الأحد، ديسمبر 07، 2008

أوقات تحت أجنحة الحُبارى

لمياء الآلوسي

كأنّ السماء أطبقت على الأرض فتعانقتا ، وما عادت الدنيا تتنفس إلا صدى قبلاتهما الذي يجهل الذبول ،

ولكن هي ... كان الطريق بالنسبة لها شيئاً آخر ،

إنها دائمة البحث عما يشغلها ، غائبة في عالمها الملائكي ، هكذا باتت ومنذ ذلك المساء الذي غاب فيه عنها .

إنغرزت قدماها في الأرض الرخوة تحتها ، إذ تناهى إليها من بعيد لغط ، وأصوات متداخلة ، وضَوء عربة انحرفت عن الشارع العام ، ثم عادت من جديد إلى الشارع ، ذهلت ، فحبكت ملابسها جيداً حول جيدها الوجل ، وقرفصت للحظات يقيدها شعور غريب ربما ، لكنها أفاقت وهي تتمتم : أنا بخير حقا أنا بخير،

ثم ركضت باتجاه المكان بكل قوتها ،

كان ممدداً ووجهه إلى الأرض ، دعت الله بكل ما فيها من رجاء أن يكون حياً ، أحاطته بذراعيها ، وبعد جهد أجلسته على الأرض ، وأسندته إلى حضنها ، تفحصت جسده الشاب ، وملابسه الممزقة ، لم يكن هناك ما يشي بخطر ما ، لكنها عندما أدخلت كفها تحت قميصه ، على موضع القلب بالذات ، خفق قلبها بعنف ، كالعادة شيء حار دبِق يتقاطر وئيداً من هناك

- يا الله إنه ينزف ،

خلعت قميصه ومزقته ، لتضمد به جرحه ،

ثم نزعت معطفها ، وأحاطته به

مصابيح تترقرق من بعيد ، لبيوت القرية التي آثرت الإنزواء عنها ، منذ زمنٍ في بيتها الصغير ، حيث أصوات ديكة تتناجى في ذلك الصمت ، فيتشبع نغماً حزيناً مألوفاً وغير مألوف ! لكنها كانت تجوب المكان وحيدة دائماً .

بدا المساء معتماً ، لكن السماء منحتها بعد ساعات شلالاً خافتاً من الضوء ، هلالاً يتأرجح تحت سلسلة من نجوم صغيرة ، تداخلت فيها أحاسيس ممزوجة بنوع من الألم التائق إلى الإندحار ، رعشة صغيرة تنتابها كل لحظة ، لذكرى تلك الأيام التي قادتها إلى هذه الأرض المعزولة ، عندما تركت وراءها كل شيء ، لتلتصق بأرض تحمل عبق آثاره ،

في كل شبر لها معه لقاء مشرع على الأحلام المستحيلة .

- ويحكِ ... إن جسده خفيف على ما ناء به جسدك من متاعب .

بعد لحظات طويلة تمكنت من رفع جسده ، وأخذت تجرجره بحذر

في ذلك الصمت المبهم غير المُبالي !

كل شيء توقف مرة واحدة ،

وتوقفتْ به أكثر من مرة ، لكنها عندما التقطت أنفاسها هذه المرة ، بدأ يستعيد وعيه قليلاً، فحمل آلامه معه ، وبدأت خطواته تستعيد بعض علاقتها المعهودة بالأرض ! ربما لأنه استكبر أن يستند على جسد امرأة ، لكنها لم تتركه بل أحاطته بين ذراعيها !

- إنه بيت صغير أو غرفة ، وحتى إذا لم تَرُقْ لك فلا بد منها .

كانت تبعد عنه عثرات الطريق المدلهم ، فما كان منه إلا أن شعر بالحياء فراح يحنو عليها ، ويشعرها بالعرفان

لكن غيمة تمددت تحت القمر ، فغيبت تفاصيل وجهها عنه ،

لاحظ وجود أجساد مغطاة بالسواد لنساء مقعيات على الأرض ، أرعبنه ، توقفَ ..

فربتت على ذراعه وقالت : لا عليك أنت معي .. الليل الذي تراه ما عاد هو الليل .

فكرَ : نعم , صار جودك ضيائي في هذه العتمة .

قال واهناً : مَن هن ؟ ولماذا يتربعن في هذا المكان الموحش !؟

ضحكت فسمع لقهقهاتها رجعاً في هذا السكون ، وتناثر شعرها الطويل إلى الخلف ، وعندما التفتت إليه , كانت غيمة من الشعر الأسود تمرُّ فوق وجهه ، فتصبغ الليل لوهلةٍ بألوان ما اعتادها ... فتداخلت الرؤى أمامه ،

- لسن نسوة , هذه ليست إلا شجيرات السدر الوارفة التي تناضل للبقاء ، إنها بقطرات المطر الشتوية التي تختزنها ، تتحدى صيفها ، لتزهر ثمراتها طوال السنين ، هذه الشجيرات مزينة بيد الرب .

- قبل لحظات كنتُ قريباً من الموت , كنتُ في متناول مخلبهِ الى ما يشبه اليقين !

- هناك غيم مرعد قادم من الشرق ، ساعدني كي نصل ، واضغط على جرحك جيداً ، وانسَ آلامك

*************

كان الظلام يقيده ، حتى أوشك أن يتداعى ، ثم حاول أن يفرد جناحيه الواسعين على إطلاقهما ، جسده المكتنز واختلاج ساقيهِ يجعلانه يخبط الأرض بما يدخر من قوة ، علّها تنهضه عالياً .

بعد فترة ولمّا بدا قادراً على المشي لوحده بعض الشيء .

ركضت , والريح تضرب ساقيها الطويلتين الممتلئتين ، حافية القدمين ، فشكّلت مع الطير المراوغ ، وشعاع القمر الذي عاود الظهور ، لوحة جامحة الجمال ، غدت قريبةً منه ثم أطبقت عليه ، وهنا تأرجح البرُّ بصوت ضحكاتها ، وخفق أجنحة الطيور التي تمكنت من التحليق عالياً ، بأجسادها الضخمة . تذكرتْ : كثيراً ما كانا وكأنهما يستظلان بها , بفزعها او ربما بسخريتها !

إقتربَ منها متعبةً راشحةً بالعرق ، مدت إليه يديها :

- تعال هنا ،

- عجيبةٌ شجيرات السدر هذه ، لمَ تنمو بهذه الكثافة هنا ؟؟ لتحمي الحُبارَيات أم .. ؟

- الصيادون يطعمون طيرَ الحر كبدَ الحبارى وقلبَه ، فهو عندما يحظى به يغرز مخالبه في قلبه ويقتطعه ، ويترك جسد الحبارى للصياد ، فغنيمته هي هذا القلب الدافيء النابض !!

وضعتْ الطير برفق إلى جوارها ، لكنه أفلتَ فانطلق يعدو .

خشي عليها من الأرض الصلبة ، التي تمددت عليها لاهثة ، دون أن تنتبه لشيء

- المكان في الداخل أكثر أمناً .

تردد :

- قد لا يوجد مكان أكثر حميمية من هذه الأرض ، تسورك شجيرات السدر ، وتدفئك السماء بألوانها

- إترك هذه الهواجس خارجَ رأسك .

قال لنفسه أولاً ثم رتّله عليها : بل انت منحتني شطآن بسعة الأفق ، وجعلتني أبحر منها إلى أرض لن يقال أنّ لها حدوداً , ولكني مع هذا ...

أحست أن في قلبها خزيناً من الحنو , من النجوم والنيازك والمجرات وأسئلة الحب , أسئلة الماضي الدامية :

- لمَ فينا هذا القلق المرعب إذا ؟

- هو قلق متسامٍ ، ورعبنا يكمن في أن لا نكون ضمن حدود هذا الشوق ، بل ربما نهيم فنتوكأ على خيال في ليل الحقيقة ! نهيم في كون هو كوننا لكننا لا نعرف كيف نعقله .

- دعيه حراً يأخذنا بأمواجه ، بصواعقه ، يمحونا ببطشه المقدس , أقول المقدس رغم شكي بما يقدسون !

قالت له وقتها بعد صمت طويل : إنه الرضا بالتحدي ، الرضا الذي يجعلنا نعشق بهذا العنف ، ونقاسي الظمأ

*************

فتحت الباب الموارب قليلاً ودخلت تسنده بكل جسدها .

من الخارج كان منظر البيت يشي بأنه بيت طيني ريفي بسيط ، لكنها عندما دخلت وأنارت الأضواء ، بدا بيتاً عصرياً للغاية ، وثمة موقد بمدخنته التي رصفت على حافتها عشرات التحف الفنية ، وفرشت الأرضية بسجاد زاهٍ جديد ونظيف ، أما الجدران فقد غطت باللوحات الزيتية البديعة ، وفي الزاوية البعيدة كانت هناك مكتبة كبيرة ، وأريكة واسعة بفراشها الوثير ووسائدها المنقوشة بأحاديث وهمساتِ لقاءات ماضية ! ومنضدة أنيقة عليها جهاز حاسوب وبضعة كتب ، وثمة موسيقى هادئة ساهمة ! تشيع في المكان جواً سحرياًً ,

سقته قدحاً ساخناً كان في حاجة إليه ، ثم طفقت تضمد جرحه بأربطة نظيفة ،

- لم أعد أتذكر شيئاً

أشارت إليه بالصمت

- لا أريدك أن تتذكر أي شيء ، فلازلت حياً ، لا ترفع صوتك كثيراً ، فهنا الهمس يتناثر أرواحاً تؤجج الدنيا حولنا .

أرقدته على فراش اختارته بعناية فهو الآن مطروح على الأرض ، منحته ملابس نظيفة معينة ، كان في الموقد جذع شجرة متقد ، فانشغلت بإثارة دفئه الذي حجبه الرماد ، ثم انهمكت في مطبخها الصغير المنظم بإعداد طعامٍ يليق به ناسيةً نفسها ،

(( كم بحثت عن أيامها معه ، كم حاولت أن تحتفظ لنفسها بوقع خطواته ))

شعّت بعودتها رائحة طعام شهي ، رصفت أطباقه على مفرش أفردته على الأرض أمامه

لاحظت أنه بدأ يتنفس بصوت مسموع , ورعشة خفيفة تنتاب جسده .

كان نور خافت يتطلع إليهما عبر فرجة الباب المشرعة ، وثمة ريح خفيفة تحرك أشجار البرتقال الظليلة ، فتتخيل خفق أجنحة عصافير .

برقت عيناها بضوء عاصف ، وكأنها تبحث عن شيء يحملها إلى عالم غير مرئي ، خرجت مسرعة ثم عادت محملة بأغصان أشجار يابسة ، ألقمت بها النار فزاد لهيبها

كان كلما أغلق عينيه أخذته غفوة سريعة ، فيفيق مرعوباً وهو يرى تلك الهراوات تنهال عليه ، إستوى على فراشه الناعم متأوهاً ،

كانت تتحرك بلا انقطاع مطرِقة ، وثمة ابتسامة هانئة تلوح على شفتيها رغم ذلك ، فتنتشله من حالة النوم القلق التي تسيطر عليه ، وثمة عطر بلون الورد ، ممزوج برائحة احتراق أغصان الغرب والحلفا يقتحم المكان ,

ما عاد قادراً على الصمت .

- هل أنت هنا على حدود الروح أم أنت الروح صافية ؟

خرج صوته غريباً مرتجفاً خائفاً ،

- وهل تتخيل أن للروح مكاناً في هذا الإنتباه الأرضي ؟

قرفصت إلى جواره ، لكن كل هذا عاد فانصهر في كيانه , في بوتقةِ روحٍ مجروحة رهيفة .

إنتبهَ قليلاً مرة أخرى :

- التفوا حولي ...... فصار كل شيء ضبابياً

قالت له وهي تتمنى أن ينسى الآن :

- لا عليك ، إنه زمن الشؤم ، زمن الضغائن والقتل من أجل قناعات عفا عليها الزمن وهذا على أية حال لم يأتِ من فراغ فقد كانت له ممهِّدات وكانت له حواضن !

وهذه أيضاً هي التي جعلتني أكاشف البر , أكاشفه وحده ... ولكنك نجوت !

صمتت مرتبكة ، فنظرته الحيرى ، وصوته المرتجف ، أخبراها أنه اكتنفته بادرة تعاسةٍ ثم تسللت مبتعدة عنه ، لاحَ كمن يتلو صلاة خافتة وبعدها حجبتْهُ غيبوبة طويلة !

بدأ نثيث المطر يضرب زجاج النوافذ ، وتعالى صوت الديكة ، ولكنه لم يفق , لبست معطفاً طويلاً ووشاحاً على رأسها ، بعد أن جدلتْ شعرها إلى الخلف ، وأغلقت الباب خلفها ,

كانت تركض في أزقة القرية المتفرعة ، ثم دلفت إلى ذلك البيت الطيني الصغير ,

بعد لحظات كانت تركض عائدة وهو وراءها يحمل حقيبة صغيرة ، يضعها فوق رأسه ليتقي قطرات المطر

- ألا تكفين عن توريطي معك !؟

بدا الطريق زلقاً بانحدار الأرض تجاه منزلها البعيد .

إنه دائم الكلام ، لكنها لا تعتمد إلا على جهوده ومهارته المتواضعة

- كم جسد نجا من هذا الجحيم ؟

ضاعت عبارته الأخيرة تحت حفيف سعفات النخيل العالية ,

دخلا معا وكأنهما قطتان مبللتان .

تمتم وهو يتفحص الجسد المسجى أمامه ، ويفتح ضمادة جرحه : يا لك من امرأة .

لاحظَ دمعتين تنحدران سريعاً ، بدت خجلى ، فربت على كفيها اللتين احتضنتا قدح الشاي الساخن

- لا تخشي عليه فلم يصب بطلق ناري ، كان محظوظاً .

مرّ الليل ليس كالسابق فقد كان يريد أن يعمل أمراً ما , ربما أراد أن يعبر لها عن دهشته فعجزَ او عن مودة عميقة فخاف او عن شكر كبير فما وجد كلمات إلا أنها لا تريد ذلك , همُّها في مكان آخر ! فكأنّ حبها هو يفعل هذا دون أن تدري .

لم يتكلم ولم تبادرهي فتسأله من أي مكان أنت فما عادت هذه الأشياء تعني شيئاً البتة ...

ومع خيوط الفجر الأولى في اليوم التالي

سارت معه لكنها أبقت على مسافة من خلالها يلوح كل منهما في طريق ، عاد لها ماضيها السابح في انتظار لا يكل ....

أرادت أن تقول للرجل وداعاً ولكنه هو نفسه لم يلتف , ومع ذلك عجلت حتى سارت بمحاذاته ثم أشارت إليه باتجاه الطريق الذي يجب أن يسلكه .

غيبه الطريق المتعرج بين التلال التي ارتفعت قليلاًً .

وفي طريق العودة ، بدت دوامات لطيور الحبارى ترتفع في السماء موشحة بضوء الصباح البارد ، وثمة نثيث واهن رغم أن السماء صافية

وبضعة رجال باتجاه غدران على الجهة الثانية يتراكضون ....

طير الحر رشقَ الحبارى بسلاحه الفتاك فأضحى في النزع الأخير !

******************

ليست هناك تعليقات: