د. حبيب بولس
إن الحديث عن الحداثة في الشعر بشكل عام محفوف بالمخاطر, وذلك لكثرة الاجتهادات التي صدرت بهذا الخصوص منذ أواسط السبعينات وحتى اليوم, هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان موضوع الحداثة اليوم, صار موضوعا قديما نسبيا مقارنة مع ما
جدّ على الساحة الأدبية الأوروبية والأمريكية, فهذه الساحة تخوض اليوم في مواضيع أخرى يشكّل لبّها ومحورها موضوع ما بعد الحداثة. ولأنني ازعم- وسأبين ذلك فيما بعد-, أن شعرنا العربيّ المحليّ خاصة لا يزال يتخبط في قضية الحداثة بحيث لم يصل إلا في القليل منه- إليها ارتأيت الحديث في هذا الموضوع- علّ الحديث يسهم في تقريب شعرنا إلى الحداثة التي أرى إلى أهميتها من حيث الارتقاء به قدر الإمكان إلى مصاف الشعر الجيّد في العالم الغربي.
ولكن ونحن نحاول مقاربة هذا الموضوع الشائك, تلزمنا الموضوعية والأمانة العلمية بطرح مساءلة أساس تشكل قاعدة تنهض عليها هذه المقاربة. هذه المساءلة ترتكز على فرعين: الأول ما هي الحداثة أو الشعر الجديد كما يسميها بعض النقاد والدارسين؟! والثاني: أين شعرنا المحلي منها؟ وكي تتسنى لنا الإجابة عن الأول يتحتم علينا الرجوع إلى الأصول التي اهتمت بموضوع الحداثة, وذلك كي نعرفها ونرى إلى آلياتها, ليتشكل بالتالي لدينا منظور علميّ نأخذه معيارا نقيس عليه. أما الثاني فتستوجب الإجابة عنه الوقوف على مجمل شعرنا العربي المحلي بصبر وأناة وعمق لنرى إلى كيفية تجسد هذه الحداثة فيه سواء أكان ذلك في بنى القصائد وأشكالها, أو في مضامينها ورؤاها وكي لا تعدم هذه المقاربة علميتها كان من الضروري أن تستقي مادتها ورؤيتها النقدية من مراجع اهتمت بالموضوع, اعتبرها من أفضل ما كتب فيه.وهنا تجدر الإشارة إلى أن اعتمادنا على هذه المراجع انقسم إلى قسمين: الأول ارتكاز مباشر على كتابين مهمّين يشكلان في رأيي مرحلة هامة من مراحل تطور المنظور العلمي للشعر العربي عامّة هما: الحداثة والشعر ليوسف الخال, وزمن الشعر لادونيس. أما القسم الثاني فكان ارتكازنا عليه لماما, وهي مراجع تناولت الحداثة من جوانب مختلفة أهمها: كتاب اللغة الشعرية لجاك كوهين, ودراسات في الشعر العربي الحديث لميخائيل امطانيوس, والشعر كيف نفهمه ونتذوقه لإليزابيث درو, وفي الخطاب الشعري ليمنى العيد.
ارتكازا على ما تقدّم نقول:
كان المفهوم القديم والشائع للشعر والذي احتل مرحلة زمنية كبيرة, على انه "كلام موزون مقفى". وقد عبّر الزهاوي عن ذلك بقوله:
" إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقا أن يقال له شعر"
أما شوقي فقد شرح هذا المفهوم بقوله:
" الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة أو حكمة فهو تقطيع وأوزان"؟
مما تقدّم تكون غاية الشعر هزّ الوجدان والعقل كما يقول "د. عبد الواحد لؤلؤة", وطريقته إلى ذلك الوزن والقافية من جهة, والذكرى والعاطفة والحكمة من أخرى. وهذه النظرة للشعر بطبيعة الحال تجعل مهمته تعليمية إخبارية, أو وصفيّة كالنثر. وقد تحكمت هذه الغائية وهذا المفهوم للشعر بشعرنا العربي قرونا عديدة إلى أن جاءتنا آليات الثقافة الغربية فحوّلت من خلال تأثرنا بها هذا المفهوم وهذه الغائية إلى شيء آخر يحدده يوسف الخال بقوله:" إن الشعر فنّ غايته التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا, يخاطب العقل ولا يخضع لقوانينه, مهمته الفريدة هي النفاذ فيما وراء الظواهر المتناقضة المبهمة ليكشف بالحدس والرؤيا أسرار الوجود الحقيقي, ووسيلته إلى ذلك اللغة, ولذلك فان الشعر لغة, أي أنه وليد مخيّلة خلاقة لا تعمل عملها الفني إلا باللغة".
هذا التعريف الجديد لمفهوم الشعر يقودنا إلى قضية الحداثة أو الشعر الجديد. فانطلاقا مما تقدّم, تكون الحداثة عبارة عن إبداع وخروج بالشعر عن السلفية, أي تكون رؤيا, والرؤيا بطبيعتها ثورة خارج المفهومات السائدة, أي أنها تغيّر في نظام الأشياء ونظام النظر إليها. والقصيدة الجديدة من هذا المنطلق أيضا تمرد على كلّ الأشكال والطرق الشعريّة القديمة كما يقول أدونيس. ولهذا فان أهم ما في الحداثة أنها موقف كياني من الحياة في المرحلة التي تجتازها, فهي ليست أشكالا نقتبسها أو زيّا نتزيى به كما يقول الخال, لأن المهم هو ما وراء الأشكال والأزياء, وهذا الماوراء هو العقلية, فإما أن يكون الشاعر ذا عقلية جديدة أو لا يكون. وهذا يعني أن الحداثة حركة إبداع تماشي الحياة في تغيرها الدائم والشعر الجديد بهذا المعنى تصبح له حقيقته الخاصة, حقيقة العالم الذي لا يعرف الذهن التقليدي أن يراه, ولكن الذي يراه ويكشف عنه هو الشاعر, فالشعر الجديد يرى في الكون ما تحجبه عنّا الالفة والعادة ويكشف وجه العالم المخبوء كما يكشف علائق خفيّة ويستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كلّه.
هذه هي بعض مهمات الشعر الجديد كما يحدّدها يوسف الخال وهذا هو امتيازه في الخروج من التقليديّة, فقوامه معنى خلاّق توليدي لا معنى " سردي, وصفي, أي قوامه" الكشف عن عالم يظلّ أبدا في حاجة إلى الكشف" كما يقول رينيه شار: من هنا يتخذ هذا الشعر الجديد/الحداثة خاصية مهمة وهي أن يعبّر عن قلق الإنسان أبديّا, ومن هنا يصبح الشعر الجديد متفردا متميزا, ومن هنا ثالثا يصطدم هذا الشاعر الجديد بعملية الخلق الشعري بتحدّيين: حدود اللغة- قواعدها وأصولها. والأساليب- أي التعبير الشعري المتوارث والمتبع في التراث الأدبي. وبقدر ما يتحدى هذان الامران الشاعر بقدر ما يمتحنان اصالته وموهبته الابداعية فعلى الشاعر الموهوب أن يعترف بقواعد لغته وأصولها وبمبادئ الأساليب المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الأدبي, وفي الوقت ذاته بأخذ لنفسه قدرا كافيا من الحريّة لتطويعها ولينفخ فيها شخصيته. ومن هنا أيضا يكون على الشاعر الجديد في خلقه أن يجتاز عمليّة صراعيّة مع اللغة والأسلوب- شريطة ألا يطلقهما كليّا- كما عليه أن يخرج سيدا ومنتصرا. وهذا لا يمنع فرادة الشاعر ولا فرديته بل بالعكس ففرادته وفرديته لا توجدان إلا ضمن هذين العبئين. ففي قدرة الشاعر- وهذا امتحانه- أن يتناول اللغة والطريقة المتوارثة ويرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.
تأسيسا على ما ذكر تصبح القصيدة الجديدة بناء موضوعيا ذا معنى ينعم بوجود خاصّ به, وهذا البناء يتميّز بالتضمين وبتلاقي الأضداد وبالتلميح. كما يحدّد ذلك يوسف الخال. فبالتضمين تكتسب القصيدة الجدّة والطرافة وتعالج القضايا في ضوء تعقيداتها الحقيقية. وبتلاقي الأضداد تكتسب التوتر والزخم وترتفع عن مساق الكلام العاديّ. وبالتلميح تكتسب الضّبابيّة والسريّة اللتين تثيران في القارئ حب الاستطلاع والتشويق والتحدي والمغامرة في المجهول. وحجارة هذا البناء الموضوعي هي الألفاظ لأنها في الشعر تؤدي إلى ما وراء المعاني فتنضاف إليها أبعاد جديدة وبذلك تتجدد وتحيا وتصبح اللغة في معنى الشعر لا في مبناه فقط. هذه الألفاظ تتركب في البناء الشعري على غير ما تتركب في النثر, بحيث تكون بعيدة عن المباشرة والوضوح قريبة من التكثيف والإيحاء, لذلك العبارة الشعرية هي التي تتجنب تقرير حقيقة مجردة في الذهن.
إذا أخذنا كل ما ذكر بالحسبان نجد أن الشعر الحديث يتجه الى التخلي عن أشياء عديدة. يحدّدها أدونيس بما يلي:
أولا: التخلي عن الحادثة.
ثانيا: في تخليه عن الحادثة يكفّ أن يكون شعر وقائع أي يبطل من الاقتراب من النثر العاديّ ومن المألوف من دلالات الكلمات.
ثالثا: التخلي عن الجزئية. واحتواء رؤيا للعالم ليست مباشرة.
رابعا: التخلي عن الأفقيّة كما هي في الشعر القديم, بحيث عليه أن يتجاوز السطح للغوص في الأشياء, ووراء ظواهرها بحيث نرى العالم في حيويته وحركته وطاقاته. في الشعر الجديد نجد شعرا لا يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج بل يتحوّل إلى محايئة هذا الوجود.
خامسا: التخلي عن التفكّك البنائي أي عن التشقق في الهيكل وعن الخطابيّة والمباشرة والاستعاضة عن ذلك كلّه بالصورة التركيبيّة الصورة الرّمز.
انطلاقا مما تقدّم يقوم تنافر بين الشاعر والواقع يوازيه تنافر بينه وبين القارئ. هذا التنافر هو أبرز خصائص هذا الشعر الجديد وهو بمفهوم آخر الغرابة و "الجميل غريب دائما" كما يقول بودلير والغريب هنا هو الجدّة. والغريب لا يمكن فهمه بسهولة لأن الجديد يعني ان نحيد بطرائقنا ورؤانا الشعريّة عن طرائق الماضي ورؤاه.
وهذا التنافر يثير مسألة مهمة في رأي ادونيس وهي مسألة الفهم مسألة الغموض والوضوح. والحقيقة أنه ليس من الضروري لكي نستمتع أن ندرك معنى الشعر إدراكا شاملا لأن هذا الإدراك يفقدنا المتعة. ذلك لأن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة, لذلك هو قوام الشعر, شريطة ألا يتحوّل إلى تعميات وأحاجِ شعريّة, لذلك شرطه في أن يظلّ خاصيّة شعريّة أن يكون إشارة إلى أن القصيدة تعني أكثر مما يقوى عليه الكلام العادي على تقله. من هنا تصبح عملية تعريف الشعر الجديد ليست سهلة.
ولكن خير ما نعرّف به هذا الشعر هو ما قالته مرّة الشاعرة والناقدة اميلي ديكنسون, حين سئلت عن الشعر الجيّد فقالت: " ما من تعريف له غير أني إذا ما بدأت أقرأ وشعرت أن قمة رأسي قد انتزعت حينئذ أقول أن ما أقرأه شعر" وهذه هي الحداثة بعينها, هذا هو الشعر الجديد. والسؤال الذي يرتفع الآن بعد هذه المقاربة الشائكة هل وصل شعرنا المحلي إلى هذا كلّه؟! بمعنى هل وصل في مسيرته الشائكة والشائقة معا إلى الحداثة؟!
هذا ما سنحاول أن نقف عنده في المقال القادم
السبت، ديسمبر 06، 2008
شعرنا والحداثة
Labels:
حبيب بولس
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق