الخميس، يوليو 10، 2008

تمزق

د. حنان فاروق
أكاد أجن..لا أصدق أن ما أعيش فيه يندرج تحت اسم (بيت)...عشرة أفراد..خمسة بنات وزوج وأبي وأمي وخادمة...منذ أن أفتح عيني فى الصباح وحتى أسلم عهدتهما في المساء لإغماءتي الليلية أتوزع عليهم وعندما أعود ألملمنى من بين أيديهم.. لا أستطيع..اتركنى وأنام نصف نوم ثم أعود لأبدأ المعركة من جديد...أمثل كل الأدوار دفعة واحدة ..زوجة..ابنة...أم ذات أنظمة خمس...مديرة بيت..

وأخيراً وأولاً معاً رئيسة عمل ملتزمة بتنفيذ برامج لا حصر لها..لا أحد يريحنى ..فبناتي الخمس تجذبنى كل واحدة منهن إلى مرحلتها العمرية من أربعيني...أبي وأمى طيلة الوقت يتراشقان الاتهامات ...أجد روحي تميل إلى والدى المنهك المثقل بحمل عمره وقلبه العصي الرافض استكمال المسيرة..

يرتفع صوت أمي فى وجهه تلومه على تكاسله واستسلامه لضعف سبعينه..يقفز غضبي من صدري إليها لتستفيق وعندما يصل لبوابة أمومتها يبتلع لسانه...ينفجر فى دمعة تنحدر من فتحة عيني تاركة إرث حزنها لنبضي المتسارع..تناديني خادمتى..تتألم..ماذا بها؟؟؟

أحملها إلى المشفى..يقررون لها عملية زائدة دودية..يعتصر قلبي صبرها وابتسامتها التي تغتصبها من براثن آهاتها لتهديها إلى..أعيد توزيعي على البيت والعمل والمشفى حتى تعود...رنين الهاتف يصيبني بالجنون..مرؤوساتي يستفسرن عن أشياء تخصهن..

زميلتى ذات الحساسية الزائدة عن الحد تشكو لي زميلاتها..تبكي..أربت على صوتها..رسالة قصيرة من مديرة إدارتى..(متى سترفعين إلىّ ما أنهيته من أعمال؟؟؟)....أجلس إلى حاسوبي أضع الرتوش الأخيرة لبرامج العمل المستعر..يمر بي زوجي ..يرشقنى بنظراته النارية...أثور ...أنشر أمام عينيه قاموس تمزقي..

يهز كتفه ويمضي..يعتصم فى غرفته..تنقسم بناتى فرقتين بينى وبينه ...أكمل عملي ..اغرسنى فى المطبخ وأعطى خادمتى إجازة ..أتوحد مع الأشغال الشاقة المنزلية..أذوب فيها..فقط لو أوقف هذا العقل المكوكي الذى لا يهدأ...تصرخ ابنتى ذات السنوات الثلاث تريد أن تأكل..أجهز لها الطعام..

ملعقتان فقط وتضرب عن الأكل...تنتقل إلى طلب ثان ..فثالث..تغار أختها الأكبر منها بخطوات..تتمسح بي..تبكي..تدعي المرض...أصرخ فيها..لا أحب الكذب..أشك أنها صادقة..أعانقها ...أطلقها لتلعب..أكلمها..أتركها بين أخواتها.

أراقبها عن بعد...يتوقف صراخها...يتسارع صوت أنفاس أبي...يحتله الشحوب..تخونه الكلمات..يشير إلى صدره..اقفز إليه..أصرخ على زوجي..نحمله إلى المشفى ..يخبرنا الطبيب أن الحالة سيئة وليس لها حل...يقتحم الانهيار روحي فأستمسك بثبات جسدي وملامحي حتى لا يلاحظ أبي..أعود به إلى البيت..أثبت نظرى عليه قدر استطاعتي..أحمّل صوره وضحكاته المقتنصة من بين آلامه ووجوده على حاسوب قلبي...وأضغط مفتاح الحفظ...ماهذا...فأرة جهازي لا تتحرك..

أحاول أن أذيب تجمدها...أضغط كل أزرارى..لا تستجيب... أنادي على أحدهم ليساعدني..لا يخرج صوتي...أمد يدي لأغلق أجهزتي وأفتحها مرة أخرى..لا أستطيع....لا أسمع..لا أرى...لا أتكلم....توقف كل شيء...استندت على حائط تعبي ..واستسلمت..

ليست هناك تعليقات: