الأربعاء، ديسمبر 31، 2008

الأراجيف

خالد ساحلي

قال الملك العظيم و ظن نفسه خالدا لا يفنى و ملكه لا يزول: " كيف لنا النسيان بأن لأعمارنا حدا تنتهي إليه؟ و ملكنا العظيم المبني على البطش والقهر و الجبروت وبأنهار الدم وليل المؤامرات سيزول أيضا؟ أينتفع به الآتي بعدنا ونحاسب عليه نحن من الرب؟ أم هكذا هي الممالك من عهد إلى عهد ؟ " نظر الوزير العظيم إلى جلالته و أحنى رأسه دلالة رضا على رجاحة عقل مولاه الملك ، ثم ما لبث أن أنحنى كليا حتى ألتصق بصره بسجاد الأرض وقال وهو راكع طاعة:" هو الملك يا مولاي كالنار يراها التائه ملاذا في ليل الصحراء المقفرة الباردة ، يراها خلاصا من عذابات الضياع، يرى فيها الدفء و النجاة من الذئاب الجائعة و الضواري الكاسرة والحيّات السامة .حتى إذا ما أقترب من أصحابها ومنحوه الأمان ، أطعموه وآووه بعد استعطافه ثم تأكد اطمئنانهم له ، حتى إذا ما تفتّحت عيناه شبعا بعد جوع هالك ثم رأى بعدها ما عند هؤلاء من مال و متاع وراحلة أجهز عليهم وانتزع منهم ما يملكون غدرا و بلا شفقة. نفسها النار التي قادته إليهم لا زالت مشتعلة مستعرة ثم نام قربها و قلبه البارد بالغدر لا يؤنبه ، لمّا غاص في بحر نومه أزعجته الكوابيس فأنقلب نحو النار حتى أحرقته فلا زال أثر الحرق ما عاش يذكّره بخيانته ومصدر ما هو عليه من نعمة ليست له. ووارثه لا يدري عنه شيئا إنما يعمل على المحافظة عليه ولو كان حراما كله فكذلك الملك يا مولاي". فهم الملك ما يرمي إليه الوزير ملمّحا ورد عليه: "أنت رجل لمّاح يا وزيرنا لكن كيف لنا أن نعهد بهذا المُلك حتى نحقن الدماء فلا تسيل كما سالت من قبل ، نجنب الناس الفتن و الهرج فلا تتعطل مصالح الناس فلا يخافون على أنفسهم وأموالهم؟ و رأيت أن أستشير الشيخ الحكيم جمال الدين فهو القادر تدبر أمر دعوتنا فكلامه مسموع وأمره مطاع، نأمره بجعل الخلافة في أبنائنا فلا نخاف بعدها مقتلهم أو خلعهم و يبقى ذكرنا بعد مـماتنا ما بقى المُلـك فيـهم" رد الـوزير:ــ سيرفض يعرف قد أخذنا الملك قهرا ؟
ــ نجبره فالوسائل كثيرة.
ــ الأمر ما يراه مولانا وانحنى طاعة ثانية وانصرف وقد رفعا الحاجبان رمحيهما وفتحا الباب الكبير المطرز بالذهب و عليه نقوش نسر وزخارف.
أمر الملك في طلب الشيخ الحكيم جمال الدين حين وقف بين يديه قال له: ــ أتدري لما أمرنا في طلبك؟
ــ لا أعلم وتمنيت لو منزلي أقصى ومسيري إليكم ألاف الأميال خير لي من دنوي لملك أو أمير.
ــ أستشيرك في أمر مهم يخص المملكة؟
ــ ربما لن تجد عندي ما يرضيك يا مولاي
ــ و كأنك تعرف ما نريده ؟
ــ لا أعرف لكن علمي بأمر الملوك لا يستدعون رجلا و لا يقربونه إلا إن كان في صالح ملكهم لا غير أما ما عدا ذلك فالكل للهلاك و لا يبالون.
ــ لا لا ، نحن نريد الأخذ برأيك السديد في أمر الفوضى التي بدأت تحدث في البلاد فلك عقل تعرضه و أدب تظهره في حلقة علمك.
ــ ما المطلوب منا ؟
ــ الدعوة لملكنا حتى يثبت .
قال الحكيم جمال الدين : أتريد النصيحة جارحة لا نفاق فيها أم تريدها عسلا فنرضيك ومن بعدها تكتشف السم الذي فيها.
ــ نريدها جارحة لا نفاق فيها.
قال الحكيم و قد نظر في الوزير العظيم شديد البطش و القهر الذي أشترى عداوة العامة وكان واقفا في مهابة قابضا يديه بين بطنه و صدره:
"ــ أصلح الله الملك إنك لتعرف ما يتوجب عليه أمر الضعيف و الغريب، إنك لتخيف المقهور حتى ضاق صدره وغلّ عليك قلبه، و الغريب الذي أتاك من أقاصي الأرض يعرض عليك شكواه في كتابه يعود خائبا بعدما احرق حجابك وعمّالك كتابه، يعود خائفا من جنودك وخدامك فيتحول خوفه لثورة يتحين الفرصة للانتقام ، وهذا كله لأنك لم تعاهده بالحماية ، يرجع خائفا مرتعدا من مصير في سيف بتّار وسوط لاسع ذابح، إنك يا مولاي لتميز بين شريف وغني وتعطيه الوجه الحسن بل إنك تطمعه في حيفك ضد خصومه وتقربه من طرفك ومجلسك تقيم الحد على صاحب المظلمة دون بينة عادلة، ذاك يا مولاي لا يملك ناصرا إلا ربه ولسانه و شجاعته، فأفعل عكس هذا و آس بين الناس كان عدلك ظلك وكان سيفك فزاعة للغربان والبوم."
غضب الملك العظيم من الشيخ الحكيم ورأى في النصح مهانة وقلة حياء ووقاحة ما بعدها وقاحة خاصة بعدما رفض الترويج لدعوته فأمر بسجن الحكيم جمال الدين ما تبقى له من أيام عمره بين اللصوص و القتلة...
سجن الشيخ الحكيم سنين ذاق في أثنائها ألوان العذاب من جلادين متنكرين. كان كلما خرج سجين خالط الحكيم إلا و أخذ حكمته، فصار حكيما بأخذه العلم الغزير. بدأت الأخبار تنتقل للملك الخائف على ملكه وعلى دنو أجله فالمدن بدأت تشهد صلاحا ، قلّ القتل فيها و السرقات و أمن الناس من الخوف. رأى الملك العظيم هذا أمرا جللا وخطرا عظيما وشرا مستطيرا على ملكه، ففتنة الناس بينهم جُنة الحاكم والعصور المثالية قصيرة الأمد وهو لا يرضى أن تكون مملكته مثالية فيقصر عمرها، هو يريد أن يأكل الشعب بعضه، فيحتاج للجند الكثير ففي مشاكل الشعب يكثر العسس. أمر عيونه باقتفاء أثر أصحاب الدعوة الجديدة وزجهم في السجون مع القتلة.
كان للملك العظيم ما أراد و أتباع الشيخ الحكيم جمال الدين لا زالوا تابعين لطريقة حكيمهم. السجون تفرغ من اللصوص و القتلة وتملأ بهؤلاء الأتباع، إلا أن الغريب مفاجأة اللصوص بخروجهم دعاة و عبّادا،كلما أُُُسر أحدهم زرع فيمن وجد أمامه بذور النصح و الخير و دعوة الحق وأصلح شأن فساده.0
قال الملك العظيم للوزير العظيم: ــ كلما أشتد الأسر و السجن و التضييق زاد الخطر و طوقنا أكثر.
قال الوزير العظيم: ــ أترك رؤوس أتباع الحكيم يقولون ما يشتهون، يطلقون ألسنتهم في ذم ملكك فإن الكلاب إذا نبحث كثيرا ضاعت شجاعتها لكن إذا ما كمّمت أفواهها ثم إذا ما شقت الكمامة عضّت من حولها و لو كانوا أصحابها. يامولاي أتركهم يتكلمون فيفرغون ما في قلوبهم فتمتص غضبهم ونقمتهم و تشتري ألسنة للرد عليهم و تكفي نفسك العوام و الأعداء وكم هم الباعة، يعرضون ألسنتهم للبيع يا مولاي إنهم بالآلاف.
أفرغ الملك العظيم سجونه بعدما رآها تحولت لمدارس الثورات، إذا ما ادخل إليها الصالحون و الحكماء و أمر بترك حرية الكلام؛ أشترى بعض الألسن المتقنة لفن الكلام و المراوغة و النفاق و أستأجر أبواقا محترفة في بث الشقاق بين الناس. كان الحكماء بعد سراحهم قد نالوا الحظوة في الكلام و التقوا بعد سنين من فراق وغياب لكنهم هذه المرة قرروا السكوت وحفظ اللسان. حار الملك العظيم من أمر سكوتهم وصمتهم. رأى الناس ما آل إليه موقف حكمائهم و انزوائهم في الظل، فشغلهم أمرهم عن أمر المتكلمين المستأجرين و المنافقين في المملكة.. راحوا يسألون ويخمّنون وصارت قضية الحكماء الصامتين محل خلاف وضاعت الألسنة المأجورة وصداها. قال الملك العظيم للوزير العظيم: ــ قد زاد خطر هؤلاء ماذا ترى أيها الوزير العظيم فلكم أنقذت هذا الملك من الزوال.
قال الوزير العظيم: أطال الله عمر مولانا و أبعد عنه الهمّ والحزن، عليك يا مولاي بالأفاقين و الكذابين وحدهم من يملكون السحر لعقول العامة.
بدأ الأفاقون و الكذابون عملهم بالليل و النهار و راحوا يتقاضون المبالغ الكبيرة و العطايا من أراضي و محلات و قصور بعدما نفوا الحكماء خارج مملكة مولاهم العظيم. هرب الحكماء بدعوتهم بعدما أفتتن الناس، وهناك من يقول أن أمر بليل دبر مقتلهم و دفنوا في الفيافي و الشعاب.
بعد زمن كثرت الأكاذيب ، لم يتحكم البلاط في انتشارها شاعت وصارت لا حد لها،اخترقت كل المحصّن من الأمكنة حتى دخلت قصر الملك العظيم وجرت بين أولاده ونسائه و عائلته و حاشيته و جواريه وخدمه ومستشاريه وكهنته، صار الشك سيد الأمر كله فكم من وزير وقاضي قتل بخبر كاذب و كم من قائد شرطة و قائد جند عزل أو ذبح بوشاية . كثرت الأحقاد على الملك من حاشيته و أتباعه ومقربيه كبرت الأكاذيب وصلت الوشاية الوزير العظيم عن عزم الملك العظيم التخلص منه وقتله و صلبه حتى دبر مؤامرة للملك العظيم و أكل الشر بعضه وانتهى الأمر كما بدأ.

ليست هناك تعليقات: