الاثنين، ديسمبر 22، 2008

حوارٌ مع أبي

محمد محمد على جنيدي
كان أبي ابناً لإحدى الطُّرق الصُّوفيَّة وكثيراً ما كان يحدث عند عودتي للبيت وأثناء الثلث الأخير من الليل وأنا أفتح عشوائيّاًَ إحدى غرف الشَّقة يصرخ مُنفزعاً بشدَّة حتَّى يكاد يُغشى علينا معاً وبعد أن نهدأ كنتُ أسأله: ما الَّذي يحدث يا أبي؟!، فيُجيبني مُبْتَسِماً: يا بُنَي.. هذه هي الخُلْوَة، وفي دخولك المُفاجئ أشعر كأنَّكَ تستحضر روحي المسافرة لبارئها فجأة، فيحدث مِنَّي ما تراه - هكذا- كان يعتقد ويُعَوِّلُ على هذا الاعتقاد كُلَّ ما يصدر منه في حياته، كما أنَّه كان لي تحفظات تَخُصُّني على هذه الأفكار وهذه المعتقدات.

وذات يومٍ.. دعاني للسَّفر معه بقرية تُدْعَى ميّانة بشمال صعيد مصر - وذلك - لحضور أُمسية دينية أُعِدَّت احتفالاً بشيخ طريقته والَّذي من خلالها سوف يُلْقِي محاضرة ما - المهم - توافدتْ على مسجد القرية والطُّرقات المؤدِّية إليه أُلوف البشر - كُلُّهم - يُقبِّلُون كَفَّ الشَّيخ ويتبركون به !! حتَّى أتى دوري، فنظرتُ إليه، فرأيتُه رَجُلاً قد غزا الشَّيبُ لحيتَه تماماً.. لا تتجاوز عيناه موضع سجوده.. مُمْدِداً يده لمن شاء تقبيلها!! .. خفيف البدن تطمئنُّ الْعيون للنَّظر إليه.. أعتقد بأنَّه قد تجاوز الثَّمانين من عمره ببضع سنين - ولكنَّني - أمسكتُ بيده الرَّقيقة وهَزَزْتُها فقط مُبدِياً له استيائي من هذا السُّلوك لأهل القرية، وأيضاً عدم رضائي لقبوله تقبيلهم يدَه - هنا- رفع الشَّيخ عيناه في عيني لحظة ليراني- ولم يُعَقِّبْ - ثم أخذتُ مكاني بآخر المسجد بصعوبةٍ بالغة وجلستُ فيه متحفِّزاً لسماع محاضرة الشَّيخ قائلاً لنفسي: ما الَّذي سوف يُضِيفُه هذا العجوز، وبعدها التزم الحُضور بالصَّمت تماماً، وبدأ الرَّجل حديثه قائلاً: بسم الله - هنا - أخذتني غفوةٌ طويلة لم أفق منها نهائيّاً إلّا وهو يختتم محاضرته بقوله: والسَّلام عليكم ورحمة الله، فتَمَلَّكَتْني الدَّهشة، وجُنَّ جنوني، لأنَّني قبل قليلٍ كنت في كاملِ وعيي ونشاطي وعلى أهبَّة الاستعداد لسماع الشَّيخ، فانطلقتُ مُنْدَفِعاً نحو والدي لأستفسر منه وأُحادثه.

فقلت له: كيف قَبِلْتُمْ بتقبيل كفِّ الشَّيخ وكيف قَبِلَ منكم هذا؟!

قال: نحن نُقبِّلُ بركتَه وعلمَه، وهو لكبر سنِّه لم يستطع مقاومتنا، فأهْدَى لنا يدَه.

قلت: أتعتقدون بنافعٍ لكم مع الله وهو النَّافع الضَّار؟!

قال: حاشا لله!! ما أحببناه إلّا لقربه مِنْ مَنْ انتهتْ إليه أشواق المُتَحابين فيه.

قلت: أتستعينون بعبدٍ وربُّنا أقرب إلينا من حبل الوريد؟!

قال: بل نتوسَّل لمولانا العلي القدير بعباده الصَّالحين، كما نتوسل بصالح أعمالنا وصلاتنا ودعائنا.

قلت: إذاً هي الوساطة يا والدي!!

قال: بل هو طلب اتِّباع المقرَّبين .

قلت: وما تفسيرك لغفوتي وأنا في كامل نشاطي وتَحَفُّزي، حتَّى أنَّني لم أسمع من محاضرته سوى ( بسم الله.. والسَّلام عليكم ورحمة الله ).. فتبسَّم والدي وقد وضع يدَه على صدري.

قائلاً: هذه كرامةٌ أُخرى قد أجراها الله على يديه.. أعْرِفُ يا بُنَي قدرَ غيرتِك على دينِك، ولكنَّني أدعوك لمزيدٍ من التَّواضع لربِّك.. وأحببْ فيه مَنْ أحبَّكَ يُحِبُّك.. واخفض جناحك لمن والاه .. يُعِزَّك .. وليَكُن نصب عينك وأساس علمك قوله سبحانه وتعالى ( فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) صدق الله العظيم.

فهزَزْتُ رأسي مُسْتَغْرِقاً في دهشتي راضٍ بمنطق والدي، قائلاً له: بحقٍّ والله.. ( فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) صدق الله العظيم.

ليست هناك تعليقات: