الأحد، نوفمبر 25، 2007

"ملح وشرر وحب" في نص للكاتبة: راوية بربارة



زياد جيوسي
لنصوص الصديقة الطيبة راوية بربارة نكهة خاصة، وفي قصصها أو لأقل نصوصها ميزة تختلف في التعامل مع النصوص الأخرى، وهنا أتكلم عن نفسي ولا أشمل غيري، فحتى أتمكن من الغوص في مكنونات نصوصها، كنت أتابع ما تكتب نصاً اثر نص، كي يشكل التراكم عندي بحراً أدبياً يمكنني من الغوص في مياهه وتحدي أمواجه، وان كنت أخشى الخوض في نصوص راوية سابقاً رغم ملامستها لذائقتي الأدبية، خوفاً أو تجنباً لسبب أو آخر في داخلي، وحين التقينا على هامش "دوثان" برفقة الأصدقاء، وجدت أن ما أخشاه من عملية الغوص في نصوصها، هو ليس أكثر من وهم مقابل شخصيتها الطيبة والبسيطة والقريبة من الروح والنفس.
وفي ذرة ملحها المسكوبة فوق الشرر المتطاير، وجدت نصًّا خاصًّا متميّزًا، يدفع المرء للغوص فيه، فهو بحر مستقل عن باقي البحار، وكما تقول الصديقة الكاتبة إيمان ونوس: "قالب قصصي رائع لا يتمكن منه إلاّ فنّان في تناول المشكلة وتحويلها لقّصٍ رائععلى لسان أبطال هم من واقع حي معاش في كل مجتمعاتنا العربية والشرقية"، فهنا نجد الراوية راوية تتحدث بلسان رجل، رجل يمتلك قلباً " تراكم الثلج فوق نبضاته منذ زمن"، في نهار " يستوعب كل التناقضات المرئية واللامرئية"، يحلم بالحب ويخشاه " أحلم بيومٍ تنطلق فيه نظراتي وتصطدم بنظراتٍ تُلهب هذا القلب"، رغم أنه " قلبٌ هُزِمَ مرّة فأغلق أبواب حجراته وخبّأ المفتاح في جنبات العقل"، رغم أنه يحن للأجواء العائلية والأسرية " والروح توّاقة والجسد يحنّ للمسةِ عطف"، " آه يا معدتي الخاوية.. تشتهين الأطباق البيتية الدافئة ولا تأكلين إلا في المطاعم.. وحيدةً تطحنين خبز الحياة دقيقاً"، لكنّه الخوف من التّجربة هو ما يقف حائلاًُ " غدت الأنثى بالنسبة له مجرّد جرح"، فهو يرفض أن يعيد التجربة ولا يسمح لقلبه بالضعف أمام الحب مجدداً " أكثر من سهم كسرتُ نصله قبل أن يخترقني.. وهل أنا أخرق لأسمح لها أن تهزأ بي ثانية"، فالمرأة بالنسبة له أصبحت تُشكّل خوفاً في النّفس، مساساً بالرجولة وإذلالاً لها، تتسلى بالرجل وتتخذه زينة لا غير "أن تهبني حبّها ودموعها.. فتذلّ رجولتي أمام ضعفها"، " تشكّلني ثانية معدناً نفيساً تتزيّن به".
هكذا نجد الأنموذج الذي اختارته الكاتبة للرجل في نصّها، فهو أنموذجٌ من الرجال الذين يخشون الحبّ، يخلطون بين مفاهيم مختلفة، تكرَّس في أرواحهم فكرة الرجولة، فيجد أن أيّ تنازل مساساً في رجولته، فالمرأة في مفاهيمه "تظن العاشق عبداً فتحمل له عصا الشّوق والدّلال تؤدّبه بها"، ينسى أو يتناسى أنّ الحبّ يسمو فوق هذه المفاهيم، وأنّ الحبّ كان ولم يزل دومًا عطاءً متبادلاً.
يجلس في مطعم ليتناول طعامه وله في ذاكرته تجربة فشله في الحب " وجدت مطعمًا مليئاً بذكرياتي"، يأتي به القدر بين منضدتين، " خلفها عاشقان يتقابلان بالنظر.. وأمامها عائلة تضجُّ جلبة وحركة وأطفالا"، وهذا الموقع للمنضدة كان له تأثير خاص عليه، فهو ما زال يحلم بامرأة وأسرة، " هذا التّوسط أعجبني.. أخرجني من وحدتي وأفكاري.. أدخلني العالم الحقيقي الذي أتمنّاه.. الذي يمثّل حاضري القريب ومستقبلي"، فهو ما زال رغم تشنجه يحلم بالحب ولكن ضمن مفاهيمه هو، لا ضمن ما يكون عليه الحب حقيقة "لن أكون وحيداً"، " فلربما تكون تلك المرّة الأخيرة التي آكل فيها وحدي.. أو آكل فيها خارج بيتي"، وفيما هو ضمن هذه الفكرة والحلم بالمرأة التي تقدم أنموذج العبد الذي يهمه إرضاء سيده، بدون أن تكون له كرامة، فمنذ متى يكون للعبد كرامة!، فهكذا يريد من امرأة المستقبل أن تكون.
"اختلفَ العاشقان"، وكأن الخلاف مرفوض ولا يحق للمرأة أن تثور، " تطايرت الكلمات شرراً من فمها"، أما العاشق فبقي صامتاً أمام هذه الثورة للمرأة، "والعاشق مُصاب بالذّهول"، وهذا الصمت أثار حمية الأنموذج الذي قدمته لنا الكاتبة، فهو كما أسلفت يرفض للمرأة مجرد المناقشة، فهذا في عرفه مساساً بالرجولة وإهانة لها، "ما هذا الصّمت، وهذا الضّعف أمام حبّات اللؤلؤ الأنثوية المنزلقة من عينيها؟"، انه تساؤل العقلية الشرقية المغلقة، التي تمنح الرجل حقوق السيد المطاع، ولا يحق لامرأة أن تناقشه، أو تثور في وجهه، ومجرد الصمت أو محاولة احتواء الموقف تخرجه من عالم الرجولة وتحيله إلى مجرد أبله، " لماذا لا يحرّكُ هذا الأبله ساكناً"، وان تجرأت المرأة فالرجولة تقتضي منه التصرّف الفوري، " لو كنتُ مكانه لقامت كرامتي تثأر لنفسها من هذه المتعالية المتغطرسة.. لو كنتُ مكانه لتركتُها ثائرة وأدرتُ ظهري خارجاً دون عودة"، فلا بد للرجل في عرف مفاهيمه أنْ يتصرّف فوراً وإلاّ أهان ليس نفسه فقط، بل أهان كل الرجال وكل مفاهيم الرجولة، "خبّأتُ رأسي خجلا من ضعفه"، فالرجل عليه التصرّف الفوري مع المرأة وعليه "أن ينتشل رجولته من وحل صراخها"، على الرجل أن يتصرّف وأقل تصرف في مواجهة المرأة التي تخرج من دورها المرسوم كعبد، وترفع صوتها أو تثور كعبد آبق هو، " أو على أقلّ احتمال لكنت رميتُ زجاجها الهشّ بحجارة إبائي وعزّة نفسي".
ضمن مفاهيمه المتخلّفة نظر للعاشق فوجده ينهض من مكانه، ففكر أن هذا الحركة تعني " قام من مكانه.. سيغادر حتماً ويتركها ذليلةً.. سيفرش الصقرُ جناحيه وينقضّ على سلحفاة تخبئ رأسها وتحتمي بقساوة تصرّفها..."، فضمن مفهوم الرجولة المزيفة هذا أقل ما يجوز فعله، ولكن " رمى بتوقّعاتي عرض الحائط"، فهو لم يغادر ولم يسء إليها ولم يرفع يده عليها ولكنه "خبّأ رأسها في صدره.. عانقها.. مسح دموعها بشهامةٍ.. فاستسلَمَتْ له..أرختْ حاضرها في حضن رجولته وتمسّحت بكرامةٍ يحملها نياشينَ على صدرهِ ورتباً على أكتافه.. فاحتواها..".
لم يكن هذا الذي جرى فقط، فالأسرة التي تجلس أمامه مكونة من أب وأم وأطفال، هذه العائلة نشب في صفوفها خلاف فجأة " لكنّ العائلة أمامي قطعت حبال دخاني بصراع أخويٍّ ونقاش محتدمٍ"، هذا الخلاف الذي لم يعرف كيف بدأ وكيف اشتعل "ربما انشغالي بالعاشقين فوّتَ عليّ معرفة التفاصيل"، وضمن نفس العقلية التي تحكم هذا الأنموذج الذي استحضرته الكاتبة، وهو أنموذج شرقي منتشر بكثافة في مجتمعاتنا، نراه يصف ما يراه "آثر الأب أن ينسحب خارج دائرة القرار.. فتحوّل من حيادي إلى متّهم، بلا مبالاته، بصمته وبتهرّبه."، فالأب هو الرجل والرجل يجب أن لا يتراجع أو يصمت، انه نداء الرجولة بغض النظر عن النتائج، فكيف حين يكون الخلاف مع المرأة، الصمت مرفوض ففيه مساس بالرجولة، "ربحت الأمّ الجولة الأولى لأنّ هيئة التحكيم من بقيّة أفراد الأسرة المحايدين وقفت إلى جانبها.."، والرجل لم يتصرف كما تقضي رجولته، فهو "حاولَ رفع راية الصّلح ببسمةٍ.. لكنّ احتدام الموقف لم يحتمل، ضاعت بسمته هباء."، فالرجل مهزوم فقط لأنه صمت أمام الموقف، هذا الصمت الذي فسره الأنموذج المستخدم " تحسّسَ الوالد رقبته.. وشعر أنّ أحدهم يلفّ حبل المشنقة حول سني عمره التي قضاها يلملم أشلاء نفسه". إذًا ما يجري أمامه يعطيه الفرصة ليؤكد ما بداخله من مفاهيم مشوهة يظنها هي الصحيحة والحقة، فهو يرفض التنازل للمحبوبة لأن في ذلك مساساً بالرجولة، ويرفض الزواج لأن ما يراه يدفعه لرفض الزواج " هذا المنظر العائلي المألوف لي جدّاً.. هو نفسه الذي يحتويني كلّما فكّرتُ في الاستقلال.. بل في السّجن الإرادي.. لا أفهم كنه هذا القفص الذي يشدّك إلى داخله، وإذا ما دخلتَ يغريك للخروج منه.."، وكأن الحياة هي حالة من تسلط الرجل فقط، لا مجال لحوار معه أو رفض أوامره، وكل ما يمكن أن يحصل من سلوك المرأة هو مساس بالرجولة، لذا فالحرية بدون قيود الزواج أو المرأة هو الحل الأنسب، "بعد ما رأيتُ الآن، أدركتُ بأنّني على يقين.. فمن ذا الذي تسوّل له نفسه أن يسجنها خلف جُدُرٍ أصلب من الحديد"، ويؤكد ذلك لنفسه بقوله: "أنا على يقين الآن أكثر من أيّ وقت بأنّه لا أروع من جناحين يحلّقان بكَ بعيداً.. فلا أعباء عائليّة تنوء تحتها.. ولا مسؤوليات تعلّقها في رقبتك كحبل المشنقة". هذا النموذج الذي قدمته لنا الكاتبة، رأيناه بكل وضوح يمثل العقلية الشرقية، تضعنا أمام حدثين عاديين في الحياة، فلا حياة بين اثنين بدون خلاف، ولا توجد أسرة تخلو من بعض الإشكالات والخلافات الطارئة، والحياة ليست طرف غالب ومغلوب، الحياة تعاون مشترك وتنازل من الطرفين، وإلا استحالت الحياة المشتركة، ولو فضل كل رجل أن يبقى أعزب ليبتعد عن ما أسماه الأنموذج المطروح أمامنا " جُدُر تراوده في أحلام يقظته وتطارده في المنام"، لاستحالت الحياة ولانقرض البشر.
لكن.. تبقى الروح الإنسانية تستفيد من التجربة، تعمل التفكير فيما تراه، تستفيد مما يحدث، فالبعض يأخذ عظّة، والبعض يصرّ على مواقف لا تمت للروح الإنسانية بصلة، فيا ترى ما هو النموذج الذي تقدمه لنا الكاتبة من هذه النماذج، لنرى ردة الفعل النهائية..
ففي مشهد العاشقين نرى " خبّأ رأسها في صدره.. عانقها.. مسح دموعها بشهامةٍ.. فاستسلَمَتْ له..أرختْ حاضرها في حضن رجولته وتمسّحت بكرامةٍ يحملها نياشينَ على صدرهِ ورتباً على أكتافه.. فاحتواها..".
وفي مشهد الأسرة نرى "فجأة قامت الفتاة الصّغيرة.. حرّكتْ غدائرها بدلال.. اتّجهتْ نحو والدها ضمّتهُ.. عانقته معتذرةً.. رسمتْ على خدّه قُبلة خجَلٍ.. فنظر بقيّة الأولاد إلى بعضهم شزراً، مؤنّباً أحدهم الآخر.. ثمّ تراخت الجفون المعقودة وحلّتْ مكانها نظرات معتذرة.. مدّت الأمّ يدها بكأس العصير.. روت الأب وهدّأت روع استفزازه".
وهنا أعود للحديث عن التميّز الذي أظهرته راوية بربارة في نصّها، فهي قد تمكّنت من تقمص شخصية الرجل الشرقي بكل مهارة وقدرة، ومن يقرأ لها يظن أن تخصصها العلمي هو في علم النفس، بينما هي خريجة قسم اللغة العربية، وهي وكما قال البروفسور جورج قنازع: "باحثة تملك القدرة الفائقة على التحليل والقراءة المغايرة، وتبحث عن الزوايا الغامضة لتنيرها بعمق الرؤية والدليل الساطع"، وفي نفس الوقت تمكنت من الدخول لأعماق الروح البشرية، وظهر هذا جلياً بالشخوص التي استعرضتها، الرجل، العاشق، الأب.. وهي نماذج لثلاثة رجال، كل منهم يتصرف أمام الحدث بشكل مغاير، إضافة لتمكنها من سبر غور مشكلة موجودة في مجتمعنا، والإحاطة بها من خلال أسلوب قصصي جميل وممتع، فوضعت المقدمات الصحيحة في مكانها، جعلت القارئ يعيش الحدث بأدق تفاصيله، وفي النهاية وبعد تشويق القصة أعطتنا النتيجة.
لقد رأينا كيف تصرف العاشق، وكيف تصرف الأب، وما هي الأفكار التي سادت تلافيف الدماغ للرجل المراقب، فما أثر هذه الأحداث التي رآها بعينه وسمعها بأذنه عليه؟ ففي نظرته للعاشق ومشاهدة كيف انتهى الخلاف وصل إلى نتيجة " انتصر بصمتٍ علّمني أنّ الرجولة صبرٌ وسعةُ أفق.. وأنّ الحبّ إذا تنازل مرّة لا يطأطئ رأسه.. بل ينحني ليقطف العوسج والياسمين"، إذًا ما رآه وسمعه أعطاه درسًا أنّ الرجولة هي سلوك وليست تشريحا ذكوريّا، وأن الحبّ إذا تنازل مرة فهذا لا يعني طأطأة الرأس ولا المساس بالكرامة، فالحياة ليست قالباً واحداً، ونفسيات البشر تختلف، لكن ما لا خلاف عليه هو أنّ الحبّ القائم على التفاهم، هو القاسم المشترك بين الناس، وهو كما كتبت إيمان ونوس: "هو ذا الحب الحقيقي والصادق من الطرفين ينحني لا ليقطف فقط العوسج والياسمين، وإنما نجوم سماء الحياة والحب ليرصع كل منهما بها روح الآخر حباً وثقة وتفانياً يتناسب مع حب حقيقي نقي وصادق".
وعلّمته حكمة الأب وسلوك الطفلة ثم الأبناء والزوجة أن نسمات المحبة بالتفاهم لا بد أن تنتصر " هبّت نسمة باردةٌ رطّبتِ الأجواء.. فشعرتُ للمرّة الأولى أنّ روحي الساغبة وجدتْ منبعها.. وهدرت شلالات المحبّة في كياني يتناثر منها رذاذ يطفئ كلّ شرر".
والنتيجة هي عودة العقل للتفكير، والروح للسكينة، والأفق للتفتح "أيقنتُ أنّ أيّ واقع سأختاره هو شرارة لا بدّ منها.. كلّما احتكّ عودها بالكبريت سيشتعل، لكنّها إذا لم تجابَه بما يغذّي لهيبها..انطفَأتْ.."، وأنّ الحبّ هو مفتاح الحياة ولا ينتهي أبداً، ولا يرتوي منه الإنسان متى عرفت روحه نبع المحبة، " الروح مهما نغبت من جرعات الحبّ لن ترتوي"، والحياة ليست توافقا دائما، وبعض الخلافات كالملح يعطي للطعام طيبة وطعماً أجمل، وأننا يمكننا أن نتحكم بكمية الملح على الطعام كي يكون أطيب، لا أن نسكبه بدون انتباه فيفسد، كما هي المشكلات في الحياة أيضاً " رششتُ الملحَ فوق طعامي ليطيبَ.. كما تطيبُ الحياة بملح شررها".
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/

ليست هناك تعليقات: