د. حبيب بولس
قصتنا القصيرة إلى أين؟! سؤال ينبثق الآن وبحق بعد مسيرة شارفت على الخمسين عاما. وانبثاق السؤال الآن يعني انه علينا اليوم وبعد هذه المسيرة الشائكة الشائقة في آن معا أن نقف قليلا لنقوّم ما كان كي نصل إلى ما نريد له أن يكون.
وكي ننجح في الأمرين معا أرى لزاما أن نعود إلى الوراء بغية رصد هذه المسيرة من جهة والتأشير على انجازاتها وعلى نواقصها من أخرى, ذلك كي ننطلق إلى الذي سيكون, إذ ما من رؤية مستقبليّة لفنّ ما أو جانر ما يمكن لها أن تتّسم بالمصداقيّة الاّ إذا بنيت على الماضي وانطلقت منه. من هنا ستكون هذه المقاربة عبارة عن تقويم ما كان, والنظر إلى المستقبل أي رسم تصوّر لما نريد له أن يكون بالنسبة لهذا الجانر الكبير الذي احتل حيّزا كبيرا في أدبنا العربي عامّة والمحليّ خاصّة.
بداية أقول إن قصتنا القصيرة قطعت شوطا لا بأس به من التطور خلال مسيرتها بعد النكبة وكادت بذلك أن تنافس أكثر الفنون التصاقا بحياتنا وأعني الشعر. وان كنا هنا نحاول الحديث عنها والتأشير على بعض النواقص فهذا لا يعني أننا ندينها بل يعني أننا نريد لها المزيد من التقدم, لتصل إلى حدائثية المرحلة, هذا من جهة, أما من أخرى فان التأشير على النواقص لا يلغي الإيجابيات والانجازات الفنيّة, بل يحاول اغناءها وإثراءها لتستقيم مع كلّ ما تطمح إليه أدبا كان أم قضايا فنيّة أخرى.
يقول تشيخوف: " إن القصّة القصيرة كذبة متفق عليها ضمنيا بين القاص والمتلقي". ولكن رغم ذلك القصّة بقدر ما هي كذبة هي أيضا تجسيد للحقيقة وذلك لأنها فنّ. والفنّ أسمى أنواع الحقائق, فهو لا يطيق الكذب. " تستطيع أن تكذب في الحب وفي السياسة وفي الأدب وأن تخدع الناس كلما أردت ذلك فهذه أمور معروفة الاّ أنك لا تلجأ إلى الخداع في الفنّ".
هكذا يقول تشيخوف ويصادق على قوله هذا كيبلنج بقوله: " الحقيقة شقيقتها الكبرى الحكاية" وطالما أن الفن مرتبط بالحقيقة, طالما أنه يضاهيها في السمّو, فمن الطبيعي أن يكون الفنّ محاكيّا للواقع مستمدا من الحياة عاكسا قضايا المجتمع. وطالما أن القصة القصيرة جزء من هذا الفنّ , يصبح القول النقدي المعروف الذي يقول: " إن صورة البنى والأشكال الأدبيّة متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعيّة" أمرا بديهيا. ولكن هذا الاشتراط وهذا الارتباط ليسا مباشرين آليين بالضرورة بحكم تمايز واستقلال كلّ من الصّيرورتين عن الأخرى" كما يرى الدارسون.
انطلاقا من هذه البدهية يمكن لنا أن نعاين وأن نرصد التحولات والتفاعلات الاجتماعية الأيديولوجيّة من خلال رصدنا للتحولات والتفاعلات الشكليّة والبنيويّة والمضمونيّة التي عاشتها قصتنا القصيرة منذ انطلاقها إلى الآن. ومن هنا يرى النقاد والدارسون أنّ "ظاهرة القصّة القصيرة تعتبر دليلا قويّا على التحول الذي أصاب المجرى السوسيوثقافي للمجتمع" وهذا الكلام يعني أن تطوّر القصة القصيرة مترابط ومتفاعل مع تطور البرجوازيّة الصغيرة, أي أنه يترابط ويتفاعل مع الأحداث والمستجدات, منذ الأربعينات. وإذا نحن أردنا أن نرى ما طرأ على القصّة من تحولات علينا أن نرى إلى ما طرأ على الساحة السوسيوثقافية من تحولات أيضا والى ما أصاب ساحة الفعل عندنا, هذا الفعل يتلخص بالتشبت بالوطن وفي البحث عن الهويّة الاجتماعية الوطنيّة وفيما بعد الهويّة الاجتماعيّة الثقافيّة. وإذا أردنا التحديد نقسم مسيرة القصة عندنا إلى مرحلتين: الأولى من النكبة حتى أواسط الستينات, والثانيّة من أواسط الستينات إلى آخر الثمانينات. هذا التقسيم يساعد في متابعة المستجدات والمؤثرات. ولن ندخل هنا في رسم المميزات للمرحلتين سياسيا واجتماعيّا وثقافيّا لأمرين: الأول لأن معظمنا عاش المرحلتين وذاق المرارة وجرّبها, والثاني لضيق المجال. ولكننا رغم هذا أو ذاك نجد أنفسنا ملزمين بذكر مضامين القصص في المرحلتين لنرى إلى ما كانت تمور به الساحة من جهة والى ما استطاعت القصّة محايئته واستيعابه من أخرى.
تمحورت قصص المرحلة الأولى حول المضامين التاليّة:
1. الولاء للأرض والارتباط بها.
2. النضال ضد الاضطهاد القومي, وكلّ أشكال القمع والإرهاب ومصادرة الأراضي.
3. إظهار الظلم الواقع على الطبقات المستغلّة.
4. فضح مؤامرات السلطة.
5. الصراع النفسي السياسي, كقضيّة التسلل واختلاف المنطقين العربي والإسرائيلي.
6. التغني بالبطولات العربية والعالمية والانحياز الى حركات التحرر
7. التغني بالأمجاد الفلسطينيّة كاستلهام لماض ناصع.
8. التاكيد على الهوية المحلية
وما ميّز مضامين المرحلة الثانيّة, مع أن ما ورد في الأولى متواجد في الثنايا ما يلي:
1. التركيز على لقاء طرفي الشعب الفلسطيني.
2. المقاومة بكل أبعادها وأشكالها وبطولاتها.
3. البطالة أسبابها ونتائجها.
4. هموم المثقف.
5. الانفتاح على معاناة الشعب الفلسطيني في المنافي.
6. تصوير المجتمع الإسرائيلي بكل صراعاته.
7. مهاجمة الأنظمة العربيّة الرجعيّة.
8. تعريّة سلبيات الشعب الفلسطيني.
9. رصد الأحداث العالميّة.
10. شخصيّة اليهودي التقدميّة.
11. قضايا المرأة بكل ملابساتها وأبعادها.
12. الانتفاضة وأثرها وأبعادها.
ولكن ونحن نسجل ما حوته القصص من مضامين يجب ألاّ تغيب عن بالنا بعض الشروخ التي تخللت قصتنا في مسيرتها, ومنها:
1. النبرة التعليمية الإخبارية الوعظيّة.
2. المباشرة والخطابيّة إلى حد الكليشيه الجاهز أحيانا وهذان أمران فرضتهما ظروف المرحلة.
3. عدم الموازنة بين الخطابين القصصي/ الإبداعي والتاريخي/ الأيديولوجي.
4. بهتنا وتقلص المجال الانطولوجي للكاتب.
من هنا طغت ظاهرة التكرار على العديد من القصص , فدارت في معظمها بحكم عكسها للحساسية النفسية والفكريّة على محور ثيمي واحد. والأمران أديّا إلى أن يكون القاص حاضرا كراوي ومحور في النص يفرض ديكتاتوريته حيث تحول النص القصصي إلى مرآة لا يرى الكاتب فيها سوى نفسه. الأمر الذي أدى إلى "أن ينبش في سريّة ذاته أكثر من نبشه في سريّة مجتمعه وواقعه وتاريخه". وهذا قاده الى تصوير الواقع. بما هو عليه فقط دون الالتفات إلى ما في هذا الواقع من أنواع مغيبة ومضمرة.
ما ذكرناه سابقا جعل قصتنا في معظمها تميل إلى النظرة الأفقيّة المولعة بالتفاصيل الكثيرة, والى الترهل السرديّ واللغة الإخبارية الجامدة. كما أدى إلى بناء مدماكيّ تقليدي والى شخصيّة نمطية متماسكة موباسانيّة, وبالتالي إلى التركيز على البراني أيّ على الموضوع.
وبالتالي ماذا مع الشكل؟ فقد انحصر كلامنا عن قصتنا لغاية الآن في دائرة المضمون.
في الحقيقة أن قصتنا في قضيّة شكلها تنسجم مع القصّة العربيّة عامة. ولكنها بدأت تقصّر في متابعة التطور المتنامي في السنوات العشر الأخيرة. وإذا تطرقنا إلى قضيّة الشكل عندنا نجد أن عددا لا بأس به من الدارسين يرون أن القصّة العربيّة, وينسحب كلامهم على قصتنا, راوحت بين ثلاثة مناهج هي:
1. منهج العين الرائية الفوتوغرافيّة, وهي أقرب إلى الكتابة السينمائيّة.
2. منهج العين الباطنيّة/ فاعليّة الذاكرة/ المونولوج أو ما يسمى تيار الوعي بحيث تصبح الكتابة قريبة من الكتابة الشعريّة.
3. منهج ثنائي تقريبي يجمع ويوائم بين الفاعليتين: العين والذاكرة بحيث تصبح الكتابة القصصيّة كولاجا أو إنتاجا من اللغات والأصوات.
وللموضوعيّة أقول أنّ قراءة متأنيّة لمعظم ما كتب عندنا من قصص مثيرة تشي بأن الأغلب يقع ضمن الخانة الأولى, وان تجاوزنا القليل إلى الثانيّة وأقل من القليل إلى الثالثة.
وبالتالي, إن ما قلناه رغم قصره ورغم حاجته إلى البراهين- التي تمنعنا المساحة المخصصة عن ذكرها- يلخص وضع قصتنا من الأربعينات وحتى التسعينات شكلا ومضمونا.
والسؤال الذي يرتفع الآن: ما هو مصير هذه القصة؟! هل ستظل تراوح مكانها؟! بمعنى ما مستقبلها؟ وكيف نريد لها أن تكون؟ علما بأن المجتمع قد تغير والظروف قد تغيرت يستمد هذا السؤال شرعيته من الفرضية الأولى التي طرحناها في بداية هذا الحديث والتي تقول إن صورة البنى والأشكال الأدبيّة متشارطة ومترابطة مع صيرورة البنى والأشكال الاجتماعيّة.
عن مستقبل قصتنا إذن, عن تصورنا لها, أو الطموحات التي ترى إلى قصّة جديدة تواكب المستجدات وتعكسا سيكون الحديث في المقال القادم.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
drhbolus@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق