الجمعة، أكتوبر 31، 2008

إبراهيم يحب الحياة



نادر أبو تامر

لم أظن بأني سأصاحبه. إبراهيم أكبر مني في العمر. بثلاثين سنة ربما. لكني بعد أوّل مقابلة لي معه لم أعد أنتبه إلى سنه.

في قريتي، كثيرون لم يتابعوا دراستهم الجامعية. كثيرون أنهوا الصف الثاني عشر. عدد لا بأس به منهم حصلوا على شهادة تمكنهم من الدخول إلى الجامعة، إلا أنهم لم يتسجلوا للجامعات.

لم أكن من هؤلاء.

ذهبت لوحدي. تركت قريتي البعيدة في الشمال. ركبت عدة باصات حتى وصلت إلى حيفا ومنها إلى الجامعة التي كنت أسمع عنها.

لم أعرف كيف أنتقل من قسم إلى آخر لأتسجل لدراسة اللغة العربية.

وفجأة ، بينما كنت أنقل نظراتي الحائرة والمترددة بين اللافتات على الأبنية العديدة التي تعج بها الجامعة لكشني شخص من كتفي. سألني عما أبحث. بعدما زلطت ريقي من شدة الخوف، سألته عن قسم اللغة العربية. فقال إنه قبل قليل عاد من هناك. ورافقني إلى السكرتيرة. حين طلبت مني بعض الأوراق، سارع هو إلى تصوير نسخة منها وعلى حسابه الخاص. في الكافيتيريا لم يقبل أن ادفع ثمن فنجان القهوة وكعكة الجبنة.

أبلغني أن اسمه إبراهيم. رجل وقور. هندامه أنيق. كرافته كحلية بخطوط بيضاء مائلة تكسر زرقة القميص الفاتحة. حسبته في البداية محاضرًا في الجامعة لأن عمره يزيد عن خمسين عاما. في قريتي، رجال في مثل عمره لا يذهبون إلى الجامعة، بل يلعبون الشدة والسنوكر ويشربون القهوة الحلوة عشرات المرات في النهار. يشتكون من البطالة. وإذا جاء العمل لا يعملون.

احترمته. واحترمته أكثر عندما أقلني بسيارته الجميلة إلى مساكن الطلاب. في الطريق أخبرني أنه دفع مبلغا إضافيًّا لكي يمتلك هذه السيارة. لماذا؟ سألته، فقال: لأن حوادث الطرق كثيرة في هذه الأيام، وهذه السيارة مصفحة. "هيكلها سيحميني في حال وقوع حادث طرق"، قال. بدا كلامه مقنعا، لكنني شككت. في الطريق علمت أنه يتعلم في الجامعة بعد ساعات الدوام في وظيفته في مدينة رام الله. فاحترمته أكثر. لم يسكن إبراهيم في مساكن الطلاب كما نفعل نحن، بل في منزله في القدس. كان بيته بسيطا، متواضعا، قديما، دافئا رغم البرودة الشديدة في الليالي، هذا ما حدثني هو عنه، واكتشفت في وقت لاحق أن كلّ كلمة قالها لي كانت في محلها.

وكانت زوجته "أم ديما" تبعث لي الكعك معه بشتى الأشكال والأنواع، وكان يلفه بعدة أكياس نايلون لكي لا يتسخ فرش السيارة. وكانت هذه هدية ثمينة لمن لا يستطيع أن يشتري أكثر من كيلو بطاطا يتفنن في تقشيرها للقلي والسلق والهرط والمرط والخبط والشبط، مرة مع بيض ومرة بدونه. لم يرزق "أبو ديما" ذكورًا. كانت لديه ثلاث بنات أمورات. وكان يتمنى أن يأتي الابن الذكر، لكن هذا الولد الذكر لم يأتِ. هذا ما قسمه الربّ.

كلّ مرة كنت أراه، كان يضيف إلى سيارته التي ستحميه لوازم إضافية. قطعة من هنا. قطعة من هناك. يصفح العجلات. يزيد مناعة هيكل السيارة ويصرف عليها الكثير لأن الحالة ميسورة والحمد لله.

ورغم أن إبراهيم لم يتغيب عن الدراسة خلال الفصل الأول والشهر الأول من الفصل الثاني فقد استغربت أنه في الأيام الأخيرة لم يأت إلى الدروس. وبما أن الفصل كان شتاء ظننته مزكومًا أو مفلوزًا، مبحوحا أو عنده حساسية، أو ربما بسبب التدفئة التي ركبها في سيارته المدللة. لم أستعجل للاتصال به لأنني قلت بيني وبين نفسي إنه سيعود في الأيام القليلة القادمة. فهو طالب لا يتغيب عن الدروس. كان معي رقم هاتفه في البيت. لم أسارع للاتصال به. انتظرت عدة أيام أخرى وعرفت بأنه لن يتصل بي، فلم يكن في غرفتي في مساكن الطلاب هاتف. لم يعرف أي واحد من زملائنا ماذا جرى لإبراهيم ولماذا تغيب طوال أسبوعين عن الدراسة، وعدا زميلة أخرى تركب على عينيها نظارة سميكة مثل قاعدة زجاجة الكولا، فهو الطالب الوحيد،الذي لم تفته أية محاضرة.

مع انتهاء الأسبوع الثاني ذهبت إلى بناية الهواتف في الجامعة. نزلت على الدرج وقلبي خائف ومتوجس. انتابتني قشعريرة مؤقته، بدون أن أعرف ما السبب. حاولت تجاهلها.

عندما نقرت رقم هاتف بيته توقعت أن يرد هو على المكالمة لأن الوقت كان مساء. ومن المفروض أن يكون في البيت بعد الدوام. لم أعرف ماذا سأقول له. هل اشتقت إلى كعكات أم ديما؟ أم أنني غير مرتاح في الجامعة بدون أخبار سيارته الأمينة والآمنة..

من الطرف الثاني لخط الهاتف أتاني صوت يقول ببطء غير طبيعي: ألو، مين؟

صديق إبراهيم من الجامعة...

نفس محدثتي ابتعد عن خط الهاتف وسمعتها وهي تحاول التقاط أنفاسها تقول

إبراهيم لا يستطيع التحدث..

ماذا؟

هل هو مسافر؟

نعم. مسافر. إلى مكان بعيد.

شعرت بضيق شديد في حلقي. لأنني تأكدت أن شيئا غير مطمئن قد حدث.

ثم تابعت زوجته: ألم تقرأ الخبر في الصحيفة.؟

قبل أن أخبرها بأنني لا اشتري الصحف يوميًّا، لأنني لا أمتلك النقود لذلك فأهلي بصعوبة يدفعون قسط التعليم، سارعت لأسالها: ماذا جرى؟ لم أنتبه للصحف هذا الأسبوع..

في الطريق من عند والده الذي ذهب لزيارته، شعر بضيق نفس ثم أوقف سيارته جانبا. وجدناه ميتا في سيارته. إصابته جلطة حادة. قتلته. لم يستطع مقاومتها. نعرف أنه يقدرك ويعزك. لم يكن رقمك معنا لنخبرك. ظنناك تقرأ الصحف....

بعد المكالمة. عدت إلى غرفتي. تلك الليلة لم أنم. لم أستطع أن لا أفكر بإبراهيم وبسيارته المدللة. وقررت أن أبدأ بشراء الصحف كلّ صباح..

تجدون المزيد من قصص نادر أبو تامر عبر العنوان التالي
nader.bettna.com
للمراسلة naderabutamer@gmail.com

ليست هناك تعليقات: