لمياء الالوسي
كان ذلك البيت الكبير ،يملؤني بالخوف ، والرهبة ، والتي تحل بي منذ ساعات الغروب ، ومع ذلك الضوء القاتم من الشعاع الأحمر الغارق بالصمت ، ويزداد مع قدوم المساء ، إذ إنه بني في فترات طويلة ، و أزمنة مختلفة ، مما جعله لاينتمي الى طراز واحد ، وحدها تلك الباحة الصغيرة بشجرة الرمان الهرمة ، وتعريشة العنب المتدافعة معها ، تعلن عن حكايات من مروا بهذا البيت ، كل غرفة من غرفه الكثيرة ، كان بها من الزخارف والكوات المفتوحة في الجدران ، ما ينبأ بأنه لا يعود إلى زمن واحد ، غرف متداخلة ، موصدة أبوابها لاتفتح ، مهملة ، وموحشة ، وفارغة .. لا تقطنها سوى الرطوبة والخفافيش ، وبضع أثاث متهريء قديم .. تنطلق منها أصوات مبهمة ممزوجة بهمسات الريح وهزيمها ، أما أبوابها ألموغلة بالقدم ..فلقد كانت تتأوه معلنة عن هزيمتها ، وعجزها أمام السنين
بمواجهة الطارمة في ألأسفل ، حيث فرشت ألأرائك الخشبية أمام ألغرفة ألمظلمة في كل ساعات ألنهار ، تلك الغرفة التي تجلس ألوالدة فيها طوال أليوم ، تمتلك سلطانها وقوتها والكل يناديها بالوالدة ، إلا إنها لم تنجب إلا ابنة أصرت على أن تجنبها الزواج وتبعدها عن كل ألرجال ألراغبين فيها ، وإبنا يعيش عالمه الخاص ، بكل ما يكتنفه من غموض وأسرار ، لا يجرؤ أحد على ولوجه
كنت أدخل خلسة إلى غرفته فلقد إمتدت شجرة الرمان ، وإحتضنت تعريشة العنب ودفعتها لتركع أمام باب غرفته ألمنعزلة ، ألوحيدة على ألسطح ألجانبي ، يفتح لها بابان خشبيان ويرتقي إليها عبر سلمين حجريين ، وحدي التي أفعل ذلك ، أسترق لحظة إنشغال البيت عني ، حنين يملؤني في ذلك ألمكان ، ويبعثر إحساسي بالخوف ، فأبقى متوجسة من أن ترتطم يداي بأيِ شيء مما تحتويه ألأرفف ، والمنضدة من ألاف الكتب والتحفيات ، نوع من ألتوق القدسي يكتنفني ، ويبعثر كل هامات صمتي ألطويل ، منذ أن أتيت إلى هذه المدينة المنسية على حافة نهر دجلة ، ألمسورة بقلاع الهوس المجنون ، لأباطرة حطوا فترة وأنتهوا لا يذكرهم الزمان ، أرادوا أن يتحصنوا بجبال المنطقة العالية ، ليجنوا ألخلود ألأرعن
كان يضع مفتاح بابيه معي ، هكذا كان إتفاق غير معلن بيننا ، دخلت هذه المرة ، كانت ألعينان ألغارقتان في تساؤل مملوء بالحب ، وألتوق ، تنوس حوله رائحة قريبة من سحر ملائكي ، فيه إنباعثة ألخلق ألأول ، ارتعشت لظلال تلك ألسخرية ألمتهادية بين إستباقات ألحنين في نظرته ، إنبعث في المكان عطر سماوي قادم من بين طيات ألشعر ألكستنائي ألمتموج على جبينه المتغضن ، لازلت أتأرجح في مكاني تسري في أحاسيس تنقلني الى دنياه هو ، كان يحمل بين أصابعة سيجارته ألمشتعلة ، وشبح أبتسامته يعلن
- لازلت صبية أيتها ألغيمة ألمرعدة ..
ومن خلال ألنافذة ألوحيدة ألتي تشغل جزء من ألجدار ، ومن بعيد كان النهر ينساب رخيا وصوت خافت ينبعث من جهاز تسجيل ، تركه وحيدا في ألزاوية ألبعيدة ، جدران الغرفة ، مليئة بكتب فخمة وأوراق مكدسة ، خلعت حذائي ، ودخلت ينسرح فيً إيقاع عذب ،آه .. جسدي ، تحركه أيد سحرية ، رفعتني بلا هموم ، وكأني غصن طري تأخذه رعشات هنية، على ألسرير ألوحيد ، وقفت ودفعت يدي عاليا ، أريد أن أطول الشمس أو هكذا تخيلت ، تحيط بي غلالة بلون السماء ، قد يدخل أحدهم علي في أية لحظة ، لكني تناسيت هذا ألإحتمال ، وأنغرزت في دنياه الرهيفة ، تنفست عبقه ، إرتشفت كل لمحة منه ، حتى إني نزلت عن السرير وحومت حول كتبه ، التي تمتلك الحظوة في انه أجلسها في حضنه ، ومسد على صفحاتها ، والتهم كلماتها
في خضم صلاتي وتوقي إليه ، تناغمت خطواته العجلى على السلم الحجري
سيدخل ماذا أقول له ؟ ولماذا أنا هنا ؟؟
لم يلتفت الى وجودي الطاريء بل تحرك وكأنني حلم ، ضباب ، أي شيء
اخذ حقيبته
- سوف ارحل .. لا جدوى من بقائي هنا ، لا اعرف الى أين ؟؟ لكنني لن أبقى هنا ، في كل محطة أقف بها سأعلمك بطريقة ما ، هذه الغرفة ستكون لك أنت فقط ، كل ما بها لك
- لا .. توقف (تعجبت لجرأتي واندفاعي) لن تذهب
- ماذا .... ؟؟( افلت الحقيبة ) لم يعد لي مكان هنا ، يجب أن ارحل
خرج وسط ذهولي ، قامته الطويلة كانت آخر ماأرتسم حولي ، ما حدث بهذه السرعة أورثني الشلل .. شيء ما كالنزيف غدا يقطر من كل شرايين روحي
فجأة .. توقف جهاز التسجيل ، وتوقفت الموسيقى ، وكل شيء
حدث ذلك ويحدث في كل مرة أدخل بها في غرفته كل مرة ، يأخذ حقيبته ويرحل بعيدا عني ويتوقف بعده كل شيء
** ** **
عندما دخلت أحمل المغلف البريدي ، كان غارقا في عمله ، يضع قطعة مستطيلة صغيرة من الخشب ، التي ينضد ألعشرات منها الى جواره ، ثم يدقها على ألحائط ، ليثبتها بالمسامير بعد أن يكتب عليها بقلمه الخاص وبالحبر الأسود بضعة رموز ، حاولت كثيرا فك طلاسمها لكنها لم تمنح غموضها إلا له .. غير بعيد عنه ، جلست شابة صغيرة تقعي على ركبتيها وهي تتأوه ، تسندها إمرأة عجوز ، تخيم تحت عباءتها ألسوداء صامتة خلف إبنتها ، وبين لحظة وأخرى كان العم يضع كفيه حول رأسها الصغير ، يزداد تأوهها فيضغط بقوة أكبر ، يتلو عدد لا يحصى من الآيات ألقرآنية ..ثم يعود ليدق مسمارا جديدا على ألخشبة ، كان العمل مجهدا لسنواته السبعين ، وظهره المقوس ، لكنه كان يمارسه بقدسية لا حدود لها
وضعت المغلف إلى جانبه وهممت بالخروج ، فإستوقفني ، جلست إلى جواره وهو يتلو أدعية أسمعها منه في كل مرة ، يدق بها هذه الأخشاب ، التي غزت كل جدران غرفته ،وامتدت الى جدران الغرف الأخرى ، يرفع صوته بين الفينة وألاخرى مرتلا الآيات القرآنية بصوت تعب متهدج
بعد أن فرغ من مهمته ، قبلت المرأة وإبنتها يديه وإنصرفتا ، خلفتا ورائهما ضجة من الدعوات
حملني بعض ما جادت به المرأة من رزقها البسيط
هرول أمامي ، بقامته الهزيلة ، يتعثر بجلبابه الطويل ، وقد إنحرفت عمامته إلى الخلف وأوشكت على السقوط ، اختفى وسط ألممرات ألضيقة لغرف ألبيت المتداخلة ، لكني كنت أعرف انه يقصدها .. كلما ألمت بالبيت حادثة يلجـأ إليها في غرفتها الواسعة ، والتي نادرا ما تطلبني إليها .. نما بيننا جفاء عجيب منذ اليوم الأول الذي دخلت به هذه الدار ، حتى أني أكاد لا أتذكر تفاصيل غرفتها ، رغم أنها مقعدة لا تتحرك ، إلا لتتوكأ على ابنتها الشابة ، كي توصلها لقضاء حاجتها في ذلك المرحاض الضيق ، ألمخيف ، أمام برميل ألماء ألحديدي ، حيث تنتصب شجرة الرمان
كان علي مهما كان الوقت أن أملأ الإبريق ، واقف مرتجفة الى أن تنتهي تلك المهمة الصعبة وكثيرة هي ألمهام التي يوكلونها لي ، ولكن خارج غرفتها
دخل ألعم عليها ، ووقفت أنا لاهثة وراءه في الطارمة ، علت أصواتهما وتداخلت كان الظرف البريدي موضوع للجدل ، لم تند عنها تلك الصرخة المعهودة . بل كان بكاءا مرا موصولا وندب لحظها العاثر ، لم يخرج مهرولا كالعادة ، وهذا يعني أن مصير البيت ، وما سيؤول إليه رهن بما تريد
في ذلك أليوم ، وبعد منتصف الليل ، عندما سمعت ذلك الطرق الخفيف على باب غرفتي تجمد في كل شيء وما عدت قادرة على رفع إصبعي ، كنت في سريري غارقة في كتابي
وقبل أن يأخذني الخوف معه الى عالمه الممزوج بالهلع ، تناثرت حركة غريبة وثمة همسات قريبة ، أخذت تتعالى رويدا ، وطرقا خفيفا جعلني اهدأ قليلا
كانت تقف أمامي وأنا افتح لها الباب
- لماذا تغلقين الباب ؟؟
تعجبت لقدومها ، لأول مرة تكلمني بدون نظرات الشك والاستغراب ، بل إنها كثيرا ماتتحاشى الكلام معي
- تركتهما معا ، منذ أكثر من أربعين سنة وهو ينام بعيدا عنها .
- اليوم عادا الى النوم معا ؟ قلت أمازحها
ضحكت : بعد هذه السنين ؟؟ هه ، أبدا !! إنها تفخر بأنها أنجبتنا أنا وأخي دون أن تدعه يرى ساقيها .. ولكنها الرسالة ، يقول انه لن يعود ، لن نراه مجددا .. وسيرسل لنا ما يساعدنا على العيش ، وكأن أمواله ستبارك أيامنا وتقتل وحدتنا وشوقنا إليه ، التفتت إلي
ألم تنتهي من إكمال دراستك ، أم انك تكتبين له رسالة ؟؟
- من ..؟ اكتب لمن ؟
- لممدوح لقد أعطاك مفتاح غرفته ، اختارك أنت ، لكنه تركنا جميعا ، وأنت أيضا
كنت أحاول مدارة تشتتي وحزني ، فدعوتها للجلوس ..
عزفت عن ذلك قائلة بعد أن رفعت الكتاب الذي كنت أضعه طوال الوقت على صدري ،
- ابتعدي عن كتبه ففيها لعنة الرب ، إني أخشى عليك منها ..
دفعت إليها بالكتاب : انه لي ، ليس كتابه
- بل كتابه ، أشم فيه رائحته ، حتى رائحة هذه الغرفة أصبحت تشبه رائحته ، أنت أيضا أصبحت مثله .. هذا الصمت ، وعدم الرغبة بأي شيء ، وكأن جذوركما لاتمت الى هذا ألبيت ألممهور بالحزن والخراب بصلة
أرادت الخروج لكنها التفتت إلي قبل أن تغلق الباب ورائها
- إن كتبت له فقولي ، إنك فينا ، رائحتك تسكننا ، تبعثر هذا الشوق إليك وتلملمه ، وتمحي المسافات التي تقتلنا ، نريدك أنت ، تعب انتظارنا منا ، نريدك أنت فقط
كان ذلك البيت الكبير ،يملؤني بالخوف ، والرهبة ، والتي تحل بي منذ ساعات الغروب ، ومع ذلك الضوء القاتم من الشعاع الأحمر الغارق بالصمت ، ويزداد مع قدوم المساء ، إذ إنه بني في فترات طويلة ، و أزمنة مختلفة ، مما جعله لاينتمي الى طراز واحد ، وحدها تلك الباحة الصغيرة بشجرة الرمان الهرمة ، وتعريشة العنب المتدافعة معها ، تعلن عن حكايات من مروا بهذا البيت ، كل غرفة من غرفه الكثيرة ، كان بها من الزخارف والكوات المفتوحة في الجدران ، ما ينبأ بأنه لا يعود إلى زمن واحد ، غرف متداخلة ، موصدة أبوابها لاتفتح ، مهملة ، وموحشة ، وفارغة .. لا تقطنها سوى الرطوبة والخفافيش ، وبضع أثاث متهريء قديم .. تنطلق منها أصوات مبهمة ممزوجة بهمسات الريح وهزيمها ، أما أبوابها ألموغلة بالقدم ..فلقد كانت تتأوه معلنة عن هزيمتها ، وعجزها أمام السنين
بمواجهة الطارمة في ألأسفل ، حيث فرشت ألأرائك الخشبية أمام ألغرفة ألمظلمة في كل ساعات ألنهار ، تلك الغرفة التي تجلس ألوالدة فيها طوال أليوم ، تمتلك سلطانها وقوتها والكل يناديها بالوالدة ، إلا إنها لم تنجب إلا ابنة أصرت على أن تجنبها الزواج وتبعدها عن كل ألرجال ألراغبين فيها ، وإبنا يعيش عالمه الخاص ، بكل ما يكتنفه من غموض وأسرار ، لا يجرؤ أحد على ولوجه
كنت أدخل خلسة إلى غرفته فلقد إمتدت شجرة الرمان ، وإحتضنت تعريشة العنب ودفعتها لتركع أمام باب غرفته ألمنعزلة ، ألوحيدة على ألسطح ألجانبي ، يفتح لها بابان خشبيان ويرتقي إليها عبر سلمين حجريين ، وحدي التي أفعل ذلك ، أسترق لحظة إنشغال البيت عني ، حنين يملؤني في ذلك ألمكان ، ويبعثر إحساسي بالخوف ، فأبقى متوجسة من أن ترتطم يداي بأيِ شيء مما تحتويه ألأرفف ، والمنضدة من ألاف الكتب والتحفيات ، نوع من ألتوق القدسي يكتنفني ، ويبعثر كل هامات صمتي ألطويل ، منذ أن أتيت إلى هذه المدينة المنسية على حافة نهر دجلة ، ألمسورة بقلاع الهوس المجنون ، لأباطرة حطوا فترة وأنتهوا لا يذكرهم الزمان ، أرادوا أن يتحصنوا بجبال المنطقة العالية ، ليجنوا ألخلود ألأرعن
كان يضع مفتاح بابيه معي ، هكذا كان إتفاق غير معلن بيننا ، دخلت هذه المرة ، كانت ألعينان ألغارقتان في تساؤل مملوء بالحب ، وألتوق ، تنوس حوله رائحة قريبة من سحر ملائكي ، فيه إنباعثة ألخلق ألأول ، ارتعشت لظلال تلك ألسخرية ألمتهادية بين إستباقات ألحنين في نظرته ، إنبعث في المكان عطر سماوي قادم من بين طيات ألشعر ألكستنائي ألمتموج على جبينه المتغضن ، لازلت أتأرجح في مكاني تسري في أحاسيس تنقلني الى دنياه هو ، كان يحمل بين أصابعة سيجارته ألمشتعلة ، وشبح أبتسامته يعلن
- لازلت صبية أيتها ألغيمة ألمرعدة ..
ومن خلال ألنافذة ألوحيدة ألتي تشغل جزء من ألجدار ، ومن بعيد كان النهر ينساب رخيا وصوت خافت ينبعث من جهاز تسجيل ، تركه وحيدا في ألزاوية ألبعيدة ، جدران الغرفة ، مليئة بكتب فخمة وأوراق مكدسة ، خلعت حذائي ، ودخلت ينسرح فيً إيقاع عذب ،آه .. جسدي ، تحركه أيد سحرية ، رفعتني بلا هموم ، وكأني غصن طري تأخذه رعشات هنية، على ألسرير ألوحيد ، وقفت ودفعت يدي عاليا ، أريد أن أطول الشمس أو هكذا تخيلت ، تحيط بي غلالة بلون السماء ، قد يدخل أحدهم علي في أية لحظة ، لكني تناسيت هذا ألإحتمال ، وأنغرزت في دنياه الرهيفة ، تنفست عبقه ، إرتشفت كل لمحة منه ، حتى إني نزلت عن السرير وحومت حول كتبه ، التي تمتلك الحظوة في انه أجلسها في حضنه ، ومسد على صفحاتها ، والتهم كلماتها
في خضم صلاتي وتوقي إليه ، تناغمت خطواته العجلى على السلم الحجري
سيدخل ماذا أقول له ؟ ولماذا أنا هنا ؟؟
لم يلتفت الى وجودي الطاريء بل تحرك وكأنني حلم ، ضباب ، أي شيء
اخذ حقيبته
- سوف ارحل .. لا جدوى من بقائي هنا ، لا اعرف الى أين ؟؟ لكنني لن أبقى هنا ، في كل محطة أقف بها سأعلمك بطريقة ما ، هذه الغرفة ستكون لك أنت فقط ، كل ما بها لك
- لا .. توقف (تعجبت لجرأتي واندفاعي) لن تذهب
- ماذا .... ؟؟( افلت الحقيبة ) لم يعد لي مكان هنا ، يجب أن ارحل
خرج وسط ذهولي ، قامته الطويلة كانت آخر ماأرتسم حولي ، ما حدث بهذه السرعة أورثني الشلل .. شيء ما كالنزيف غدا يقطر من كل شرايين روحي
فجأة .. توقف جهاز التسجيل ، وتوقفت الموسيقى ، وكل شيء
حدث ذلك ويحدث في كل مرة أدخل بها في غرفته كل مرة ، يأخذ حقيبته ويرحل بعيدا عني ويتوقف بعده كل شيء
** ** **
عندما دخلت أحمل المغلف البريدي ، كان غارقا في عمله ، يضع قطعة مستطيلة صغيرة من الخشب ، التي ينضد ألعشرات منها الى جواره ، ثم يدقها على ألحائط ، ليثبتها بالمسامير بعد أن يكتب عليها بقلمه الخاص وبالحبر الأسود بضعة رموز ، حاولت كثيرا فك طلاسمها لكنها لم تمنح غموضها إلا له .. غير بعيد عنه ، جلست شابة صغيرة تقعي على ركبتيها وهي تتأوه ، تسندها إمرأة عجوز ، تخيم تحت عباءتها ألسوداء صامتة خلف إبنتها ، وبين لحظة وأخرى كان العم يضع كفيه حول رأسها الصغير ، يزداد تأوهها فيضغط بقوة أكبر ، يتلو عدد لا يحصى من الآيات ألقرآنية ..ثم يعود ليدق مسمارا جديدا على ألخشبة ، كان العمل مجهدا لسنواته السبعين ، وظهره المقوس ، لكنه كان يمارسه بقدسية لا حدود لها
وضعت المغلف إلى جانبه وهممت بالخروج ، فإستوقفني ، جلست إلى جواره وهو يتلو أدعية أسمعها منه في كل مرة ، يدق بها هذه الأخشاب ، التي غزت كل جدران غرفته ،وامتدت الى جدران الغرف الأخرى ، يرفع صوته بين الفينة وألاخرى مرتلا الآيات القرآنية بصوت تعب متهدج
بعد أن فرغ من مهمته ، قبلت المرأة وإبنتها يديه وإنصرفتا ، خلفتا ورائهما ضجة من الدعوات
حملني بعض ما جادت به المرأة من رزقها البسيط
هرول أمامي ، بقامته الهزيلة ، يتعثر بجلبابه الطويل ، وقد إنحرفت عمامته إلى الخلف وأوشكت على السقوط ، اختفى وسط ألممرات ألضيقة لغرف ألبيت المتداخلة ، لكني كنت أعرف انه يقصدها .. كلما ألمت بالبيت حادثة يلجـأ إليها في غرفتها الواسعة ، والتي نادرا ما تطلبني إليها .. نما بيننا جفاء عجيب منذ اليوم الأول الذي دخلت به هذه الدار ، حتى أني أكاد لا أتذكر تفاصيل غرفتها ، رغم أنها مقعدة لا تتحرك ، إلا لتتوكأ على ابنتها الشابة ، كي توصلها لقضاء حاجتها في ذلك المرحاض الضيق ، ألمخيف ، أمام برميل ألماء ألحديدي ، حيث تنتصب شجرة الرمان
كان علي مهما كان الوقت أن أملأ الإبريق ، واقف مرتجفة الى أن تنتهي تلك المهمة الصعبة وكثيرة هي ألمهام التي يوكلونها لي ، ولكن خارج غرفتها
دخل ألعم عليها ، ووقفت أنا لاهثة وراءه في الطارمة ، علت أصواتهما وتداخلت كان الظرف البريدي موضوع للجدل ، لم تند عنها تلك الصرخة المعهودة . بل كان بكاءا مرا موصولا وندب لحظها العاثر ، لم يخرج مهرولا كالعادة ، وهذا يعني أن مصير البيت ، وما سيؤول إليه رهن بما تريد
في ذلك أليوم ، وبعد منتصف الليل ، عندما سمعت ذلك الطرق الخفيف على باب غرفتي تجمد في كل شيء وما عدت قادرة على رفع إصبعي ، كنت في سريري غارقة في كتابي
وقبل أن يأخذني الخوف معه الى عالمه الممزوج بالهلع ، تناثرت حركة غريبة وثمة همسات قريبة ، أخذت تتعالى رويدا ، وطرقا خفيفا جعلني اهدأ قليلا
كانت تقف أمامي وأنا افتح لها الباب
- لماذا تغلقين الباب ؟؟
تعجبت لقدومها ، لأول مرة تكلمني بدون نظرات الشك والاستغراب ، بل إنها كثيرا ماتتحاشى الكلام معي
- تركتهما معا ، منذ أكثر من أربعين سنة وهو ينام بعيدا عنها .
- اليوم عادا الى النوم معا ؟ قلت أمازحها
ضحكت : بعد هذه السنين ؟؟ هه ، أبدا !! إنها تفخر بأنها أنجبتنا أنا وأخي دون أن تدعه يرى ساقيها .. ولكنها الرسالة ، يقول انه لن يعود ، لن نراه مجددا .. وسيرسل لنا ما يساعدنا على العيش ، وكأن أمواله ستبارك أيامنا وتقتل وحدتنا وشوقنا إليه ، التفتت إلي
ألم تنتهي من إكمال دراستك ، أم انك تكتبين له رسالة ؟؟
- من ..؟ اكتب لمن ؟
- لممدوح لقد أعطاك مفتاح غرفته ، اختارك أنت ، لكنه تركنا جميعا ، وأنت أيضا
كنت أحاول مدارة تشتتي وحزني ، فدعوتها للجلوس ..
عزفت عن ذلك قائلة بعد أن رفعت الكتاب الذي كنت أضعه طوال الوقت على صدري ،
- ابتعدي عن كتبه ففيها لعنة الرب ، إني أخشى عليك منها ..
دفعت إليها بالكتاب : انه لي ، ليس كتابه
- بل كتابه ، أشم فيه رائحته ، حتى رائحة هذه الغرفة أصبحت تشبه رائحته ، أنت أيضا أصبحت مثله .. هذا الصمت ، وعدم الرغبة بأي شيء ، وكأن جذوركما لاتمت الى هذا ألبيت ألممهور بالحزن والخراب بصلة
أرادت الخروج لكنها التفتت إلي قبل أن تغلق الباب ورائها
- إن كتبت له فقولي ، إنك فينا ، رائحتك تسكننا ، تبعثر هذا الشوق إليك وتلملمه ، وتمحي المسافات التي تقتلنا ، نريدك أنت ، تعب انتظارنا منا ، نريدك أنت فقط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق