محمد محمد على جنيدي
كان الأستاذ صادق مُهيباً مُرعِباً لنا جميعاً لدرجة أنَّه مِنْ فرط شدَّته إذا ما اشتدَّ صياحنا ولهونا أثناء استراحة الفسحة، يطلق صُفارته، ليقوم الفرَّاش والسَّاعي برفع تلامذة المدرسة له الواحد تلو الآخر.. فيضربُ مئات الأطفال بعصاةٍ واحدة، فإذا ما خيَّم الصَّمتُ على المدرسة كُلِّها استراح وأراح الأطفال مِنْ حِمَمِه وثوراته الغير محسوبة، هكذا كان يتَسَلَّى بنا أو رُبَّما كان يعتقد بـأنَّه يصنع لمستقبلنا شيئاً مُهِمّاً، وذات يومٍ وعلى غير ميعادٍ حضر بفصلنا.. وحينما كان يحدث ذلك تنشط حالات التَّبَوُّل اللاإرادي، وتتَخَبَّطُ الأقدام.. حتَّى يكاد يبتلع كُلٌّ مِنّا لسانه.
قال ونحن وقوفٌ بين يديه: من منكم ابن رجل؟
ثم صاغها لنا بعبارة أخرى فقال: إن كان فيكم ابن رجل فليخرج لي.
نظرتُ حولي لأستطلع وجوه زملائي - ولكن – يا للعار الَّذي لَحِق بنا.. فلا صوتاً أسمعه ولا همساً أشعر به
ولا أيَّ حراكٍ يُنْبِي عن حياةٍ فينا - وهنا - شخصتْ صورة والدي في خاطري مُعاتِباً لي: ألم أكن بنظرك رَجُلاً يا مُحَمَّد، فانطلق لساني على غيرِ تمهيد يقول له: نعم أنا ابن رجل.
فضحك بصوتٍ كاد يطيح بي وبزملائي ثم قال ساخراً: اخرج لي يا ابنَ الرجل - وبما أنَّ - ما حدث مِنِّي فقد حدث وأن ليس هناك في اعتقادي أن أنعت والدي بجنسٍ آخر غير الَّذي خلقه الله عليه، خرجتُ له غير عابئ بمصيري معه - وبالطَّبع - نادَى كالعادة على السَّاعي والفرَّاش فأمسكاني، ووضعاني على الأرض وخلعا لي الحِذاء والجراب ثمَّ أحدُهم ضغط بكتفي له على الأرض والآخر أدخل قدماي داخل المنضدة ثمَّ رفعاهما للأستاذ وهو على ثورته ما يزال يطيح بعصاته شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لا يهدأ ولا يسكت عن الوعيدِ تارة والتَّحذير تارة أخرى مُرَدِّداً: أأنت ابن رَجُل، وأنا بملء شدقي أُرَدِّدُ: نعم أنا ابن رجل .
وبعدما لم يُفلح في زرع الرُّعب بداخلي أو بعد ما تأكَّد من ثباتي وشجاعتي كما يريد قال: انزلاه
ثمَّ أمرني بالدُّخول إلى مكاني.. كما أمر جميع من بالفصل: أن اهتفوا لزميلكم ( عاش البطل(
فصنعوا وشعرتُ بالفخر أكثر عندما كاد جدران الفصل يميل من قوَّةِ التَّصفيق - ولكنَّه - فاجأني!! عندما قال مُعاتِباً زملائي: فصلٌ به أربعون تلميذاً لا يوجد به إلّا رجلٌ واحد ثمَّ أمر الجميع بفتح يدِه، فعاجلتُه بقولي: أستاذي أرجوك.. أبقِ على حفاوتك بي ولا تضربْهم بسببي، فقال: أنت لستَ سبباً في ضربهم قلت: بل أنا الدافع لعقوبتهم لشجاعتي.
فلم يُعير لقولي اهتماماً - وبحقٍّ - كانت هذه اللحظة هي ميلاد شعوري بالخوف.. إذ أخذ يضربهم الواحد تلو الآخر, وأنا أُتَمْتِمُ بصوتٍ مسموع: تَبّاً لشجاعتي، فقد كانت سبباً في تعذيب زملائي!!
الخميس، أكتوبر 02، 2008
عاش البطل
Labels:
محمد جنيدي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق