء على الحياة الادبية ، كنوع من التسالي بعد تقاعدهم وهم على ابواب العقد السابع ، مكتشفين ان الادب افضل من نوادي "الجيل الذهبي " ، وفي ظل فقدان الادب لدوره الاجتماعي ، وتدهور مكانته في الصيرورة الثقافية لشعبنا ، تتزايد اوهامهم انهم باتوا قاب قوسين او ادنى من العبقرية الادبية ، وبعضهم يظن ان معرفتة باصول القواعد والنحو هي القاعدة المطلقة للأبداع الادبي او النقدي .. ولا يترددون في شن حروب نحوية على ادباء لا ينتظرون شهاداتهم !! حقا ، نحن نشجع اطفالنا ونصفق لهم ، ونهتز سعادة عند اول خطوة لهم ، ولكن هذا يصبح امرا عاديا بعد ايام او اسابيع ، فما بالنا نصر ان نعامل كتاب الشعر ، كطفل يخطو دائما خطوته الاولى ؟! ان التمرد على الوزن في الشعر ، هو تمرد على الشعر نفسه ، والذي يقوم بهذا التمرد يفترض انه يعرف فعلته جيدا ويفقه ابعادها الثقافية ، ويملك القدرات الفكرية لفهم ابعاد هذا التمرد والقدرة على تأويلها . فهل هذا الامر ينطبق على كتاب قصيدة النثر او الشعر الموزون ؟ لا اتردد في اعطاء جواب قاطع .. ولكني ابتعادا عن الصياغات القاطعة ، سأمتنع عن ذلك ، وأقول اني على يقين ان الأكثرية المطلقة من كتبة الشعر المنثور او النثر الشعري ، لا يعرفون اوزان الشعر ، ويعجزون عن كتابة اي شكل من اشكال الشعر الملتزم بالاوزان والقوافي وعدد غير قليل من اصحاب شعر القوافي والاوزان هم بناة تراكيب لغوية تفتقد لجمالية اللغة وكيمياء الشعر...
وبالنسبة للنقاد السبعينيين ، "الغيورين" على اللغة وقواعدها ... يصبح هذا الشعر ، واكثريته المطلقة بلا معنى وبلا لغة (ويمكن قراءة القصائد من النهاية للبداية او من اي مقطع صعودا او هبوطا دون ان يتغير المعنى في القصيدة ، لانها اصلا بلا معنى ، ولا يفهمها الا "ادباء الغفلة" ).. يصبح هذا الشعر ابداعا عبقريا " ينتظره القراء بجوع وتلهف !! ": ... الى آخر الصياغات المضحكة في تفاهتها والمبكية للحال الذي وصلته ثقافتنا .. وليس شعرنا فقط !!لست ضد التشجيع ورعاية الناشئين ، وقمت ، أكثر من غيري بهذا الدور ، ولكني انظر اليوم حولي وأرى ان من كان يبشر ببعض الأمل ، لم يستطيع ان يتقدم ( او تتقدم ) ولو خطوة صغيرة للأمام .. ويبدو ان ثقافته لم تتجاوز قصائده الاولى .. ومعارفه ووعيه الثقافي والادبي والابداعي انتهى مع خطوته الاولى .. وزاد الطين بلة بالادباء السبعينيين وكتاباتهم الفارغة من اي ذرة ابداع شعري او نثري .. فهل نواصل التصفيق بلا عقل وبلا وعي ؟! وهل نواصل تهريج اكتشاف ما لا يعرفه صاحب العمل نفسه ؟ وهل نستمر في الصاق الألقاب الفخمة لمن يفتقدون ، وعاجزون في الوقت نفسه ... عن الابداع الادبي ؟!
صديق شاعر من الشعراء المعروفين الذين اشتهروا في بداية اكتشاف العالم العربي لادبنا ، وخاصة لشعرنا ( بعد حرب 1967) ، كتب في السنوات الاخيرة مجموعة من القصائد الرائعة ، بعد فترة توقف عن الشعر لاسباب تتعلق بالعمل السياسي والفكري والاعلامي .. سحرني بقدرته على تجاوز نفسه ومرحلة الصمت والعودة بهذه القوة وبهذه الكيمياء الشعرية القادرة على التفاعل مع القراء بتلقائية وانسياب لا يحتاج الى جهود الادباء السبعينيين للشرح والتأويل .. ولكنه يرفض ، منذ سنة على الاقل .. نشر قصائده ..
وها انا احاول ان اثير ضغطا من حوله لعله يقتنع ان الوقت قد حان لاحداث تغيير في الواقع الثقافي المتهاوي .. حقا لن اذكر اسمه ، ولكني متأكد ان الكثيرين يعرفون من اعني بدقة .. ولعل هذا التلميح يفيد .. ويبدأ بدحرجة كرة ثلج ثقافية جديدة تعيد لادبنا حيويته المفقودة ، وتخرج الشعراء الصامتين عن صمتهم الذي طال ، ليقولوا كلمة حق .. مهما كانت قاسية ، لا مناص منها .. والا سيظل الشعر ارخص بضاعة ، ومهنة للمفلسين !!
ساضطر قريبا الى اعادة نشر بعض مراجعاتي الادبية ، عن شعراء لهم مكانتهم الشعرية والثقافية في ادبنا المحلي ،لأنقل صورة ايجابية عن الامكانيات المختزنة في ثقافتنا .. لعلي بذلك اثير الحنين ( النوسطالجيا ) للماضي غير البعيد !!
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق