د. عدنان الظاهر
هل أزور مدينة الحلة في بابل خصيصاً لأنفذ دعوة السيدة عشتار آلهة الحب والعطاء والتناسل والجسد ؟ وما المانع ؟ الأوضاع هادئة كما يُشاع والأمن مستتب والماء الصافي جارٍ في دجلة والفرات والكهرباء لا ينقطع إلا لخمس عشرة ساعة في اليوم ! توكلْ وسافرْ فمطار النجف تحت الخدمة تديره شركة كويتية فماذا تريد أكثر من هذا يا رجل ؟ فكرت في الأمر بكل جدية وقلت لنفسي إنها قد تكون فرصة العمر الأخيرة التي أرى فيها بقية أهلي وأن أمتع ناظري برؤية مدينة الحلة ونهرها الخالد وبساتينها وشوراعها وحديقة الجبل وما كنتُ أرتاد من مقاهٍ وملاعب زمنَ الطفولة والصبا والشباب . نعم ، إنها مناسبة لا تتكرر فبادرها يا رجل ولا تكن مغفلاً عبيطاً . ثم إنَّ عشتار بابل هي التي وجهت الدعوة لك فمن يضاهيها ومن يدانيها مرتبة ً وهيبة ً وجمالاً وهي أم وربة الجميع تماماً مثل ملكات النحل ؟ قبلتُ الدعوة رسمياً فوجهت لها رسالة بالبريد الألكتروني أُعرب لها فيها عن قبولي لدعوتها ورجوتها أن تكون في إنتظاري قربَ بوابة عشتار في مدخل شارع الموكب شرطَ أنْ لا تصطحبَ معها فرقة شرف عسكرية مع طبول وأبواق كما تقتضي مراسم إستقبال كبار الضيوف . قلت لها لا [[ فائدة ]] في مثل هذه البروتوكولات التي لا أهواها أبداً . قلت لها إنما [[ الفائدة ]] كل الفائدة فيك وفي حرارة إستقبالك لي ضيفاً عزيزاً يأتيك من آخر الدنيا حاملاً لكِ البشرى الكبرى وسوف لن يكلفك مكوثي في ضيافتك إلا حفنة من التمر( المكتوم ) الجامد بنوعيه القديم المغلف بأكياس النايلون والآخر الطري من قُطاف هذا الموسم . لم تعلّق عشتار الربة أو الآلهة على شروطي وأنا أعرفها قليلة الكلام إلى حد البخل وإنها تُعطي ولا تمنُّ تمنح ولا تفصح ُ تتحرك دونما ضجة تتكلم دون صوت . هذه هي ربة الجميع وآلهة الجميع في بابل . كنتُ أعرف أنَّ في بساتينها على ضفة نهر الفرات الكثير من نخيل تمور ( المكتوم ) الفائق الجودة وكان المكتوم تمرها المفضل الذي لا تفارقه لا صيفاً ولا شتاءً .
وصلت بوابة عشتار ممتطياً صهوة جوادٍ أدهم بلجام ذهب يقوده أحد عبيد قصور عشتار فوجدتُ الربة واقفة ً في إنتظاري تحيط بها مجموعة من جواريها الحسان من كل ملة ونحلة وشعب . ما أن ترجلتُ حتى شرعن بالغناء ودق الدفوف وتناوبن الرقص ونثرن على رأسي أجمل ورود بابل
وأغرقنني بنفيس عطور فارس والصين والهند حتى كدتُ أختنق . همستُ في أُذن عشتار { رأيت فيها وجه حبيبتي } أنْ لا حاجة َ لي بكل هذه المظاهر التكريمية والضوضاء أساساً تزعجني وتكدر مزاجي وإني لا أحب من العطور إلا ذاك الذي تستعمله حبيبتي القديمة الحلاوية التي تتجدد وتتناسخ كل عام وتبدل إسمها مع كل تجدد وعملية إستنساخ . قالت مندهشة : وما إسم حبيبتك في هذا العام ؟ قلت إنما ذلك سر بل وسر الأسرار ، لا يعرفه ولا يفقه أمره إلا رب العالمين . قالت وهل رتبت لقاءً بينك وبينها ؟ قلت نعم ، قد رتبنا مثل هذا اللقاء الأسطوري الذي لا يتوقعه ولا يدرك سره حتى علماء الأنواء الجوية وسحرة بابل أحفاد الملكين هاروتَ وماروتَ والكلدانيون المختصون بقراءة الحدثان وأخبار النجوم وكبار المجوس من مستشاري ملك بابل نبوخذنصر . غمزتني بعينها بغنج ودلال إغوائيين ثم قالت : أهكذا تعز عليَّ بعض أسرارك وأنا كما تعلم مَن أنا ... أنا الربة عشتار وأنا آلهة الجنس والحب والتناسل ألا تطمح مني في أن أبارك حبك هذا وأسعى إلى أن يتحول بالزواج إلى وسيلة للتكاثر وإدامة النسل على الأرض ؟ قلت بلى ، وإني لكثير الطموح . قالت هيا إذاً أقدمْ وتزوجْ وسأكون أنا الربة شاهدة زواجك وشريكة ليلتك الأولى كما تقتضي أعراف بابل . أنا سأنجب منك قبل حبيبتك هذا هو شرط شهادتي ومنحكما بركتي وإطالة عمركما وتكثير نسلكما . لم نكد نصل قبة عرشها حتى حثتني على الكلام إذ رأتني صامتاً كثير التفكير . قالت ما بالك أغرقت نفسك في بحر الظلمات وعلام مسحة الحزن هذه طغت على وجهك ؟ لا أستطيع البوح يا ربة ، أجبتها . ما الذي يمنعك من أن تبوح ؟ قلت بعد تردد طويل : هناك موانع كثيرة تحول بيني وبين الزواج من الحبيبة . قالت هيا أفصحْ ، عددْ هذه الموانع ... هيا هيا لا تخف فأنت ما زلتَ ذلك الرجل الصريح الجريء . يا عشتار المرأة أولاً والربة ثانياً ، لا أعرف موقف أبيها من موضوع زواجها وهل أمورها لم تزل بيده أم إنها مستقلة الشخصية والقرار ؟ هل يسمح اهلها لها بمغادرة بابل للإلتحاق بحبيبها ؟ وأخيراً ماذا عن العمر يا عشتروت سومر وبابل ؟ قالت ماذا تقصد ؟ أقصد أن فارق العمر بيننا قرابة ربع قرن . أطرقت عشتار قليلاً ثم رفعت رأسها إلى الأعلى وقالت : ربع قرن من الزمن فارق مقبول بالنسبة لعمرها الحالي . إنتبهتُ وأصغيتُ أكثر لقول عشتار . قرّبتُ أذني منها وفتحت حدقتي عينيَّ أكثر فلاحظت إهتمامي بهذا الأمر . تبسّمت ، حركت رأسها للأعلى والأسفل ثم قالت : هل أُفشي لك سراً لا يعرفه في بابلَ غيري ؟ هيا هيا ولا تتأخري رجاءً ، قلتُ . إنها بلغت السابعة والأربعين من العمر !! كدت أن أطير من فرحتي الغامرة فطلبت منها أن تستدعي على عجل جوقة المغنيات والعازفات والراقصين والراقصات فأمرت على الفور . قادتني من ذراعي فتمشينا في شارع الموكب نشاوى أشباه سكارى خلف مجموعات الطرب يتوسطهم راقص الحلة القديم الشهير المدعو (( حميدي الشعّار )) وضارب الطبل (( أبو العبد )) والمغنية الغجرية (( وحيدة خليل )) وجوقة صغيرة أخرى من راقصي ومغني
(( الهجع )) و (( الحسجة )) . هذا حفل عرسك الحقيقي، قالت عشتار. كنتُ غائباً عنها تماماً . كنت أسيح وحيداً في ( الصوب الصغير ) من الحلة قريباً من شاطئ النهر لعلي أرى شبح من أهوى في حديقة منزلها أو تتمشى مثلي على ساحل النهر أو تخرج لزيارة جارتها كما قال ناظم الغزالي في بعض أغانيه (( طالعة من بيت أبوها / رايحة لبيت الجيرانْ / فات ما سلّم عليَّ / يمكن الحلو زعلانْ )) . هزتني عنيفاً عشتار من كتفي قائلةً أفقْ يا حالم ويا نائم ، أفقْ فلم يتبقَ من سواد ليلتنا إلا القليل . جهزت لك كل هذا النعيم والطرب والأبهة ومظاهر الترحيب وأنت لاهٍ بسوايَ منصرفٌ لها عني . أما وللهِ إنك لجاحد لا تعترف بالجميل ثم إنك لستَ << جنتلمان >> حيث أهملتني إمرأة ً لا أقل فتنة وسحراً عن سيدة أحلامك ... دعنا نقضي الليلة معاً في قبة عرشي ونمارس الجنس المقدس لعلي أنجب منك ولداً يشبهك وجهاً وقواماً وجاذبيةً وذكاءً . ظلت تتكلم عشتار وبقيتُ أنا سارحاً بعيداً عنها أحوم حول دار الحبيبة مردداً قول الشاعر :
مررتُ على الديارِ ديارِ ليلى
أثقبّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي
ولكنْ حب َّ مَن سكنَ الديارا
كانت الخبيثة عشتار تسمعني وتلتقط أفكاري وهواجسي بأجهزتها السرية اللاقطة الخاصة ... خبيرة مدربة كأي عنصر أمن أو مخابرات لا تخفى عليها خافية . فقد عرفت عمر حبيبتي الحقيقي دون أن أعرفه وكشفته لي من باب الغيرة والوقيعة لا تعاطفاً معي في محنة حبي ولا هم يحزنون .
كررت دعوتها لقضاء الليلة معها إذ ـ قالت ـ لا بدَّ من مضاجعة زائر بابل حسب نواميسنا وتقاليدنا وأوامر الملك نبوخذ نصر وربه مردوخ الكبير . تعالَ ما دمتَ في بابل ومارسْ معي الجنس المقدس فأنا الربة عشتار أنا مليكة النساء أنا مليكة خلايا نحل العسل طراً فما حاجتك للإقتران بحبيبة قلبك التي دنت كثيراً من سن اليأس ؟ فككت ذراعي من كف عشتار الفولاذي ، بصقت في وجهها ثم صفعتها صفعتين قويتين فتهاوت على أرض بابل باكية ً مولولةً تلطم وجهها وتخمشه بأظافرها وتصرخ عالياً : لم يسبني ولم يضربني قبلك بين الرجال أحد ٌ إلا جلجامش وصديقه أنكيدو في وركاء سومر. وجلجامش مثلك طردني ورفض الزواج مني وقال لي إنك قربة مثقوبة ودار بلا أبواب وجدران وموقد ليس فيه نار في الشتاء.
أخذت طريقي على شارع الحلة ـ بغداد وسط ظلام دامس أهذي مع نفسي هامساً حيناً وبصوت مسموع أحيانا أخرى . لا أعرف ماذا كنت أقول سوى شعور عميق بالحسرة والغصة أني لم أرَ حبيبتي في بابل وأنَّ من دعتني لزيارتها حاولت إغوائي وصرفي عن حبي الحقيقي الأخير ثم تطاولت فأساءت لحبيبة ربي وقلبي فكيف ومتى أعتذر للحبيب وهل من {{ فائدة }} في لقاء يجمعنا ولو في عالم الأحلام :
يا ندامايَ فؤادي عندكم ْ
ما فعلتمْ بفؤادي يا ندامى
إنْ تناءتْ دارُنا عن داركمْ
أذكروا العهدَ وزورونا مناما .
الخميس، يوليو 24، 2008
حوار رومانسي مع عشتار بابل
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق