خالد ساحلي
اليد الباردة تحتاج للجيب الدافئ، الأرض اليابسة تحتاج لمحراث طويل صلب، والمطرقة تحتاج لمنقار حاد، السيف لا معنى له دون غمد، لن تكون الحرب حربا مالم ترجع السيوف لأغمادها ثم تسل، القلب القاسي يحرره السهم ينقده من نفسه، الشجرة تخاف الفأس، منها اقتلع جزء يعين الفأس في القطع، حين تتشابك الأصابع تبحث في الفوضى عن النظام، النظام يحتاج لفوضى حين يشيخ و يهرم و يصير الفساد كالذباب، الذباب و اللعنة متشابهان إلى حد بعيد، البعد يحتاج لوقت و الوقت لا معنى لوجوده هو الوهم أو حقيقة كاملة يعتبرها الآدمي خارج عن نطاق وجوده، هل لوجوده حقيقة؟ والوقت كما الماء ينسكب من أعلى لأسفل يحيي كل شيء، هل نحن أحياء؟ و الماء الشفّاف الطاهر يمنح الجمال شفّافية كما هو، يظهر الأشياء التي تحتويه كما هي، هل له ذنب في إظهار وسخ الأشياء التي تحتويه؟ من يحاكي الماء غير الماء، وحين يتيقن الإنسان أنّ لحياته حد، حين يفيق من الوهم يتلاشى الزمن، هل الزمن ينعدم في لحظة اختصار الحقيقة الغائبة؟
الغياب حتمية قصرية يتشبث بها العقل حين يكلّ و يتعب و يقترب من الجنون. الغياب عزلة تحتاجها الروح لتأكد حضورها أمام الذي يغيب على العامة والبسطاء و السذج الطامعين في زينة التشرف بزينة الدنيا وأشيائها، الغياب حقيقة تؤكد عظمة وجود الذي لا يحسبون له وجود وقيمة، الغياب ذو القيمة لا يتحقق الوجود دونه ما معنى إذا أن تعمل أيها الإنسان العمل الذي تعتقده يطيح بمنزلة المرؤة والكرامة في غياب الآخرين، ولكنك تعمله لأنك لا تعرف صاحبه، مالك أيها الإنسان الذي لا ترى العمل الذي تعتبره المهانة و لا يليق بأمثالك و إنما يحط من عظمتك، في سبيله الآخرين تكبدوا الشقاء و لم تعف أرواحهم طبيعته و إكماله، إنما حسبوه مكتوب رسمته يد القدر الفنان ، لأجلك فقط، هم لا يعرفونك. جرّب وامنح الواحد منهم المال الكثير لأجل أن يقدّم لك هذه الخدمة دون حاجز الغياب وجهل المخدوم، هو الخادم النكرة و المخدوم النكرة، أحيانا كثيرة الدنيا تسير دون معرفة لمن تصنع الأشياء و تبدع الأعمال العظيمة الناجحة و الكبيرة؟
أو لو درى الإنسان عدوه المنتفع بما أنجزته يداه أو منقذا نفسا وقد بحثت هذه النفس عن سلب حياته أتراه يمنع عمله عنه؟ سبحان الرب الذي جعل خدم الأعداء لبعضهم بعضا لتعمّ الرحمة بين البشر الضعفاء، سبحان الرب الكبير الذي جعل خدمة الأقوياء والمتكبرين تكون في وقت الانجاز لغياب الضعفاء المتعففين عن الأعين المحتقرة لغيرها. الغياب نعمة في نكرة الأسماء والأشخاص. الغياب يبحث في الوقت ذاته عن حاضر ماض و عن ماض حاضر يلغي الوقت الآتي، الغياب هو الآتي بالحاضر في الزمن الذي يُرى أنه صار في الماضي. الخاتم يبحث عن الأصبع ليلمع، الأصبع يبحث عن أصابع أخرى ليتشابك معها، العين تبحث عن النور في الظلام ، يا للسخرية تحتاج العين للظلام لترتاح و يغمضُ لها الجفن، المرايا تحتاج للصور والوجوه، الوجوه تكره نفسها أحيانا و تكره المرايا، في انكسار المرايا تنكسر الصورة و الوجوه فيها لا تكتمل. هل ينتهي عمل المرايا برحيل الوجوه؟
طبيعة المرايا كانت متجسدة في الذي سخر لأبينا آدم قبل هبوطه، فكرة المرايا لها الخروج من سطح الماء، من وجه الماء، من الماء المتصلب المتجلّد، من الشمس المتزاوج بريقها مع الطهارة. مالك أيها الإنسان ووجودك من الماء، أخذت سر المرايا من نفسك و لا تدري، هل ينتهي عمل المرايا في انتهائك؟ المرايا حملت آلاف الوجوه لم تضجر يوما من أحد، أعانت على إظهار العيوب و خدمتك أيها الآدمي ناكر الجميل. المقص يحتاج للأصبع ليتفنن في إبداع الجّز والحلق والحذف، يحتاج لشقه و لنصفه الآخر ليعمل. قد تحمله الكف دون الأصابع و يصير في مكان الخنجر ليقتل، المقص يعمل في الحضور و الغياب معا. المقص مثلك أيها الإنسان قد يكتمل بك نصفك الآخر أو يحذف تاريخك أو يحلق لك حسناتك في الحياة القصيرة داخل إنسانيتك، قد تتحول أنت أو نصفك الآخر إلى أداة في يد تمارس بك فن القتل و الجريمة... الغياب مثلك أيها الإنسان يفنى فيك ليعود بأناس جدد تدفعهم القدرة الإلهية حتى لا تفسد الأرض و لا يهدّم صرح الخير في ظل شرّك البائس. من يلغي وجود الآخرين ويمنحهم الغياب؟
من ينسى غيابه ويشي بغياب الآخر؟ هل كل إنسانا يحمل غيابه معه ووجوده في اللحظة نفسها؟ هل للغياب غياب؟ هل يملك ظله يتركه شاهد عليه حين يفتح سجّله وتقلب ورقته؟ هل للوجود وجود؟ وجود في اللحظة ووجود بتبليغ حين الانفصال عن اللحظة؟ ومالك أيها الإنسان تغيب في عقلك وعن روحك في لحظة وجودك المقدسة التي منحك الله إياها و لا تغتنمها؟ ولما في غيابك عن العقل و الروح تؤكد وجود آخر في ذاكرتك وفي التاريخ بالاجترار. سبحان الرب القادر الذي منحنا كما الحيوان الاجترار. اجترار العقل و الروح لغيابهما. الدولاب يبحث عن العجلة العجلة تدور والقوة التي تحركهما تحتاج لطاقة، الطاقة تحتاج لطاقة أكبر، الطاقة تأخذ من بعضها البعض. الوجود يبحث عن الغياب، الغياب جزء داخل في الزمن، الزمن شيء كامل يكوّنه الماضي والحاضر و القادم، الزمن الفعلي اللحظة التي نحن فيها يأخذ منه زمن اللحظة المتراكمة، الزمن الأكبر هو زمن اللحظة البرانية التي نتوق لحضورها ونترقبها بقلق وشغف كبيرين، هذا الزمن المتكامل الذي يأخذ من بعضه بعضا. سبحان الرب القادر الذي لا يحتويه الماضي و لا الحاضر و لا القادم. سبحانه الذي أوجد لنا الغياب و أوجده فينا، الغياب يحتوينا دون علمنا أحيانا، والوجود يفصلنا أحيانا كثيرة عن إدراك كنهنا.
مالك أيها الإنسان إذا يكبر في صدرك الغرور ومرض العظمة والكبرياء، مالك إذا لا ترسم لنفسك طريق الوجود لعل في غيابك يُخْلق لك وجود أبديا، مالك أيها الإنسان يتسع الضيق في صدرك، وتنغلق نوافذ الأمل و يستوطنك الألم وترضى بقهر العبد الضعيف لك، تذعن لاستعباد الإنسان مثلك، هو الإنسان لا تنبهر بما يملك من مال وثورة وجاه و قوة، إنما هو مثلك يحتويه الغياب و هو لا يعلم. العلم وحده لا يحتويه الغياب، هو الوجود الأزلي فالعلم نور من الله ووحي منه و نور الله لا يغيب، سبحان الرب القادر الذي جعل الحساب و العقاب على الوجود و الغياب معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق