الأحد، يوليو 20، 2008

تلك نجمة عراقية / لمياء الآلوسي



فوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ، لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ، نبياً منعتقا من جحيم الخيال ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ، في ظهيرة يوم عراقي مليء بالخوف والترقب ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني ، فيدفع أفكاري كأبخرة تتصاعد لتتبدَّد .
ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ، ولازالت تضمنا او نضمها لا ندري ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ، أنَّ هناك أسواراً بيننا بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة ، كلما أوقدت تنورها الطيني ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما تُدعو للإستزادة لغرابتها ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !
ركضتْ عبر السياج , دخلت باحة بيتها .
كانت تقف بجانب تنورها الطيني ، في تلك الباحة المكشوفة ، متشحة بالبياض ، وتتلفع بفوطة عراقية بيضاء لكن خصلات شعرها الأبيض الممزوجة ببقايا من سحب الحناء الشاحبة تهلهل متماوجة من خلف ستارها الأبيض
- أنت هنا ؟؟
همست لي وفي عينيها بريق أخافني . وضعتْ كلتا كفيها على فوهة التنور الخامد ، وأحنت رأسها وكأنها غارقة في صلاتها .
- ستة أولاد أردتهم أن يطهروني من هذه الدنيا , ذهبوا جميعاً ( صفقت بكلتا يديها وأزاحتهما عاليا ) وتركوني للوحشة , ستة أولاد مع أبيهم وهذه المسكينة .
قالتها وهي تشير إلى ابنتها الجالسة في الزاوية البعيدة منتحبة تلطم صدرها العاري .
- تتصور أني مجنونة .
إقتربت الإبنة خائفة .
- منذ أن رأت سحب الدخان
- لكنها تعرف جيداً أنَّ ذلك بسبب الإنفجارات وهذا ليس جديداً علينا .
- لقد جُنَّت هذه المرأة , جُنت , تتصور أنها نهاية الدنيا ، ويوم القيامة آتٍ دون شكٍّ .
إندفع صوتها المبحوح
- دجلة , نهرنا الجلاّب , لقد كنتِ صغيرة , ألا تذكرين ؟
بدأت تجوب المكان ثم توقفت على حافة التل العالي الباسط كفيه على كتف النهر و كأنه يوصيه ، ثم انحدرتْ بانحدار الطريق الترابي الذي عبدته أقدام من مروا عبر هذا الزمان ...
فبيتها هو الوحيد الذي أعتقته من الحواجز ، وتركت المكان مفتوحاً بينه وبين النهر .
في لحظة وجلٍ يكبلنا أنا والإبنة مشت جارتي المليئة بالحياة ، باتجاه النهر ، فأمامها بضعة أمتارٍ في أرض وعرة ...
مشينا خلفها مبقين على مسافة بيننا ، لأننا نعرف أنها عنزة جبلية لا تُقهر !
في الأفق البعيد ... إمتداد عجيب لسحب الدخان المتماوج يمتلك النهر ، فيدفعه بقوة سحرية إلى فسحة السماء فيلتهب العشب المخضل بالقطران ، ويمد رداءه على طول النهر وعرضه , يتدفق اللهب في كل مكان , ينسحب مرة معتذراً للنهر , يجرجره هواءُ تموز اللاهب فيتماوج في كل مكان متناسياً اعتذاره !
توقفنا نحن الثلاثة غير بعيد عن النهر لكنها انفلتت مندفعة إلى أحضان دجلة كما العاشقة البكر بعد أن أزاحتْ فوطتها وألقت بها على الشاطئ ، وبدأت تغرف بيديها من مائه لتسكبَهُ عليه في محاولة لإخماد نارهِ ! أية غرابة وأي عجب ومَن يطفيء النار بالنار ؟
ولكنها - وهذا هو الأغرب - تؤمن عميقاً بإمكانية ذلك .
- لقد جنت , الم أقل لك ( قالتها الابنة هامسة وسط ذهولها )
- في الصباح عندما سمعنا إنفجار أنبوب النفط , وتدفقت النيران على ضفاف دجلة ، وجدتُها تركض إلى خزانة ملابسها لترتدي الملابس التي تدخرها للحج ووجدتها تدور حول البيت , تصرخ : إنه يوم القيامة يا ناس ، وأنا لم أتطهر من ذنوبي ، ستحل علينا لعنة الرب ، حاولتُ تهدئتها لكنها لم تكن تسمعني .

تذكرتُ وأنا أتأملها أن بعض المتصوفة أجازوا أنْ يطوف الإنسان حول بيته ، بعد أن يعطره ويغتسل ويرتدي ثياباً بيضاء نظيفة ، فيكون كمَن أدَّى فريضة الحج !!
ولكن هذه المرأة ... أية طريقة صوفية تتبع !! وهي بكل هذه البساطة ؟

خرجتْ باتجاهنا وقد التصق ثوبها , الذي غدا بنياً , بما علق به من بعض العشب المحترق ، والحلفاء المتفحمة , بجسدها المختلج , وبقايا حشائش على شعرها المجدولِ خلف ظهرها ...
تربعتْ على الشاطئ كسيرةً حزينة فأحطنا بها ونحن نرى الحريق يمتد باتجاه الريح إلى الجنوب ، فيشتعل العالم حولنا ، وإذا اشتعل فسينطفئ ويُذرّى ذات يوم , ساعةٍ , هنيهةٍ ولكنَّ ما في القلوب مَن سيذرِّيه ؟
سمعتها تهمس :
- كنا نوقظ الفجر , نسابق الدنيا وننزل إلى النهر ، وخلفي أولادي الستة وأبوهم ، عبر طريقنا الوعرة , وبطوننا خاوية والماء البارد يلسعنا في كل مكان وعندما تتجمع السحب فوق الرؤوس الصارخة بالحياة ، وتنشب أظفارها فينا بزخات كحمم البراكين , يصبح وقع القطرة على جلودنا المنسوخة كأنها من صلب الشياطين ! كما الموت القاتل ، لكننا كنا نرفع ملابسنا ونتعرى فحياتنا رهنٌ بما يجود به هذا النهر الغاضب , وفي كثير من الأحيان أرفع كل ملابسي , يسترني الغبش الربيعي , وكان جسدي بضاً لم تطله الشمس ، وربما لهذا السبب لم يكنْ أحدٌَ يبالي !
فكان علي أن أغوص في وسط النهر فترطمني أمواجه ، تسحقني لكني أتشبث بالطين , بغريَنهِ كي أجمع ما جرفه رغم إحساسي بما يشبه اليقين بعضَ الأحيان أنني أصبحتُ من بين ما يجرفه ... كان يمنحنا هداياه ، فنتشبث بكل شيء حتى القشة الصغيرة ، فإن تركناها ، سيأخذها جيراننا الذين جاءوا بعدنا !
نعرف أنه خرَّبَ القرى الفقيرة البعيدة ، لكننا فقراء أيضا ، وهو يعمر بيوتنا حولاً كاملاً ...
كنت أسمع امتعاضَ الستة وشكواهم من البرد والمطر ، ومن هذا العمل الذي يسرق منهم نشوة التباهي أمام أقرانهم , بقدرة تنوري على إدخالهم المدارس ، ورغبتي في أن يطالوا الشمس ذات يوم ، ويتمكنوا من أن يسألوا السماء :
لماذا تنثر غبارها الأسود علينا وليس على أعدائها ؟ لماذا يمهر ناسنا بالألم والحزن في هذا الوقت فيتركه مُحدِّقاً كالهاوية ؟
ثم أين هم الآن ؟ تناثرت أشلاؤهم وأضحت الأرض تنحني أمام عالمهم السماوي . .
نهضت ثم عادت إلى النهر ورفعت هذه المرة فوطتها ثم ألقتها إلى النهر ..................
- لو كانوا هنا لما حدث ذلك كله .
بعد عدة أعوام رأيتها على الضفة الثانية وكان مساءاً .
كانت جالسة على بساط ، في حقلٍ يطفح من بين ثناياه عشبٌ ملونٌ لم أرد أن أصدق أنها هي لذا اكتفيت بأن أسمع بعض همسات تفوح منها
قالت للستة ومعهم البنت وهم متحلقون حولها كهالةٍ من الحبور والإصغاء : كان هذا جيلاً وحكاية ,
حكايةً ظلت تخشى أن ترى لها خاتمة , فمَن منكم سيشْرع بتدوين عنفها لتكون أغنية أنتم أنغامُها والقلوبُ التي تُصغي اليها !؟

ليست هناك تعليقات: