الثلاثاء، ديسمبر 02، 2008

ومن البليّةِ عَذلُ مَن لا يرعوي

د. عدنان الظاهر

يا أبا الطيّب يا سيد القوافي والأطايب علّمني كيف عاملتَ خصومك وأعداءك من حثالات المحسوبين على البشر وما أسباب إفتعالهم الخصوماتِ والمناكدات ؟ قال تسألني مثل هذه الأسئلة كأنك لم تُخبرهم ولم تنازلهم ولم تربحْ جولاتك معهم ولم تنتصر على أكابرهم وأصاغرهم ولم تمرِّغَ بالمتعفن من الوحول آنافهم وآناف أجداد أجدادهم من السفلة والأجلاف وسقط المتاع . أحسنتَ يا متنبي أحسنتَ ولكنَّ البعض منهم يجتر كالبعير الأجرب بعض أشعارك ويستخدمها كيفما اتفق غير دارٍ بمغازيها العميقة ولا بالمناسبات التي قيلت فيها . قال دعهم في غيّهم وجهالتهم يسدرون فالجاهلُ يفضحه جهله والغبيُّ يفضحه غباؤهُ واللئيم يفضحه لؤمهُ . لا يهمني يا متنبي جهلهم وغباؤهم لكنْ قد يؤلمني لؤمهم يا متنبي . شرع صاحبي يُرددُ { ولا مثلُ العداوةِ في اللئيمِ } . بمَ تنصحني إذاً ؟ أهملهم ، أهملهم فسوف يموتون بغيّهم ولؤمهم وغيضهم فبسمّها تموتُ العقربُ . هل نسيتَ فحوى ما قلتُ في بيتي الشعري {{ وأتعبُ مِن ناداكَ مِن لا تجيبهُ // وأغيظُ من عاداكَ مَن لا يُشاكلُ }} . وإذا لم تمت العقربُ بسمّها ؟ داوها بدوائها المعروف . تقصدٌ النعلَ ؟ بالضبط ، عليك بنعل ذي كعوبَ ومسامير كمسامير جاسم المطير المدببة المسنونة . هل يحتاجُ هذا الأمر أخذ موافقة الرجل ؟ قال كلا ، إنه رجلٌ كريم اليد ومساميره مبثوثة في الصحف والمواقع الألكترونية معروصةً لا للبيع وإنما للإستعمال عند الحاجة .... سبيل يا عطشان ! وكيف عرفتَ يا متنبي إنه رجلٌ كريم ُ اليد ؟ قال إلتقينا في البصرة مراراً وتناشدنا الشعر وأقوال العرب وناقشنا الأصمعي والجاحظ والخليل الفراهيدي وكان الرجلُ في كل ما قد ناقشنا طويلَ الباع لا يقصّرُ ولا يكبو حصانه . أين كنتما تتناقشان ومَن كان يحضر هذه المناقشات ؟ في مسجد البصرة ويحضرها السيّابُ أحياناً وكان يلوذُ هذا بالصمت إنْ تكلّمَ جاسم . وهل درجَ السّيابُ على قراءة بعض أشعاره في مثل هذه اللقاءات ؟ قال أجل ، بطلبٍ مني . وأي شعر طلبتَ قراءته منه ؟ قصيدة " غريبٌ على الخليج " . وماذا عن قصيدة " أنشودة المطر " ؟ لا تعجبني ، قال المتنبي . لماذا ؟ يُقال إنه أخذ بعضها من قصيدة لشاعرة إنكليزية . يتأثر الشعراء ببعضهم ـ قلتُ ـ ويتبادلون الخبرات والمواقف فالشعر جسرٌ متين يشدّهم إلى بعضهم و [ سريٌّ ] سرّيٌّ يجتمعون إليه يسمرون ويسهرون ويتبادلون الأنخاب وفنون الشعر وأسراره ويتجادلون وقد يختصمون. وكما تعرف ، يا متنبي ، الناس يبالغون في مدحهم كما يبالغون في ذمّهم وكنتَ أنتَ متهماً بسطوك على شعر أبي تمّام وقد واجهك خصمُك الألدُّ الحاتميُّ بهذه التهمة ولجَّ فيها حتى أقصى درجات اللجاجة . قال غدا هذا خصمي بعد أنْ جاء إلى بيتي بدون سابق موعدٍ بيننا فإحتقرته وتجاهلته فغدا أحد خصومي الألدّاء . ثمَّ إنه كان مأجوراً ومسخّراً لذمّي وإستفزازي من قبل الوزير المهلّبي كما تعلم . لم تُطقْ حكومةُ عهدَذاك إقامتي في بغداد بعد هربي من كافور مصرٍ الأخشيدي فقرر قرارها إبعادي لأسباب أعرفُ بعضها وأجهلُ بعضها الآخر . لم أكنْ ولن أكونَ أول شاعر لم تطقه الحكومات وأذنابها ومرتزقتها كما تعلم . هل أفهم من قولك هذا أنَّ حكامَ بغداد هم لا غيرهم مَن تآمر على قتلك وولدك مُحسّد عام 354 للهجرة في دير العاقول بين النعمانية وبغداد ؟ قال اللهُ أعلمُ ، قد يكونُ هذا الإحتمالُ وارداً لكني لا أرجمُ بالغيب ولا أقولُ إلا الصدق ولا أنطقُ عن الهوى . طيّب يا أبا الطيّب ، أيسرّكَ أنْ تعرفَ أنَّ الوزير المهلبي ومخلبه المنقاد الذليل المدعو الحاتمي قد غادرا بغدادَ واستقرا في عاصمة أخرى ليرتزقا فيها بعد أنْ فقدا مركزيهما المرموقين السابقين ؟ هذا أمرٌ غريب ! علّقَ المتنبي . ما وجه الغرابة وأنت ملكُ الغرائب وعجيبات الزمان ؟ قال إني حين تركتُ العراق ثم بلاد الشام وتوجهتُ إلى مصر كنتُ على يقين أني سوف لن أجوع فيها ولن أعرى لأنَّ صناعتي وموهبتي وشجاعتي كانت معي حيثما رحلتُ وحيثما حططتُ رحالي . أما هؤلاء الزعران والنفايات فكيف لهم تأمين سبل عيشهم في العاصمة الجديدة ؟ لا تخشَ عليهم يا متنبي ، إنهم كالقرود تماماً يجيدون التقلّب والتقافز وفنون الكرِ والفرِّ بل ويجيدون حتى قلب وجوههم وتغيير الوانها فهم مهّرَة في صناعة الأصباغ ومزج المساحيق بل وفيهم مَن يُجيد عمليات التجميل وزرع الأنوف والشفاه ومنهم من إختار مهنة التعريص [ القوادة ] والسمسرة بالبغايا وإسقاط الصبايا البريئات لحساب السياح الأجانب ! لم يصدّق المتنبي كلامي هذا فظلَّ ساهماً واجماً لا يقوى على التعليق . بعد صمت طويل سألً أبو الطيّب : وهل يكسبون كثيراً من مهنة القوادة والسمسرة هذه ؟ حسب الفصول والأحوال يا صديق . ماذا تقصد ؟ أعني إنهم يكسبون كثيراً في أشهر الصيف حيث يكثر السياح الأجانب خاصةً من السعودية والكويت والخليج . لديهم شقق مفروشة أعدّوها خصيصاً لممارسة شغلة السمسرة هذه كما أنَّ لهم عيوناً وآذاناً وشبكاتِ من المخبرين ينقلون لهم أخبار وتنقلات السياح العرب وأماكن إجتماعاتهم وما يبتغون وما يودون من طعام وشراب وأية بغايا يفضلون . إنهم خبراء يا متنبي ، خبراء بهذه الفنون بل وإنهم يحتكرون سوق السمسرة والنخاسة والإتجار بلحوم الرقيق الأبيض ، مافيات ، مافيات خبيرة ومدربة جيداً . لم يصدّق المتنبي ، طلب تغيير موضوع حديثنا فكان له ما أراد . قلتُ له حدثني عن أبلغ أبيات شعرك مما هجوتَ بها خصومك الكبار والصغار . كثيرة ، كثيرة هي أشعار هجوي ، قال ، وهجوي ضربان ، عام من قبيل [ وإذا أتتكَ مذمتي من ناقص ...] وخاص أخاطبُ به أجلاف البشر وأنذالهم وحسّادي والمشاغبين والكائدين . دعني التقطُ أنفاسي من هول ما سمعتُ منك عن أحوال القرود الضالة التي أمست تمارسُ تجارة سوق اللحم البشري المفتوح . دعني أعيد ترتيبَ أوضاعي وأقلّبُ قناعاتي فيما يفعل بعضُ البشر في هذه الأيام. لك ما تريدُ شرطَ أنْ تنفّذَ طلبي ولستُ معنيّاً إلا بهجائك الخاص لأني اليومَ بأمسِّ الحاجة إليه . عدّلَ المتنبي عقالَ رأسه الكوفي وغيّرَ من هيئة جلسته وغرق في تفكير عميق قبل أنْ يجيبني على ما سألتُ . قال ، وهو يرتشفُ بصوتٍ عالٍ من كوب الشاي الثقيل المهيّل والمعطّر ، قد أحرجتني يا صديق ، إي واللهِ قد أحرجتني . لقد كبرتُ وتقاعدتُ قنسيتُ اغلبَ أشعار ديوان شعري . لا عليك أبا الطيّب ، لا عليك ، ما زال ديوان شعرك في حوزتي بل وفي مكتبتي إثنان منه فما رأيك ؟ هاتِ واحداً منهما ... قال المتنبي ، ناولته النسخة الأفضل تحقيقاً وشروحاً وحواشيَ . شرع الشاعر يقلّبُ ديوانَ شعره بكفٍ ترتعشً قليلاً هازاً بين الفينة والأخرى رأسه . إستعرض أغلب ما في ديوانه من قصائد بعينين متعبتين حتى برد شايه فطلب جديداً غيره وكان له ما أراد مع شئ من بقلاوة الحاج جواد الشكرجي المعروفة في بغداد عاصمة الرشيد وسوق السراي وسوق الهَرَج والشورجة والميدان وسوق الغزِل . من أين ستبدأُ يا متنبي ، أعني باية قصيدة ؟ قال وقد إنشرحَ صدره وأشرقت أساريره فتناول قطعة بقلاوة وقال إذا أردتَ الصِدقَ مني فإني ميّالٌ أشدَّ الميل لقراءة قصيدتي الشهيرة التي هجوتُ فيها الأخشيديَّ كافورَ مصرٍ . قاطعته قائلاً اعرفها جيداً وأكادُ أحفظُ أغلبَ أبياتها ، إبدأ رجاءً بغيرها . قال معك حق ، إنها واحدة من القصائد القليلة التي كرّستها لهجاء شخص واحد لا غير ، لذا قد تبدو للبعض ثقيلة . لكنك قلتَ فيها أبياتٌ قد أعجبت حتى طه حسين فمدحها من كل قلبه خاصةً البيت [[ أصخرةٌ أنا ما لي لا تحرّكني / هذي المُدامُ ولا تلك الأغاريدُ ]] . ثمَّ [[ نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها / فقد بَشِمنَ وما تفنى العناقيدُ ]] . أما أنا يا متنبي فهيهاتَ انْ يفارقني بيتك فيها [[ إذا أردتُ كُميتَ اللون صافيةً / وجدتها ، وحبيبُ القلبِ مفقودُ ]] . قال على الفور : كلٌّ يبكي على ليلاه ، كان لطه حسين همّان كبيران من بين هموم أخرى كثيرة ، حرمانه من نعمة البصر ثم إنشغاله بهموم مصر الثقافية والسياسية وما آلت إليه أحوالها في زمانه . كان الرجل مجدداً ومصلحاً ومثقفاً كبيراً . أما أنتَ يا صاحبي ونديمي ، موجهاً كلامه لي ، فلقد وجدتَ ضالتك الأثيرة في بيت [[ إذا أردتُ ...]] لأنه شعر لوعةٍ وعذابٍ وجوىً وصبابة وغربة وتغّرب ونأي عمن أحببتَ ومن قد ستحب . كان هذا شأنك أبداً في حياتك طولاً وعَرضاً : الحنين لشئ مفقود والبكاء كإمرئ القيس على الطلول والدِمَن وآثار الدور الدارسة أو { الطاسمة } كما قلتَ في واحدٍ من أبياتي الشعرية التي تعرفُ جيداً . لماذا أهملتَ يا شاعرُ أزمة ومحنة الإحساس بوطأة الزمن الحاضر والقادم والزمن سيفٌ قاطعٌ بتّار ؟ قال إنها أزمتكم أنتم أصحابُ هذا الزمان . ما كنا نعرفُ أزمةً إسمها أزمة الزمن ، كنا مشغولين بزماننا الحاضر فقط . هذه واحدةٌ من أزمات الحضارة وما كنا إلا بدواً أو أشباه بدو أو في أفضل أحوالنا أنصاف متحضرين لم نعرف علماً إسمه علم النفس ولا سمعنا بعالم إسمه فرويد . لندع هذه الفلسفة جانباً يا متنبي ، ما رايك فيما قلتً [[ ... وجدتها وحبيبُ القلبِ مفقودُ ]] ؟ لا دوامَ لسرور في الدنيا ، هذا ما عنيتُ . تجدُ الخمرةً أمامك لكنَّ أعزّتك ومن يهواهم قلبك عنك غائبون فيا لشدة لوعتك وعذابك . بعضٌ حاضرٌ وبعضٌ غائب فكيف يتمُّ سرورك ؟ الآنَ يا صديقي نعود لموضوعنا الأساس ، الهجاء ، هجاء الخصوم والحسّاد والزعانف والأذناب وما أكثرهم هذه الأيام . قال إنما سأختارُ لك نماذجَ منه فهذا الموضوع أراه ثقيلاً . قلْ ستجدني إنْ شاءَ اللهِ مصغياً . من أين من أين من أين ... ظلَّ الشاعر يرددُ بصوتٍ خفيض . أنا أساعدك يا متنبئ كل زمان وعصر ، إقرأ بعضَ ما قلتَ في ( الأعور بن كرّوس ) . قال لكم كرهتُ هذا الأعور الأعوص حتى إني ظللتُ أبداً أتحاشى قراءة أبيات هذه القصيدة . ألححتُ عليه أنْ يقرأ عليَّ شيئاً منها فقال :

فلو أني حُسِدتُ على نفيسٍ

لجُدتُ بهِ لذي الجَدِّ العثورِ

ولكني حُسِدتُ على حياتي

وما خيرُ الحياةِ بلا سرورِ

فيا اْبنَ كرّوسَ يا نصفَ أعمى

وإنْ تفخرْ فيا نصفَ البصيرِ

الله الله ... لله درّكَ يا أبا مُحسَّد . أنت عندي لأنتَ الرائع بين الشعراء في غزلك وفي هجائك . أسألك يا صاحبي في السرّاء والضرّاء : هل ثمّةً من فرقٍ بين نصف أعمى ونصف بصير ؟ ضحك المتنبي ثم أجهزَ على كأس شايه ثم قال هذا هو الشعر ، يعتمد المنطق والحيل اللفظية واللعب على أوتار الكلمات وإلا لا تقومُ قائمةٌ للشعر والشاعر .. نصف أعمى = نصف بصير كما يتراءى للقارئ ، ولكن لهذه المعادلة مذاقاً آخر في عالم الشعر والمتمرسين بفن السخرية والهزء بالخصوم . وهل كان صاحبك هذا أعورَ في واقع الحال ؟ لا ، أجاب المتنبي ، بل كانت إحدى عينيه منحرفة الرؤية ، أي إنه ( أعوص ) لكني بالغتُ في تجسيد الصورة حتى تأخذ مداها الأبعد وتأثيرها الأعمق على إحساس ودرجة تلقي القارئ لمعنى هذا البيت . وماذا بعد يا نديمي وصديقي في الشدائد والملمات العويصة ؟ قهقهَ المتنبي عالياً وأطال ثم قال : يا خبيث ، ما أسرعَ ما قد أفدتَ من شرحي وفك أحد رموز هذا البيت حتى إستخدمته في كلامك ( أعوص ـ عويصة ) . هكذا نفيد من معاشرة الشعراء فهل تستكثر ذلك عليَّ ؟ صمتَ الرجلُ ولم يشأ التعليق . حثثته على مواصلة قراءة شعر الهجاء الخاص . ما كان مرتاحاً من ضغطي وإلحاحي لكنه لانَ أخيراً وتجاوب مع عارمِ رغبتي . تناول ديوانه ، قلّبَ صفحاتهِ ثم ألقاهُ جانباً . ما خطبك يا متنبي ؟ قال أراها مسالة مملة أنْ أُعيدَ وأسمع ما قلتُ في زمرةٍ من الناس ممن لا يستحقون الوقوف طويلاً معهم أو ذكر أسمائهم أو حتى الإشارة إليهم ، أراها خسارة لجهدي ووقتي . لذتُ بالصمت مجاملةً وإحتراماً لشعور ضيفي . بعد فترة صمت ليست طويلة إقترحتُ أنْ أقرأ أنا بعض شعره في الهجاء العام فرّحبَ بالفكرة . إخترتُ أول ما قد إخترتُ ما قاله في قصيدة طويلة يمدح بها سيف الدولة الحمداني ويذمُّ فيها أُناساً مجهولين لا نعرف شيئاً عنهم :

أفي كلِّ يومٍ تحتَ ضِبني شويعرٌ

ضعيفٌ يُقاويني قصيرٌ يُطاولُ

لساني بنطقي صامتٌ عنه عادلٌ

وقلبي بصمتي ضاحكٌ منهُ هازلُ

وأتعبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبهُ

وأغيظُ مِن عاداكَ مَن لا تُشاكلُ

كان المتنبي غارقاً في حالة صمتٍ غير مألوفةٍ لديَّ . حالة صمت عميق وحالة تفكيرٍ أكثر عمقاً . تُرى ، ما كان يشغلُ المتنبي هذا الطود الشامخ رجلاً وشاعراً ؟ هل أسأل أم أدخل حالة صمت شبيهة ؟ لا أحبُ الصمتَ في مثل هذه المواقف . أراه موتاً أو كالموت .. هذه من الفُرص النادرة للقاء هذا الرجل النادر المالئ الدنيا والشاغل الناس . هل تودُ يا عزيزي الشاعر أنْ تشربَ أو أنْ تأكلَ شيئاً ؟ تململ ضيفي متثاقلاً ، أعاد ترتيب وضع عباءته على كتفيه ، أشعلَ سيجارة ، أخذ منها نفساً عميقاً ، لفظَ الدخانَ في فضاء الغرفة عالياً ثم قال : ليس بي حاجة للطعام أو الشراب . أما مواصلة قراءة شعر الهجاء فأرى أنَّ الشأنَ شأنك والرغبة رغبتك أولاً وآخراً . شجعني هذا القول فإقترحتُ أنْ أقرأَ عليه بعضاً من قصيدته الذائعة الصيت التي كرّسها لذم كافور الأخشيدي عندَ مغادرته مصر في طريق عودته لوطنه العراق والتي تحملُ عنوانَ ( لا تشترِ العبدَ ) :

إني نزلتُ بكذّابينَ ضيفُهمُ

عن القِرى وعن الترحالِ محدودُ

جودُ الرجالِ من الأيدي وجوُدُهمُ

من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ

ما كنتُ أحسبني أحيا إلى زمنٍ

يُسيءُ بي فيهِ عبدٌ وهو محمودُ

وأنَّ ذا الأسودَ المثقوبَ مِشفرُهُ

تُطيعهُ ذي العضاريطُ الرعاديدُ

رأيتُ ضيفيَ مًطرقاً مُغمض العينين فسألته هل أواصل قراءة شعرك في كافور الأخشسدي أم أتوقف ؟ قال كفى ، قد أجدتَ في قراءتك . شوّقتني إلى قصيدتي الأخرى " ضَحِكٌ كالبكاء " التي قلتها عند ورودي إلى الكوفة قادماً من مصر أصف فيها منازلَ الطريق وأهجو كافوراً في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاث مائة ( 962 م ) . قمتُ فَرحاً جذلانَ وصفقتُ طويلاً مقترحاً عليه أنْ ينشدَ بعضاً من أبياتها فوافق على الفور :

لتعلمَ مصرُ ومَن بالعراقِ

ومِن بالعواصمِ أني الفتى

وأني وفيتُ وأني أبيتُ

وأني عتوتُ على مِن عتى

ونامَ الخويدمُ عن ليلنا

وقد نامً قبلُ عَماً لا كرى

وأسودُ مِشفرُهُ نصفهُ

يُقالُ له أنتَ بدرُ الدجى

وقد ضلَّ قومٌ بأصنامهمْ

وأمّا بزقِّ رياحٍ فلا

ومِن جَهِلتْ نفسُهُ قَدرَهُ

رأى غيرُهُ منهُ ما لا يرى

أحسنتَ أحسنتَ يا ابا الطيّب يا متنبئ العصور والدهور أحسنتَ أحسنتَ لكأنّك واللهِ في قلبي ، احسنتَ يا صديقَ الشدة والضيق . نهضتُ فقّبلته من عقاله الكوفي فكاد أنْ يسقطَ من على رأسه لولا أنْ تداركه في الوقت المناسب . قام ضيفي ليودّعني فقرأتُ :

عاد المتنبي إلى مجلسه شبهَ مشدوهٍ وعلامات إستفهامٍ كثيرةٍ كبيرة تطيفُ ما بين عينيه وحاجبيه ليسأل لمن هذا الشعر ؟ إنه لصاحبك النجفي محمد مهدي الجواهري . أطرقَ طويلاً ثمَّ نهضَ .

بماذا يخوِّفني الأرذلونَ

وممَ تخافُ صِلالُ الفلا

ليست هناك تعليقات: