الخميس، أكتوبر 09، 2008

مؤسساتنا غائبة أم عقلنا غائب ؟

نبيل عودة
انطباعات من احتفال تدشين المركز للتكنلوجيا والهايتك في الناصرة
دعيت هذا الاسبوع ( 08 – 10 – 06 ) لحضور حفل تدشين المركز العربي الاسرائيلي للتكنلوجيا والهايتك في مدينة الناصرة .وأعترف اني ترددت في الحضور ، فأنا من جيل لم يعد لي ما أبحث عنه في عالم الهايتك ، عدا اتقان استعمالي للحاسوب ، ولكن دافع حب الاطلاع على التكنلوجيات الحديثة ورقي العلوم وفكرة المشروع الطليعية للوسط العربي ،في دولة يشكل فيها الهايتك (التكنلوجيات الدقيقه ) قوة وقيمة تنعكس بشكل ايجابي على الاقتصاد ونموه ، وعلى الدخل القومي ، وما يمثله هذا الفرع التكنلوجي الأكثر حداثة من آفاق حاسمة في التطور الاقتصادي والاجتماعي للبشرية ( يشكل 80% من صادرات اسرائيل ) جعلتني أقرر المشاركة مترددا ومتخوفا ان أخرج من الاحتفال ببعض الشعارات الجميلة التي تعودنا عليها في اجتماعات تنظيماتنا السياسية ومؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية ، لحد الإشباع والتخمة!!

من الأسماء التي ستتحدث لم أميز الا اسم بيبي نتنياهو ، رئيس حكومة ووزير مالية سابق ، وزعيم حزب الليكود .. وغني عن القول ان بيننا وبينه مساحة سياسية شاسعة .. ولكن بما أن الحديث عن مشروع اقتصادي للناصرة ، لم أعط للموضوع السياسي أهمية تجعلني أمتنع عن المشاركة. اذ أن قناعاتي اننا نكون بلا منطق سياسي أو فكر عملي ، اذا قاطعنا شخصيات السلطة التي لا مناص لنا ، من طرق أبوابهم وبقوة للحصول على ما نراه حقوق اساسية يجب تلبيتها !!

الأمر البارز بثقله الغريب ، ومن الوهلة الأولى ، غياب سلطاتنا المحلية وخاصة بلدية الناصرة ورئيس البلدية المهندس رامز جرايسي ، عن مثل هذا الاحتفال لتدشين مشروع مدني حضاري بالغ الأهمية على مصير مجتمعنا ورقيه الاقتصادي ، ومدى تأثير ذلك على واقعنا التعليمي والاجتماعي والتربوي ، وعلى تعميق المفاهيم المدنية الحضارية في مجتمعنا . وتبرز قوة هذا الغياب ، بعد الاستماع الى المحاضرة الممتازة للدكتور يرون زليخا رئيس المركز .

ما أثار احترامي وتقديري ، هو الموضوعية والعقلانية التي ميزت المتحدثين ، واساسا حديث رئيس المركز زليخا والسيد عمر الزعبي رئيس مجلس الادارة للمشروع ، والمبادر له .وأيضا اريد ان اضيف اني لأول مرة أنصت لبيبي نتنياهو دون أن يثير ردود فعلي السلبية ، بل أقول وبوضوح ، ان خطابه كان متزنا واضحا عقلانيا ومسؤولا .. وان مثل هذا الخطاب اذا استعمله السياسيون ، سيجدون ان أبواب التفاهم والسلام والتقدم وبناء شرق أوسط جديد متطور لمصلحة كل شعوبه ، وخلو من الخوف والعنف والدماء ، قد اضحت مشرعة وجاهزة للعمل والتنفيذ .

الحقائق التي طرحها الدكتور يارون زليخا لا تفسر على وجهين ... وأضيف لست الآن في باب توجيه اتهامات حول التمييز القومي ... الحقيقة لا تحتاج الى المزيد من الطرح . السؤال ، هل استمرار الواقع الفقير بسبب سياسات التمييز يخدم الاقتصاد الاسرائيلي أم بات يشكل عوائق كبيرة على استمرار نموه وتقدمه ؟

اذا نظرنا للموضوع من هذه الزاوية ، وانا لم أجد زاوية أخرى ، نصل الى ان ما يشكل الاستراتيجية الاقتصادية وراء مشروع الهايتك في الناصرة ، المدعوم من تشكيلة شركات اسرائيلية ودولية تعمل في اسرائيل وتعتبر في طليعة شركات الهايتك تقدما وتصديرا .. هي استغلال القدرات الكامنة في المجتمع العربي في اسرائيل ( عرب 48 حتى لا يزعل البعض !!) ، استغلال الرأسمال الأهم ، الرأسمال البشري ، ليس من أجل اعطاء دفعة تطوير للعرب في اسرائيل فقط ، بل لأن ابقاء 20% من المواطنين ، خارج عملية الانتاج القومي ، في أي دولة كانت ، هو خسارة تنعكس على نمو الدولة الاقتصادي ، وبغض النظر عن المفاهيم السياسية التي قد نريق دم بعضنا البعض حولها.

اذن تعالوا نتحدث بلغة المال الذي لا لون له ولا قومية له .

اسرائيل سجلت في السنوات الأخيرة نموا هاما للفرد ، وصل الى 3% بالمعدل السنوي . حصة العرب كانت أقل بالنصف ، لسبب أساسي ان المجتمع العربي لم يشارك في الانتاج القومي للدولة . طبعا سنجد اسبابا سياسية ، لا أنفيها ، ولكن تعالوا نواصل حديث المال .نفس الأمر يسود المجتمع الحرادي ( اليهودي الديني المتعصب ، غير المشارك أيضا بعملية الانتاج القومي ) أي ان حصة الفرد اليهودي أكثر عمليا من 3% ..

متوسط الأجور في مجال الهايتك هو أكثر بثلات مرات من متوسط الأجور في اسرائيل ، ولكنه أكثر بأربع مرات من متوسط الأجور في الوسط العربي في اسرائيل .أي ان الفقر يزداد اتساعا . السبب ان المجتمع العربي ، رغم ارتفاع مستوى التعليم ، ونسبة الأكاديميين من أفراده أن الا ان التوجه الأساسي ليس للتكنلوجيات والهايتك .. حقا هناك اسباب عدة ، أهمها البحث عن عمل مستقل في الظروف السيئة التي تسود الواقع الاسرائيلي التمييزي . وهكذا يتبين انه من بين 200 الف عامل هايتك ، يتقاضون بالمتوسط 20 الف شيكل شهريا ( 5500 – 6000 دولار ) يوجد 300 عربي فقط .. ليس لأن الشركات لا تريد عربا ، بل لأن المتوجهين لهذا المجال العلمي من العرب في اسرائيل قليلون ، مما يضطر الشركات الى استيراد عمال من الهند والصين وغيرها من الدول ، مما يكلفهم مصاريف أكثر من عمال عرب من اسرائيل. هذا ينعكس أيضا سلبا بعدم وجود شركات هايتك عربية واستثمارات مالية لهذه الشركات .وهذا ، كما أوضح جميع المحاضرين ، ينعكس سلبا على النمو الاقتصادي كله ، اي انه المسألة ليست مساواة وتفضيل تمييزي للعرب ، بل لها أسم واحد " المال " . المال هو المفتاح للشركات وليست المشاكل السياسية والقومية . المال الاضافي سينعكس ايجابيا على المجتمع الذي يدخله . هذا ليس سياسة بل اقتصاد . الاقتصاد يقرر السياسة .

المجتمع العربي في اسرائيل يعاني من اتساع الفجوة مع المجتمع اليهودي من حيث ارتفاع مستوى الحياة ، معلومة صغيرة قيلت بأن حصة الفرد من الدخل القومي الاسرائيلي في السنة وصلت الى 24 – 25 الف دولار للفرد . من المحزن ان حصة المواطن العربي ( واليهودي الحرادي ) من هذا النمو هي بين 8 – 10 الاف دولار ، أي ان المواطن اليهودي حصته ترتفع حسب هذا الوضع الى 30 – 31 الف دولار ، والسبب الأساسي هو عدم المشاركة في النمو الاقتصادي، وفي المجالات الإقتصادية ذات الربحية المرتفعة .

ان حضور مسؤولين عرب كان سيكون ايجابيا بشكل مطلق لفهم أهمية المشروع الأول من نوعه في الوسط العربي . لسباب عدة :

أولا : لفهم أهمية تطوير مبنى التعليم العربي ،بحيث يتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الاسرائيلي. وعلى راس ذلك تعميق موضوع التعليم التكنلوجي في مدارسنا .، وهذه قضية حاسمة في سد الفجوات مع المجتمع اليهودي أيضا.

ثانيا : التوجيه لدراسة المواضيع ذات الثقل الاقتصادي الهائل في عالمنا الحديث ، الهندسة الألكترونية والهايتك .

ثالثا : بدء التوظيفات في هذه الصناعة الحديثة بالتعاون مع مستثمرين يهود أو أجانب .

هناك تفكير سائد ، وقد كنت من أصحابه ، بأن الهايتك يتركز اساسا بالصناعات العسكرية ، ولكن الحقائق تقول شيئا آخر ... فقط 5% من الهايتك يتعلق بالقضايا العسكرية ( في اسرائيل ) و95% لا علاقة له بالجيش والأمن والعسكرة ، بل بالانتاج المدني الصرف . وكما أوضح ذلك المتحدثون ، هذا كان صحيحا قبل 30 سنة ..ولكن من وقتها بدأ الهايتك يتحول الى صناعات مدنية بالأساس وبتسارع مذهل ، ونحن بقينا في قديمنا ، نعيش بين شعاراتنا العنترية ، نزداد فقرا وتخلفا .. ان رفع مستوى الحياة في مجتمعنا يرفع وعينا ويزيدنا اصرارا على المزيد من الحقوق اليومية والقومية وليس العكس.

السؤال المركزي الذي لفت انتباهي ، الا يستحق هذا الموضوع اقامة هيئة عربية من الخبراء والمسؤولين في سلطاتنا المحلية ومؤسساتنا التعليمية لوضع خطة تطوير التعليم وتعميق التوجيه للصناعات الحديثة المطلوبة بالحاح في عالم اليوم ؟

والأهم كيف يغيب عن تنظيماتنا المدنية ومؤسساتنا الرسمية والشعبية مثل هذه المواضيع ؟ ما الذي اشغلكم في السنوات الثلاثين الماضية ؟ ما هي الانجازات التي تفاخرون بها ؟ وأين أنتم غائبون من المبادرة والدفع نحو تطوير التعليم بما يتلاءم مع الطلب في سوق العمل ؟ هل تظنون ان القيادة هي الثرثرة السياسية فقط ؟

أطرح مواقفي بوضوح ، وأعرف ان بعض التافهين سيرون بما أطرحه تهاونا وطنيا .. لا يا سادة ، ان ما أطرحه هو في قمة الغيرة الوطنية والمصلحة القومية .

بقاء مجتمعنا فقيرا ليس سياسة حكومية عنصرية فقط ، بل أضحى مسؤولية كل تنظيم مدني أو مؤسسة رسمية أو شعبية . مجتمع حصته في الانتاج لا تتعدى نصف حصة الآخرين لن يحصل على ميزانيات مشابهة . هذا واقع اقتصادي يجب ان نفهمه . ان اندماجنا الصحيح في الحياة الاقتصادية ، بمجالاتها الأكثر تطورا ، هو مفتاح للمزيد من القوة لمطالبنا الوطنية أيضا ، ومزيد من القوة لمجتمعنا ومدخولاتنا وقدرتنا على نهج سياسي وطني متنور وسليم في الواقع المعقد الذي نعيشه. وهو حل للكثير من المعاضل الأخلاقية التي بدأت تفسخ مجتمعنا وتدفعه للحضيض . والمال ، كما يقول المثل العربي ، يجر المال !!

ان تطوير الاقتصاد الاسرائيلي ، كما أقر بذلك بيبي نتنياهو .. يفرض تطوير الدخل الفردي للعرب في اسرائيل بالقياس لمجمل الدخل القومي الاسرائيلي .

آمل ان لا أسمع من الهراطقة القومجيين نقدا قوميا ، لأن ما أطرحه هو موضوع يتعلق بمستقبل أبنائنا .. برفع شأن مجتمعنا وقوتنا الاقتصادية ،هذا هو الأمر الحاسم في السياسة أيضا ... وبالتالي لمن يفهم ويستوعب ، بدون ذلك لا قيمة لكل مطالبنا السياسية... ولا قيمة لمواقفنا حتى لو صار لنا عشرون عضو كنيست !!

ليست هناك تعليقات: