الأربعاء، ديسمبر 03، 2008

الروائية الجزائرية ياسمينة صالح: بحر الصمت / 2001

د. عدنان الظاهر

أقرأُ ما تكتب الروائية ياسمينة صالح فأتخيلها أكبر من عمرها الحقيقي بعشرين عاماً في أقل تقدير . كيف يحدثُ هذا وما تفسيره ؟ لا أقولُ هذا الكلامَ جزافاً أو إعتباطاً إنما أقوله نتيجة تجربة ليست قصيرة وسفرة متابعة رافقتُ فيها الروائية في كتابين لها أثارا لديَّ الكثير من الأسئلة وما زالا يثيران ولا أعثرُ على أجوبتها لأنّ الروائيةَ المبدعة بعيدةً عني فهي هناك في الجزائر وأنا هنا في ألمانيا يفصلنا أكثر من أوراس وأكبر من بحر متوسط . كتبتُ عن روايتها الثانية [ وطنٌ من زجاج / 2006 ] وحين نشرتُ ما كتبتُ أحسستُ بما يُشبه تأنيب الضمير ذاك أني لم أوفِ الرواية حقها مما تستحق من إعتبار وتقويم . إني ودوماً لهذا السبب أُؤكد على ضرورة أنْ يتعرفَ الناقد وبشكل جيد على أصحاب النصوص وأنْ يكونَ قدرَ الإمكان قريباً منهم يسائلهم ويحاورهم ويطرح شتى الأسئلة عليهم وربما يطلب الغوصَ أكثر في عوالمهم الخاصة من أجل معرفة المزيد عنهم لمصلحتهم هم ثم لفائدة القرّاء على مُختلف الصُعُد . هذا المنهج لا ريبَ يساعد الناقد كثيراً ويخفف عنه بعض أعباء مغامرة رحلته الشاقة وإنها كذلك مغامرة في المجهول كما أراها خاصةً إذا كان صاحب النص من الجنس الآخر حيثُ الكثير من المحاذير والمحظورات كما نعلم . هل ساعدتني رواية " وطنٌ من زجاج " في أنْ أفهم بيسرٍ أكبر رواية " بحرالصمت " ؟ نعم ، بدون شك . إنها المتابعة الدؤوبة وإنه التراكم بالكم . وضعتُ يدي على بعض المفاصل المشتركة في كلتا الروايتين . أكثرها أثراً على الكاتبة وتأثيراً على القارئ هو موضوع الثورة الجزائرية أو حرب التحرير المعروفة . ما الذي أغرى ، ولم يزلْ ، ياسمينة أن تخوضَ موضوعاتٍ تأريخية معقدة وعويصة سيّما وإنها لم تعاصر أحداثها ولم تشاركْ فيها ؟ ثم لِمَ تربطها بالمرأة والحب بأساليب جدَّ مُحكمة حتى ليبدو الأمر للقارئ وكأنَّ الروائية الشابة لا تستطيع فهم الأحداث الكبرى والحاسمة في تأريخ الشعوب إلا من خلال المرأة ووجودها الحيوي هناك مع الثائرين وفي قلب أحداث الثورة . لفتتَ بقوةٍ نظري قدرة الكاتبة الإبداعية غير العادية على دمج وتخليط أحداثٍ قديمةٍ مرتّ عليها أزمانٌ وحِقبٌ بقضايا معاصرة ما زالت الكاتبة تحياها بكل تفصيلاتها ودقائقها كأنها تسعى للقول أنْ لا من فواصل مهما كانت طبائعها بقادرة على عزل حاضرنا عن ماضينا وأنَّ الحاضرَ إمتدادُ لما مضى كالإبن لأبيه . لم تتفقه في ذلك ولم تُطلْ المكثُ بل شرّحت كطبيب جرّاح ماهر بعض ما أفرزت الثورة الجزائرية بعد إنتصارها المؤزَّر على فرنسا ، شرحت ذلك بأساليب فيها الكثير من الإبداع . منها على سبيل المثال ما قامت من صراعات دموية بين أجنحة الثورة نفسها وما سال من دمٍ هو دمٌ مشتركٌ بين رفاق القتال وأبطال التحرير (( الثورات تأكلُ أبناءها / قول شهير مُتداول أعرفه جيداً وأمام ناظريَّ كلٌّ من الثورة الفرنسية 1789 وثورة 14 تموز 1958 في العراق )) ثم بروز ظاهرة الإرهاب والمتطرفين وكثرة من قتلوا من أبرياء الناس وما نفذوا من تصفيات بعضها معلوم والآخر مجهول الدوافع والأغراض . هاجس الثورة قويٌّ جداً في ذاكرة الروائية الشابة وفي ضميرها وفي طبع إبداعها الأدبي قصاً وروايةً . لا أدري هل كان والدها أو والدتها أو أحد اقاربها الأقربين من مقاتلي حرب التحرير الجزائرية حرب المليون شهيداً ؟ كم من النجاحات أصابت الكاتبة وهي لا ترى الثورة إلا من خلال المرأة الجزائرية أماً أو صديقةً أو حبيبةً أو زوجاً ، كأنها تقول المرأةُ ثورةٌ ولا من ثورة بدون المرأة وإنها في هذا مُصيبة كل الإصابة .. لا تقولُ ياسمينة صالح إنها تدافعُ عن المرأة أو تطالب بحقوقها لكنْ تضعها في أماكنها الصحيحة ، في قلب الأحداث المصيرية الجبّارة التي تصنع تواريخَ جديدة . لم تتكلم عن مقاتلات مجاهدات جزائريات فهل قصدت بذلك أنَّ حملَ السلاحَ واجبُ ومسؤولية الرجال وأنَّ دور المرأة هو الوقوف وراء ظهور الرجال لشدَّ الأزر ورفع المعنويات القتالية وهذا ما قالته مراراً كثيرة على لسان عاشق ( جميلة ) السي السعيد في رواية بحر الصمت الذي لم يترددْ في أنْ يكونً أحد مقاتلي جبهة التحرير بسبب حبه لإمرأة إسمها جميلة . في المرأة ومن المرأة تبدأ الثورة ، بسببها ولأجلها يقاتل الرجال ، والثورةُ لغوياً أنثى . أسوقُ على هذا أمثلةً :

1ـ يا " عمر " ، لم يكنْ مرورك في حياتي شيئاً سيئاً تماماً ، وأنا لم أصبحْ جزائرياً مخلصاً بفضلكَ أنتَ ، بل بفضل عينيها هي ... وحدّها فجّرت أحلامي وصنعت ميلادي تأريخاً بلون عينيها ... أبعدَ كل هذا يدينونني بعدم الحب ؟ صفحة 50 .

2ـ في ليلةٍ مُدهشةٍ جاءني الوطنُ على شكل إمرأة مغمورة بالتساؤل والغرور / ص 51 .

3ـ لكني في ذات الوقت أُقنعُ نفسي أنَّ ثورتي خاصةٌ جداً ومعركتي لها علاقة بقلبي ، بأحلامي الكثيرة . نعم أنتِ ...كنتُ أمشي إلى الحرب لأجلكِ ، فقد كان يهمني أنْ تعرفي أنَّ الحربَ بالنسبة لي رجولةٌ من نوعٍ خاص ، ولم تكنْ النتائجُ مهمةً بعدُ / ص 55 .

4 ـ قبلكِ كنتُ رجلاً عاقلاً وبعدك صرتُ مجنوناً ... حتى الوطن إكتشفته بكِ / فيكِ ... وجدتني محشوراً في الدفاعِ عنهُ ... وحشرتني الثورةُ في مفاهيمَ لم أكنْ أُؤمنُ بها . / ص 61

5 ـ العشقُ حالةٌ عجيبةٌ تفتحُ لنا عالمَ الشهادة فندخلُ إليهِ عن قناعةٍ وفرحٍ / ص73

أحسبُ أنَّ في هذه الأمثلة ما يكفي .

لا أُريدُ الخوضَ في تقاصيل رواية " بحر الصمت " لأنها صدرت قبلَ سبعة أعوامٍ ، ثمَّ إني أودُّ انْ أحثَّ القارئ الكريم على قراءتها ومتابعة ما جاء فيها من أمور وأحداث مدهشة غاية الإدهاش . بدل ذلك أميل بقوةٍ لتلخيص ما إستنتجتُ وما إستخلصتُ من أهم خصائص ومزايا الروائية ياسمينة صالح وعرضها على الناس لعلَّ غيري أنْ يكتشفَ فيُضيف جديداً خدمةً للأدب وإنصافاً لكاتبة مُبدعة هي بالنسبة لي أشبه بالمعجزة .

1ـ تكتب بلسان رجل ، حصل هذا في كتابيها كليهما مارّي الذكر . نعم ، إنها تكتب بلسان رجل لكنها لا تقصِّرُ ولا تنبو ولا تكبو بل وتحلّقُ عالياً في سماوات الإبداع . إنها تمارس الكتابة بضمير المذكّر الحاضر ولا تميلً للكلام بلسان مجرّد إمرأة راوية تقصُّ حكايا لا علاقة لها بها . يجدها القارئ في الصميم وفي صُلب الموضوعات مهما تنوّعت الأغراض والغايات والأهداف . إنها الفارس المجلّي في كل ميدان وساح .

2ـ مع ذلك ، لا وجودَ حقيقياً لياسمينة فيما تعرض من أحداث وقصص . فهي ليست من بين أطفال الرواية ولا من شبابها ولا نسائها ولا مقاتليها ولا هي من أحبّت الشاب [ عثمان ] بإعتبار هذه في الرواية هي إبنة السي السعيد التي لا يجمعها في الواقع أيُّ جامعٌ كما أحسب بهذا الأب . خلا أنَّ الأشعار التي كتبتها حبيبةُ عثمان هي بدونما شكٍّ عندي من تأليف ياسمينة . لا من وجود حقيقي ملموس للكاتبة فيما تكتب . إنها تبدو لي مثل الهواء الذي لا من حياة بدونه لكننا لا نراهُ . إنها كالهواء في كل مكان رغمَ أنها ليست منه ، فيه وليست منه .

3ـ أراها ساحرةً في قدراتها على السرد وفي سيطرتها على التحولات في مجريات الأحداث وبارعة في إقتناص لحظات التحوِّل الفجائية المثيرة لعصب وفضول القارئ . أراها سيدة الزمن ومروّضة ثوانيه وقاهرة عنفوانه .

4ـ ياسمينة من الكاتبات عميقات التفكير وقدرتها على الإقناع بدون حدود . تقولُ ما تقولُ فتستسلم لمنطقها وتسلّمُ أمورك جميعاً طواعيةً لها كأنها نبيتك وأنت أحد أتباعها ومريديها . حرارة الفاضها قادرة على تسخين برودة البعد عنها وإذابة جليد الجهل بحقيقة مَن تكونُ هذه الياسمينة الجزائرية . طاقانها في الكمون والحركة عالية جداً وهذا مقياس آخر لدرجة الإبداع والنبوغ لدى الكاتبة والكاتب.

5ـ رشيقة التعبير الواضح والمستقيم الخطوط بلا رمزية ولا إيحاءاتِ ولا شئ من غموض السوريالية .

6ـ فيلسوفة في بساطتها وبسيطة في فلسفتها .

7ـ جريئة في طرح وعرض قناعاتها ووجهات نظرها رغم أنها فتاة متحفظة ـ حسب إجتهادي ـ لا تنشر صورها في المواقع ولا على أغلفة كتبها ولا أظنُّ أحداً رأى صورتها من بين قرّائها .

8ـ ليست عائمة بين أو فوق الطبقات . تتعاطف مع الضعفاء والبائسين لكنها واضحة الميل لنمط الحياة البرجوازي .

9ـ وطنية من الدرجة الأولى وشديدة الحماس للغة العربية رغم ثقافتها الفرنسية وجو الجزائر العام السابق والراهن . كانت في آواخر رواية بحر الصمت تصرخُ عالياً وبحماس منقطع النظير { تحيا الجزائر } . ثم غيرتها على اللغة العربية التي عبّرت عنها بلسان السي السعيد يتكلمً مع نفسه قاصداً إبنته ، التي لم تشأ ياسمينة تسميتها ، << تساءلتُ ، لماذا لا تتكلمُ إبنتي بالعربية إلا نادراً ، كنتُ أجدُ في فرنسيتها إستفزازاً حقيقياً لي ، لا شئ سوى لأنها تتعمدُّ صيغة الأمر في لغتها ، بالإضافة إلى مصطلحات أرفضها كوني أعتبرها مصطلحات سوقية... أنا على الرغم من كل شئ أرفضُ أنْ تكلّمني إبنتي بالفرنسية . هل تسمعين أيتها الجزائرية العنيدة ؟ أرفضُ أنْ تخاطبيني بغير العربية ... هذا مبدأ !! / االصفحة 125 >> .

هامش
رواية " بحر الصمت " لياسمينة صالح / جائزة مالك حداد للرواية / دار الآداب بيروت ، 2001 .

ليست هناك تعليقات: