الثلاثاء، ديسمبر 30، 2008

قلوبٌ تتماثل للأشواق

سامي العامري


حديث مع ربة الشفاء
------------------
لَهَفاً أعادَهمُ الشَّذا لعرينِهِ
وتسابقتْ لفِخاخهِ الأكبادُ
يا لَلرياحينِ الغَداةَ وقد سَعَتْ
بضَحيَّةٍ , إقرارُها مُعتادُ
وانا الضحيَّةُ ما أضاءَتْ أنجُمٌ
واستعجَلَتْ أعيادَها الأعيادُ !
ما لي أراكَ موَزَّعاً يا خافقي
بينَ الأُلى ... أتشُوقُكَ الأصفادُ !؟
فيُجيبُ : إني قد فُتِنْتُ بنجمةٍ
حَلَّتْ هنا وسماؤها بغدادُ !

-------------


لكي ينتبه الجميع الى عالم هائل من السِّحر واللهفة والتجدد ونبوغ المساءات , كان يكفي الربة أن تسمح لنغمة من صوتها العميق الندي أن تموج بين أروقة المستشفى للحظاتٍ غير أنها آثرت بموازاة ذلك أن تبعث أيضاً بطائر ضوئيٍّ أخضر لينقر النوافذ والأبواب ويجوب في الداخل ثم يحلق خارجاً , متسرباً من بين أنامل الهواء في الممرات الى الفضاء المحيط بالبناية مرة أخرى ,
بعد أن فُتحتْ الأبواب فتوفز البعض وفُتحت النوافذ فأطل النزلاء برؤوسهم منها الى الغابة المجاورة كان أول الخارجين قدامى المرضى من أصحاب العلل العقلية النفسية والقاطنين في البناية المجاورة فقد تدافعوا بحماس ودهشة بل وغبطة مُنقادين بقوة مجهولة الى الخارج .


تنفُّس
*****
بعد أن عزفتُ صمتَ الدقائق
ظللتُ أدهنُ جِلدََ الهواء بالخدوش
ذلك لأني أريد النفاذ , المرور كنحلةٍ
أو شمعةٍ أو قطارٍ بطول غيمة أطلسية
أو حتى بطولِ سَمَكة!
------------

شكراً جزيلاً لك ولكني أحب أن أسمعه منك , وفعلاً الأدوية والطبابة والعلاجات ضرورية
وهي عديدة غير أني أعتقد أنَّ أهمَّها هو فهم حياة المريض الداخلية أكثر فهذا يزيد من الخبرات الطبية ويعطيها دفعاً وذلك للنفع العام وإذا أردتم الحق فأقول لكم أنكم كبشرٍ , جميعكم مرضى ومصابون بعلل شتى مع فارق أنَّ مَن يحس بمرضه هذا ويدركه هو فقط المعافى ... هكذا بدأت الربة حديثها اللبق في جمعٍ من الأطباء والمرضى وغيرهم وذلك في حديقة المستشفى وكان حديثها جواباً عن سؤالٍ لأحد المرضى الشباب حول جدوى العلاجات وكنتُ قد نزلتُ للتو .
هنا قال أحد الأطباء بشكٍّ : عفواً باعتبارك مثالاً للصحة والسمو الروحي والعقلي ورفعة المنزلة أسأل مقامك العلوي ما اذا تحدثُ او حدثت عندكم حالاتٌ قريبة الشبه ببعض حالاتنا ! فاذا كان هناك نقص او خلل ما في مقدرة الإنسان العقلية او النفسية ألا يبدو هذا أن في الكون ما يستوجب إعادة النظر فيه !
قالت وهي تبتسم ببهجة : لا أيها العزيز كوننا او عالمنا هو عالم نقاءٍ تام , وصحيح أن طبقات كونية مُعيَّنة لامسها تلوثٌ أرضي غير أننا فوق هذه الإنعكاسات وهي إن تزايدت وتفاقمت فلا تؤذي سواكم أنتم الذين تعيشون وتعملون على الأرض , إنتم مع هذا ماضون في هَديٍ او بصيرة ولكنها تراتبية .
هنا صاح أحد المرضى وكان واقفاً في الشرفة الطويلة ويده على مسند خشبي وعلى جانبيه العديد من منتسبي المستشفى : أيتها السماوية الموقرة , النظرةُ المباشرة الموروثة تعطل اكتشاف مكامن القوة والجمال في الأشياء ولذلك قد نحزن أحياناً بسبب عدم مشاركة المحيط لنا بعض هذه المباهج وعدم انفعاله بسببها ... أقول هذا لك لأني بدأت أحس بالحنين لعالمي البسيط المألوف حيث كل شيء يفهمني وأفهمه وكم كنتُ أجد سعادة في ذلك فانا أعرف نفسي جيداً لهذا جئتُ الى رئيس الأطباء فقلتُ له بلطفٍ :
انا تعافيتُ تماماً بفضل عنايتكم اللطيفة المعهودة التي أشكركم عليها جداً والتي استمرت إسبوعين لذا فأرجو إنهاء أوراقي والسماح لي بالخروج الى البيت .
فقال لي انا افهمك ونحن سعداء بتحسن صحتك ولكني أعتقد أنك تحتاج الى ثلاثة او أربعة أيام أخرى , فشكرته وخرجتُ
ثم بعد أربعة أيام عدتُ له قائلاً : السيد الطبيب عفواً ها هي أربعة أيام مرت وحالتي الصحية في أحسن حال وأعتقد أني أستطيع الآن الخروج وعلى مسؤوليتي .
فأجاب :
نحن سنجتمع قريباً كلجنة طبية ثم نبتُّ بأمر خروجك .
ألا تعتقدين أن مثل هذا العمل سيؤدي الى الغرض المعاكس أي سيزيد من حالة المريض النفسية سوءاً ؟
قبل أن تجيب الربة أحسستُ بدافع عجيب للتكلم فانا الواقف تحت شجرة السرو القريبة من المشهد خفتُ لسبب لا أعرفه فأردتُ الحديث او التعقيب ولكني وجدت لساني لا يطاوعني وأخيراً إرتحتُ فانا أثق بالربة .
أجابت الربة : معقولٌ ووجيهٌ سؤالُك ولكن الصبر يأتيك بمنفعة كذلك لهذا أتمنى من رئيس الأطباء أن يردَّ رداً توضيحياً قصيراً .
فردَّ باحترامٍ جمٍّ : نحن نُوُلي مرضانا ومصابينا ثقة ولكن بحدود الممكن حتى نتأكد من أنهم يتكلمون بكامل لياقتهم العقلية وبعدها نجتمع فنقرر تركهم أحراراً في الذهاب الى أين يشاؤون او قد نعتقد بوجوب بقائهم لفترة معينة أخرى وهكذا , وهذه كما لا يخفى عليك مسؤولية وأمانةُ مهنتنا .
هنا قاطعت إحدى المجنونات المريضات قائلة :
صحيح ولكني أذكر إذْ كنتُ يوماً في إحدى المحطات فإذا برجل ضئيل الجسم يكاد يُغمى عليه بسبب الشحوب والبرد مرَّ من أمامي وهو يرتجف ناطقاً بعبارات فهمتُ من خلالها أنه يتبرم من عدم قبول المستشفى له في قسم العناية وسَمَعتُهُ يقول بعصبيةٍ قبل أن يواصل سيره المتداعي الحزين : حياة السجن أفضلُ من العيش هكذا ... وسؤالي هنا هو ماذا سيحدث لو أن هذا الرجل تجمد من البرد القارص فمات مثلاً ؟ او ماذا سيحدث لو أنه ارتكبَ حماقة فاختلقَ مشاجرة - او لو هو فعلها بسبب انهيار عصبي - مع شخص ثانٍ فجرحه عميقاً او او او ..
ثم هل أن رفضهم له في البقاء في المستشفى لفترة حتى يُنظَر في حاله , أقلُّ ضرراً مما لو دخل السجن ؟ وبعد ذلك كيف يمكن أن يُترك هكذا إنسانٍ طليقَ اليد فيما ذهنُهُ ما زال غير صافٍ ليتعاطى مع الأشياء بشكل طبيعي ؟
أجابت إحدى الطبيبات من شرفة البناية :
كل هذه التطورات الممكنة نحن نعرفها ونأخذها في الإعتبار ومن المؤكد أنَّ هناك لَبساً ما في هذا الموضوع المهم ولكن في حدود محيطِ عملنا هنا لم تحصل هكذا حادثة منذ بداية عملنا قبل عدة سنوات .
ومن الشرفة كذلك انبثقَ صوتٌ بسيط بريء قائلاً : أيتها العذبة كأباريق العُلى , انا عاملة تنظيف هنا وما يشغلني هو أني لابد أن أعمل ولكني في كل مرة أراني في العمل الذي لا أرغب به , فعلى مَن يجب عليّ أن أحقد !؟ أعلى الناس , أعلى الدنيا , أعلى نفسي ؟ ولكن المشكلة هي أن الحقد لا يجد له طريقاً الى قلبي .
أجابت الربة : إنك أسميتها مشكلة , وفي عرفي أنها مشكلة جميلة وفيها معنى انتصارك وسعادتك الداخلية , سعادتك أراها انا ساطعةً عندك ففتشي عنها دقيقاً .
هنا تكلم أحد المجانين الشبان المرضى العرب والذي يبدو أنه استعاد ذاكرته وتوازن عقله فقال : أيتها القوة الحانية أقدم لك شكري الكبير على كرمك الذي لا أنساه ,
انا طالبٌ في هذه البلاد منذ عامين وقد تعرضت لحادثة مرور تسببت لي بعدة إهتزازات في الدماغ , كنت قد نويتُ إكمال دراستي في بلدي
وبالفعل ذهبتُ بأوراقي وشهادتي الى الجامعة وفي الطريق حيث كنت جالساً في مقهى سألني شيخ فاضل :
يا ولدي هل أنت طالب جامعي ؟ فأجبته باهتمام ومودة : لحد الآن لا , غير أني آتٍ اليوم لهذا السبب وتحديداً لدراسة الفلسفة .
فقال لي : آخ فلسفة ! إسمع يا ابني أَصدقْني القولَ ,
مِن الأفضل لك أن لا تفعل ذلك هنا فانت سوف لا تتعلم منهم بعد الدرس وسنوات التحضير والتعب والسهر عدا حكمةً واحدة .
فسألتُ باستغراب وما هي يا شيخي الجليل ؟
فابتسم ومسح لحيته وقال :
الحكمة الخالدة هي التالي : وقف رجُلان على مسافة من أرنبٍ فسأل أحدهما الآخر أخبرْني هل هذا الحيوان ذكرٌ أم أنثى ؟ فاختلفا لوقت غير طويل ثم رد الثاني على الأول قائلاً : بسيطة , نرمي عليه حجارةً فإذا هربَ فهو أرنب وإذا هربتْ فهي أرنبة !
إسمعْ كلامي أيها الشاب إرجعْ واجمعْ ما تستطيع من نقود ثم سافرْ وادرسْ هناك فأرضُ الله واسعة .
ثم هناك علة أخرى شجعتْني على السفر .
وهي تذكُّري موقفاً محيراً في فانتازياته قبل سفري بسنوات وهو :
كان زوال الإتحاد السوفيتي السابق فرصة مثالية لكل عربي يدّعي الإسلام لأن يتشفى قائلاً إن انهيار هذا الإتحاد او كتلة البلدان الشيوعية السابقة لهو دليلٌ آخر على صدق نهجنا الإسلامي !
وهنا لكزَهُ مجنونٌ آخر كان يقف الى جواره والذي يبدو أنه يعرفه بطريقة ما , وعنَّفه بعصبية ولكن بصوت خفيض بالقول : هل جُننتَ !!؟
الربة تنتظر أسئلة عن أمور كونية مصيرية مطلقة او مهمة على الأقل وانت تتحفها بالحديث عن هذه التفاهات !!
صاحت الربة بجارهِ وهي ترسم على فمها ابتسامةً مشرقة : دعْهُ لأجلي , دعه ياابنَ الأرض ووارثَها , دعه يتمم كلامه .
هنا راح المجنون الأول مستطرداً :
شكراً لنُبلك , ثم بات هذا ديدن كل مكابر وأحمق وفاشل ومغامر ومراهق
قالت الربة مؤيِّدة كلامه راثيةً لمن عناهم : هذه المخلوقات التي حالت بينها وبين ما يُفترض أن تمتلكه من بقيا روح شفافة ووعي مرهف , طبقات سميكة من الجهالة والتي لا تمسك من الحقائق إلا قشورها ولا تفقه من دينها إلا ما يبرر لها العيش في كهف من الحسيات ولا تفقه بالتالي إلا الفروض الببغاوية ثم لترتعَ بعد الموت في عالم من الدسامة الفردوسية !
فعقب المجنون الأول : وقد سمعنا ما هو قريب من هذا أيضاً عن الدين والتقوى من زعيم عربي هو المغفور له ...
لا تجنِّني معك ,
قال له مرة أخرى زميله الذي الى جواره : مَن لي بحفنةِ صبر !؟ لا تَقلْ المغفور له ...
طيب وماذا أقول ؟
الصحيح أن تقول ( المحفور له ) !
قَبل إخراجهِ من حفرته ومن ثم شنقهِ !
صحَّحَ للربة خطأ عبارته معتذراً وشكرَ زميلَه .
سألتُ نفسي وقد خطرَ أمام عيني شريطُ الماضي هناك في تلك التربة : أحقاً تستحق الحياةُ وفق هذه المقاييس كلَّ هذه الفواجع والرذائل ؟
كم مقززةً حالةُ الصحو أحياناً !
قالت الربة وهي تحدثني بروية : اذا كان هم السياسي هو الجاه فهذا بحد ذاته ليس فيه ضررٌ ولكن عليه أن يجيب على السؤال التالي :
كيف أجعل تطلعاتي الشخصية لا تتعارض مع مصلحة وطني ؟
او بتعبير آخر , عليه أن يطرح على نفسه السؤال التالي : كيف أجعل نموَّ وطني وازدهارَهُ عماداً لِما أريد من مالٍ ومركز ؟
ثُم وجدتُها تعبِّر بحكمة جديدة : دعها تتخفى وراء واجهاتٍ هزيلة الآن ولكنْ ما كلُّ سمينٍ شَرِهاً كما أنه ليس كلُّ ضعيفِ بُنيةٍ متواضعَ الشهية !


ولمّا أصبح الصباح
***********
أُناسٌ مُتْرَفون يَضطجعون
على أرائكَ طويلةٍ كَصَبْر أيوب
ما أنْ حصَلَتْ غارةٌ جويَّةٌ
حتى كُرِّسَ لحمايَتِهم خمسون مَلجأ
ولمّا أصبح الصباح
وسكَتَتْ شهرزادُ عن الكلام المُباح
كان نِصفُ المدينةِ
حُطاماً يُنْعِشُ فُتوّةَ الصُحُفْ .


----
فرانكفورت 1991

ليست هناك تعليقات: