خالد ساحلي
النور تراه، الضياء الساطع يبهرك، من زمن ألفت الاقتراب من تلك الفتحات، تقترب أكثر لترى خيوط النور المخترقة الظلام الدامس، الظلمة تحفّك من كل جانب وأنت لا تهتدي لمهجتك المفقودة، تقترب أكثر لتمد بصرك الدافئ بساطا قدامك، البحث عن أشيائك الثمينة، تدخل فضاء الضوء حين ولوجك خيوط النور، يتوهج أكثر، يتوهّج يزداد نوره. أحسست بصرك يكاد يحترق، المكان ازداد اتساعا، بدت الظلمة نورا أو تكاد تكون نورا، تحوّلت فتحات النور مع الوقت إلى فتوحات. ألف المكان مكانه شعرت به يلّفك كحزام، حزام من نور لا نار، النار تتحول إلى نور ياللمفارقة، من لا يملك نارا لا يملك الضوء.حيث أنت في الوقوف حيث الوقوف لا يتعدى حد قدميك، لكنه الاتساع المنفتح. بارد هو المكان، بارد كمخالب وحش كاسر لا يشبع. وهذه الجدران الصامتة تحمل الحروف الصامتة، الأسرار الصامتة كما أنت.جدران ثلاثة لا غير، الجدار الرابع بوابة حديد من قضبان؛ سلسلة كبيرة، الحلقة فيها بحجم المرساة، آه المرساة، لقد رست سفينتك من زمن.هنا في هذه الزنزانة اللعينة رست سفينتك، لم تكن لتشبه سفينة نوح و لا سفينة المساكين في سورة الكهف ولا تشبه سفينة القرصان صاحب الرجل الخشبية و اليد الفولاذية على شكل علامة الاستفهام. ليس فيها الرجال الذين ماتوا من أجل الصندوق الكنز. الجدران الأربعة تكوّن الغرفة و الجدران الأربعة تكوّن البيت. هنا الأبواب كثيرة و المفاتيح فيها لا تتشابه ومع هذا صار صوت الأقفال مألوفا لديك. السجناء ليسوا كلهم لصوص، هناك من بينهم من وجد نفسه داخل هذه الغرفة الباردة و القيد البارد في يده أيضا.أنت الآن تتمتع بهذا الفضاء الواسع الذي لا يملكه غيرك. الكتب التي تقرأها حررتك من أسرك وأنت الحر الأسير كنت. قالها لك الحارس الخشن ذو الوجه القبيح و الأنف المفلطح: ــ أهلا بك في الجحيم، أهلا غير مرحب بك.
أخذتك الرهبة بادئ الأمر، ارتجفت أوصالك، لم تعتقد يوما بأن الجحيم تدخله الملائكة ولا الشياطين تدخل الجنة وتبشّر بالخير ووحدانية الله. لم تطلب وقتها غير الكتب وكان كتاب الله أول ما تطلبه، كانت السخرية داخل هذا السجن كما خارجه، الكل يسخر من الكتب وحاملها حتى و لو كانت الكتب المقدسة.أعتدت على هذا الضوء المنبعث من هذه الفتحة كم تشتاق لهذه اللحظة الولادة.مخطئون هم حين يقذفون الشمس بالحجارة. لا أحد يتفكر في أمر الشمس أو ينظر في الآفاق التي أبدعت صورتها، هذه الأشعة الحية من الضوء. قد صرت إلى ما يشبه العبادة. هذا الطقس المتوحد فيه مع أفكارك.مخطئون نحن دوما لا نشعر بفيض الأفكار إلا حينما نكون في فم الهلاك أما في رحابة النجاة فلا نأبه لشيء. حين تفيض الأفكار تسكت اللهجات لا تصغي حينها للبشر و لو ملكوا كل اللغات . حفظت رقمك، رقم زنزانتك، أحب الأرقام لقلبك. حتى أنك قرنت هذين الرقمين بأحرف الأبجدية وجدتها ترّكب كلمة ضوء ونور. الكل هنا يتوق للخروج من السجن على عكس خروجك أنت، تنظر لعمرو ابن أبي العلاء في مقولته "كل شرف خارجية في أوله" . لا تتوق للقيان البشر المتشابهون كنسخ رديئة، كل النسخ الغير صالحة، مقرفة النسخة المعتادة المتسخة. خارج هذه الزنزانة خارج هذا السجن استحالة الحياة إلا بالفرار. بمرور السنين الطويلة تحررت بفضل الكتب تحررت وتنورت، أثبتت نفسك مرتقاها من قيدها المدمي، حرّرت عقلك أيضا خارج الإطار، مخضّبة كفك بحبر الورق.
ــ اللعنة عليك قارئ بائس، اللعنة عليك أيها النتن المتسخ بثقافته.
هذا الموال تسمعه مرات كثيرة في اليوم ومع هذا يحالفك الحظ حين تبدأ في التحايل على المساجين تجعلهم يألفون ما ألفت، استطعت إقناعهم بالابتعاد عن حلولهم السحرية، أخضعتهم لمنطق آخر، منطق الحرية والتحرر من هذا الوقت داخل السجن. السجن هو مرحلة داخل الوقت لا أحد يساعد الآخر إنما يخبره وهو يتدبر أمره. هكذا أستطاع السجين تلو الآخر بشق طريقه نحو الأفضل. هل بالضرورة السجن هو الأسر؟ لم تأتيك الرسائل مذ أقحموك في قضية لا تعرف بدايتها ، تباعد عنك الخلاّن ونسيك محبّوك لم يسأل عنك جيرانك، لا يأبه لك أحد ، تمنيت لو أن الكلاب كانت تجاورك ونسلك كان من نسل القطط وجذورك جذور ابن آوى، تمنيت لو لم تعرف أحدا. أتتك رسالة واحدة فقط ذاك اليوم، يطلب صاحبها التعرف إليك وهل يمكنه تولي مهمة الدفاع عنك، كان يدّعي الإيمان بقضيتك و بأنه بحث عنك كثيرا وتطلّب منه ذلك الوقت الكثير. يخبرك أيضا أنهم ظللوا له الطريق حتى لا يقتفي أثرك. يخبرك في آخر الرسالة أنه أجتهد وغالب اليأس حتى لقيّك. كانت رسالته مفعمة بالإعجاب و الحب وعبارات الحماس و الاندفاع، كان يسميك المثل فيما كان يكتبه و يرسله إليك.أعماه الإعجاب ووصل به الأمر لأن يسميك القديس هذا ما رآه هو. لكنك رأيت خلاف ذلك، كاتبك بأشياء كثيرة عن الحرية و حقوق الإنسان والتضحية، لم تكن لترد على رسالته ولم يكن لديك شك في أنه عميل سري حقير أو مخبر، لم تكن تظن أنها خطة يراد بها تلغيمك بقضية زائفة من جديد. الفخاخ ألفتها والعناية الإلهية تكشفها، لكنك خلاف ذلك قلبك يخبرك دون عقلك أن صاحب الرسالة رجل صادق يشبهك كما أنت في مثل عمرك. لم تكن لتقترح عليه تبادل الأدوار.ماذا لو أخبرته بعرضك في تبادل الأدوار؟ هو لا يعرف ما معنى كونه في وضعك، قد لا يتحمله ــ حين نكون في الاتساع يمكننا قول كل شيءــ هو لا يعرف الحرية التي يتكلم عنها بكونها مجرد وهم و خيال، الحرية المناضل لأجلها تشبه الفوضى. بعد الرسالة الأولى صارت تلحقك الرسائل الكثيرة، لم ترد على واحدة منها. ومع الزمن أهملت قراءة كل ما يصلك. لم تشأ شرح حياتك الجديدة بمصاحبتك شخصيات كثيرة وأشخاص لا يتغيرون كما أسمائهم. وتخويلك نفسك كل السلطات التي تملكها لتحكم بما تشاء و الأقدار التي بيدك إن شئت قتلت و أحييت. ترفع بها أو تضع كان بإمكانك حتى إقالة الرؤساء وإفقار الأغنياء وتسريح كبار المافيا من الخدمة. كل القصص التي كتبتها والسيناريوهات صارت داخلة في وقتك لا غير. الوقت وقتك. كبرت الضجة فيما هو متعلق بك، أنت لا تأبه لها تمنيت لو تركوك لشأنك فقد فوّضت أمرك للرب وحسبت أجرك عليه، تمنيت لولم يجعلوا قضيتك مطية لأطمعاهم وظهورهم على حساب اسمك وقضيتك.أنت تموت لأجل أشيائك الثمينة وهم يقتاتون من أغانيهم باسمك. لم تطلب منهم سماع الأغنية ثانية ولن ترددها معهم لأن كونفوشيوس لا يغني الأغنية مع الفرقة إلا إن كانت صادقة ومؤثرة. لم يتوّقع سجّانوك بتحويل المساجين مثلك مدمني قراءة ومدافعين عن الحق. صرت أخطر مما كنت عليه في الوقت الذي ظن هؤلاء منحوك حريتك أعدموك، لكنك اخترت الاختباء باحثا عن الدفء الذي كان يرسله ذاك النور من الفتحة المباركة، اختفيت في بعثة النور الجديد بعدما تبين لك استحالة الحياة مع هذه النسخ بعدما تبين لك أن الرسل حرّفوا الرسالة... اختفيت و لا أحد يعرف إلى أين مضيت و لم تبقى إلا الألسن تتكلم عن سبب سجنك المؤبد وحدك تعرف الذي لا يعرفونه انك قتلت أخا يشبهك ودفنته ووقفت عند قبره... هل تذكرتني؟ أرجو أن تكون قد تذكرتني و أنت تقرأ الآن جزء منك. قد كنت صاحب كل تلك الرسائل، أريدك فقط أن تعلم أني لا زلت اللحظة انتظر رسالة قد يأتي بها ساعي البريد تقول لي فيها كيف شعورك وقد فارقت فتحة النور المباركة... أعرف أنك ستقول أنني سجنتك بدل فك أسرك، اعتقد أني قدمت الخدمة التي يجب أن تقدم لبريء...
الجمعة، ديسمبر 19، 2008
الفتحة المباركة
Labels:
خالد ساحلي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق