الاثنين، ديسمبر 22، 2008

شارع في كركوك: مجموعة قصصية لـ نصرت مردان




عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة، بالتعاون مع مؤسسة أدب فن في هولندا؛ صدر للأديب العراقي المقيم في سويسرا "نصرت مردان"، مجموعته القصصية "شارع في كركوك".
تقع المجموعة في 192 صفحة من القطع المتوسط، وتضم ست عشرة قصة قصيرة، بالإضافة إلى ثلاث عشرة قصة قصيرة جدًا جمعها المؤلف تحت عنوان "قصص برقية".

عن المجموعة يقول القاص والتشكيلي فاضل ناصر:
(نصرت مردان في جديده القصصي، ينظرُ إلينا في استراحةِ الهدنةِ القصيرة من ثقبِ رصاصةٍ في ذاكرة الأيام التي أصابت كينونَتَنا الاجتماعية والسياسية في جغرافيةِ وجودِنا وألمنا الإنساني. إنه يسبُر ويوغلُ عميقًا في تحولاتنا ليشاطر ملامحَنا وتماهينا مع الحياة اليومية في أجلى صورِ الكشف والائتلاق، إنه يُقاربنا خلسةً، وبكلِّ تأنٍ وهدوء، وبلغةٍ واقعية وحسيّة مشحونة بالدلالةِ والترميز والإيحاء والإيجاز، وببناءٍ فنيٍ محكم لعالمٍ مُدهشٍ وأخّاذ من جهة، خانق ومقموع من جهةٍ أخرى، وهو في كلِّ هذه التضادات والمفارقات الحيّة يقدّم لنا ملامحَ بشرية نعرفها بدقة، بَيْدَ أننا نكتشف بغتةً بأنها ملامحُنا جميعًا وبدون استثناء.

وبغضِّ النظر عن خلفيةِ بعض مشاهده القصصية التي تشرخُها القسوةُ وأزيزُ الطائرات والبارود، فإن أغلبَ قصص المجموعة يرصدُ شرخَ الزمن في المحيط والبيئة والإنسان تمامًا مثل المرآة العاكسة التي تتحدثُ عن تحولاتِ زمنِ العشقِ في دواخلنا، وعن اقتحامنا للزمن الراكد فيها والذي زلزله الراوي من أعماق صوته الرافض والمُصادَر.

إن هذا الابن الوفي للعراق بمجموعته القصصية هذه قدم لنا تأسيسًا واستشرافًا أدبيًا وفنيًا لمستقبل القصة العراقية المعاصرة بعيدًا عن السرديّة القاتلة والتزويق الفَجّ الذي أجهض أغلبَ النصوص القصصية العراقية لأدباء الداخل والخارج طوال عقودٍ أربعة. لقد أتت هذه المجموعة بدونِ التباس، واضحة، وعارية إلا من غلالةِ الواقع الحي والشفيف وهي تغوص في أديم مسراتنا ومواجعنا........).

• • • • •

نصرت مردان

• أديب ومترجم عراقي مقيم في سويسرا.

• صدر له :
- عمت صباحًا أيها المساء : قصص. بغداد، 1986
- مطعم القردة الحية : مسرحية للكاتب التركي غونكور ديلمن (ترجمة). وزارة الإعلام، الكويت 1989
- روايتا (الصحيفة) و(لو يقتلون الثعبان)، للروائي التركي يشار كمال (ترجمة). دار الشؤون الثقافية العامة،
بغداد 1990
- رواية (محمد الفاتح) للروائي التركي نديم غورسيل (ترجمة)، منشورات الجمل، ألمانيا 2001
- حانة الأحلام السعيدة : قصص، منشورات ضفاف، النمسا، 2003
- شارع في كركوك : مجموعة قصصية. شمس للنشر والإعلام، القاهرة 2008م


- البريد الإلكتروني:


nasrat.mardan@bluewin.ch


• • • • •

رجل عديم الأهمية

من المجموعة القصصية "شارع في كركوك"

كان على مائدة الصباح، يحرك ملعقته بهدوء في كوب الشاي، متابعًا كعادته قراءة الصحيفة الصباحية، اعتاد أن يمر مرور الكرام على الصفحة الأولى وصفحات الأخبار السياسية، التي يعرف بتفاصيلها من أخبار الفضائيات، كانت الصفحة الثقافية هي ما تهمه، وكان أيضًا يهتم بقراءة نصوص الأسماء الشابة أكثر من الأسماء المعروفة، التي كان يعرف منذ السطر الأول؛ بسبب طول متابعته؛ ماذا سيقول صاحبها، وأين سيستعمل الفارزة والنقطة.

ارتشف رشفة من الشاي، فراق له طعمه، عاد يقلب صفحات الصحيفة بملل ظاهر، إلى أن انتبه إلى خبر نعيه المنشور في زاوية ما قبل الصفحة الأخيرة، كان الخبر يشير إلى مقتله أمس على يد مجهول!.
وضع الصحيفة جانباً، ملتفتًا إلى زوجته التي بادرت للحديث، وكأنها تعلم مسبقًا ما سيسأل عنه:
- كنتَ جالسًا صباح أول أمس على نفس مقعدك، جرى كل شيء بسرعة البرق، أجل كنتَ هنا، ترتشف شايك من نفس الكوب، آه لكم كنت رجلاً رائعًا يا حبيبي!
أخذ يعيش لحظات محرجة حار في تفسيرها، الصحيفة وزوجته تتحدث عن موته، بينما هو جالس إلى جانبها، يرتشف الشاي ويقرأ صحيفته، والأغرب من كل ذلك أن زوجته تحدثه بهدوء، وتتقبل بهدوء جلوس رجل ميت إلى جانبها يرتشف الشاي ويقرأ صحيفة!

كانت تبدو وكأنها تقرأ بحر التساؤلات المتلاطم الأمواج في أعماقه، استمرت تسرد له ما جرى،و هو يصغي إليها بهدوء:
- كنتَ سعيدًا في ذلك اليوم، فقد كنت لا تزال تعيش فرحة نشر القصة التي ظللت تطارد تفاصيلها في مخيلتك كما أعلم طويلاً، لم تكن ولادتها على الورقة يسيرة، عندما انتهيت منها أخذت تصرخ كالأطفال: انتهت، انتهت يا ميسون! كنت أظنها لا تنتهي أبدًا، لقد لفظتها أخيرًا من مخيلتي وروحي.
شاركتك الفرحة واحتضنتك بفرح، فلم يكن لي من لحظات أسعد مما أراك فيها بعد انتهائك من كتابة قصة، على عكس المقالات التي تكتبها للصحيفة التي كنت تعمل فيها على مضض.
هرعت بعد ذلك كما هي عادتك، وأحضرت قنينة النبيذ وأعددت كأسين إحداهما لك والأخرى لي، لقد كان ذلك احتفالاً اعتدنا عليه عند انتهائك من كتابة كل قصة.
أنهيت القصة وكتبتها دون أن تفكر إذا ما كانت ستنشر أم لا، فأحيانًا حتى الصحيفة التي كنت تعمل فيها، كانت ترفض نصوصك بحجة خروجها عن المألوف السياسي أو الاجتماعي في مجتمعنا، مجتمعنا المهترئ المليء بالقبح والقيح، كما كنت تسميه دائمًا.

ارتشف رشفة أخرى من الشاي وهو ينظر بصمت إلى زوجته التي ستأتي على ذكر موته. مجت زوجته نفسًا من سيجارتها، ثم واصلت حديثها بنفس الهدوء:
- كان أكثر ما يؤلمك، ازدواجيتك ككاتب، كنتَ تجد نفسك في القصة، بينما كنت تكتب بتأفف العمود اليومي في الصحيفة، والذي كنت تكتبه من أجل خبزنا اليومي، كنت تصف كل مقالة بأنها بلا طعم ولا رائحة، وكأنما هي مكتوبة بقلم شخص آخر، بينما كنت تكتب قصصك بحماس وانفعال، كم مرة ارتشفت دموعك التي كانت تنهمر وأنت تقرأ لي بعض قصصك بصوت متهدج من الانفعال!
كنت معتزًا بقصتك الأخيرة التي عجلت بنهايتك، ليتك لم تكتبها!

هنا خنقتها العبرات،وامتلأت عيناها بالدموع:
- كان بطل القصة متمردًا، يفكر بصوت عال، خلقته وسيمًا، يسخر من كل شيء حتى من نفسه، يحب أن يوقد النار ولا يطفئها إلا في اللحظات الأخيرة، عندما توشك أن تأتي على كل شيء. خلقته يحب الأرصفة والمهمشين المسحوقين من البشر، يجالسهم ويسامرهم ويتبادل معهم كؤوس العرق.
وسامته واعتداده بنفسه أهلته لكي يدخل المجتمع الراقي، مجتمع أصحاب الكروش المنتفخة، والنخبة التي تحيط بالنظام كما يحيط المعصم بالساعد.
لقد جعلته يؤمن أنه بالولوج إلى هذا العالم الذي تتحكم فيه الأنانية والمصلحة الشخصية والانتهازية، يمارس نوعًا من الانتقام منه في نفس الوقت، كان يعده نوعًا من الانتقام، أن يدخل حافٍٍ مثله عالم الأثرياء والنخبة والرفاق، أن يجلس معهم على موائدهم، يأكل من طعامهم ويتباسط معهم في الكلام والشراب، ثم يأتي بعد ذلك إلى أصدقائه في الأرصفة والحانات الرخيصة أصدقاء وعالمه السري، ليتقيأ كل ما دخل معدته ثم تبدأ منادمته معهم حتى الصباح مع كؤوس العرق الرخيص.

أجل لقد جعلت بطلك وسيمًا، وجعلت الخير والشر يجري في أعماقه، لكنه لم يكن يجد شرًا في أن يولج إلى عالم غير عالمه ولم يكن يرى نقيصة في أن يكذب عليهم ويتملقهم ويمارس الانتهازية معهم، كان يرى ذلك مشروعًا من اجل أن يصبح نجم الحفلات السرية التي كان يقيمها الرفاق والطبقة الطفيلية.
هناك اكتشف كم من سافل وجبان يتحكم في مصائرنا وحياتنا، اكتشف بألم وحرقة، أن مصيره ومصائر الآخرين مرتبطة بكلمة تنطلق من شفتي هذا الداعر أو أولئك المكرشين من أصحاب النياشين والأوسمة، الذين انقلبوا ما بين ليلة وضحاها من عمال أميين ومنبوذين ونكرات إلى مسؤولين، لا لشيء إلا لتمكنهم من ممارسة القمع والقتل بدم بارد.
لكنه اكتشف أيضًا كيف ينهار هؤلاء المنفوخين بنياشينهم أمام سيقان النساء وصدروهن العامرة، فيلثمون تلك السيقان حتى لو كانت صاحباتها من بنات الهوى أو غجرية بلهاء.
ازدادت كمية العرق التي كان يتقيأها كل ليلة قبل أن يجلس مع أصدقائه في الحانات الرخيصة أو الأرصفة النائية عن العيون وحركة السيارات.

في ليلة ألقوا القبض على بطلك وقادوه إلى قبو شبه مظلم، قالوا إنهم يعرفون عنه كل شيء، يعرفون أنه يكره النظام ورموزه.
قابل الأمر بسخرية:
- وهل أنا أول من يكره النظام؟
وصف أصدقاءه في العالم السفلي من المهمشين والمنسيين، بأنهم هويته الحقيقية،وأنه ينقي معهم معدته وروحه من الأدران.
نظر إلى بطلك أكبر الحاضرين رتبة، نظرة فاحصة، عميقة ثم طلب من الجميع الخروج من القبو.
قال لبطلك:
- نحن نعرف عنك كل شيء وخاصة علاقاتك النسائية مع زوجات بعض الرجال المهمين، التي هي ليس خافية علينا، كيف استطعت إغوائهن يا كلب!
أراد بطلك أن يلقي عليه خطابًا، فلم يتردد، قال بهدوء:
- المرأة تملك جسدًا وأحاسيس ومشاعر مثل مشاعركم، إن لم تكن أرقى وأعمق، من مشاعركم الشهوانية التي تطفئونها مع الساقطات.
ثم أضاف:
- لقد أسمعت تلك النساء كل ما يودن سماعه من كلمات الحب، كل ما يتشوقن إلى سماعه من أزواجهن الغارقين في المتع الرخيصة.

صوّرتَ الضابط في القصة وكأن مسًا من الجنون أصابه في هذه اللحظة، حيث أخذ يصرخ بأعلى صوته طالبًا من فريقه الذي أخرجهم من القبو بالعودة.
- تعالوا وأدبوا هذا الخنزير!
انهالوا عليهم بالضرب واللكمات، إلا أنه طلب منهم التوقف، كان يريد أن يهينه، فالإهانة أحيانا كما كان يعتقد أكثر مقتلاً من التعذيب،
صرخ بهم:
- اخلعوا ملابسه!
خلعوا ملابسه قطعة قطعة، لم يبق ما يستره إلا لباسه الداخلي.
صرخ بهم ثانية:
- جردوه منه أيضًا!
انتزعوا منه القطعة الأخيرة، استعد الضابط ليضحك ويملأ مع فريقه القبو بالضحكات، لكن بطلك أجاب بهدوء:
- بدلاً من ضحكاتكم الداعرة، أسالوا أنفسكم لماذا أنتم فاشلون مع زوجاتكم، كفشلكم الذريع في إدارة الدولة؟

كان يعلم بالتفاصيل لذلك لم يقاطع زوجته بل تابعها بصمت واهتمام وكأنما تروي له قصة كتبها غيره.
تناول رشفة أخرى من فنجان القهوة، أخذت زوجته نفسًا من سيجارتها وواصلت الحديث:
- طبعًا لم تنشر القصة في الصحيفة التي كنت تعمل فيها، بل نشرتها في إحدى المجلات البيروتية. قرب الفجر حضر زوار الفجر أمس، وأخذوك معهم بكل فظاظة، ذهبت ولم تعد.
اعتبروا قصتك مستمسكًا ضدك، ودليلاً على معاداتك للنظام، لا أدري ماذا قلت في التحقيق، لكن الذي أنا واثقة منه، هو أنك لم تتحمل التعذيب، نزفت كثيرًا حتى الموت.
أحضروك جثة هامدة قرب الفجر أيضًا، وكأنهم يخشون إحضارك في ضوء النهار.
قالوا لي: لا عزاء، هيا رافقينا إلى المقبرة لدفنه دون مشاكل.
كنت على نفس المائدة يوم أول أمس، تخطط لكتابة قصة جديدة، كنت مهووسًا بالقصة.

لم يعلق على كلام زوجته، ترك المائدة وبخطوات وئيدة وبطيئة، دخل غرفة نومه وامتد على سريره ثم غط في نوم عميق.

ليست هناك تعليقات: