الخميس، أكتوبر 09، 2008

حين يتوهم الكاتب أنه كبير

د. حبيب بولس

لقد عاش شعبنا, بعد عام النكبة, ظروفا صعبة. فالحالة تبدلت إذ بعد أن كنا أصحاب ارض وملاكين صرنا عاملين وأجيرين. ومع تبدل الحالة تبدل كل شيء. واقع صعب اقتصاديا, خوف, رهبة, ظلم تمييز, فقر إلى آخر هذه المتوالية, بالإضافة إلى محاولات دائبة من قبل السلطة لتدجيننا ولتذويبنا ولطمس معالم حضارتنا. في خضم كل ذلك تحولنا من أكثرية إلى أقلية, فمن بقي متشبثا بأرضه هم قلة قليلة من شعب كبير عاشت أكثريتها في القرى. وهكذا صرنا مجتمعا صغيرا يكاد يخلو من المثقفين والأدباء والشعراء لأن معظم هؤلاء إما هجروا أو هاجروا.

وللحقيقة الموضوعية والتاريخية أقول انه لولا الدور الذي قام به الحزب الشيوعي في حينه وذلك من خلال صحافته الثورية التقدمية لخسرنا الكثير ولأضعنا البوصلة. فهذه الصحافة بما كانت تنشره من توعية قومية وطنية ومن أدب ثوري تنويري استطاعت ان تزرع فينا الثبات والصمود رغم الحاصل, كما انها استطاعت ان تكون حلقة وصل بيننا وبين شقيّ شعبنا الفلسطيني من جهة أخرى.

في ظل ظروف كالتي وصفناها كانت عملية التعليم تسير ببطء وذلك لأن الحالة المادية لم تكن تسمح, إضافة إلى المناهج التدريسية المضللة والموجهة والغثة, والى شح الكتب. ولكن رغم هذا الحصار على تنويعاته استطاع نفر منا بقوته وبصموده ان يشق طريقه وان يكسر الحصار رغم العقبات والعراقيل ليصل إلى منزله لا بأس بها علميا وأدبيا وثقافيا.

مع هجرة وتهجير عدد كبير من أدبائنا ومثقفينا كما أسلفت, ومع القطيعة القسريه التي حدثت, صار الواحد منا يشتهي ان يرى بزوغ اسم لأديب محلي جديد. وكان الدور في حينه منوطة أعباؤه بجيل المخضرمين على قلتهم اعني الجيل الذي عاش قبل النكبة وفي خضمها وبعدها, فهذا الجيل أي جيل الاستمرار كان عليه عبء تكملة المشوار, وعبء التشجيع للأقلام المحلية الواعدة- مهما كان مستواها على أمل انها سوف تقوى وتصلب مع الزمن. وهكذا وعلى خلفية ما بذله هؤلاء نشأ جيل جديد من الأدباء مع بداية الستينات وراح ينشر إبداعه في صحافتنا المحلية, التي انقسمت في حينه إلى صحافة ثورية وأخرى سلطوية. وكنا نتحمس لهذا النشر ولا نستطيع ان نفرق بين غثة وسمينه, لقلة درايتنا ووعينا, ولكن بعد حين بدأت عملية الغربلة فصمد من صمد وصمت من صمت. واستمر الذين صمدوا بالنشر على قلتهم وبسبب قلة المبدعين من جهة وبسبب انعدام الناقد الموضوعي من جهة أخرى وبسبب التشجيع من ثالثة راجت أسماء بعض الكتاب مع أن ما كتبه بعضهم لم يكن يثبت للمعيار النقدي الصحيح. ولأن العالم العربي كان متعاطفا مع قضيتنا ويتعطش لسماع صوتناتسربت أسماء البعض إلى هناك عن طريق اللقاءات والمؤتمرات العالمية والحزبية في أوروبا. وقد تلقى إخواننا العرب هذا الإنتاج الأدبي بالتهليل والترحيب المبالغ فيهما لأنهم لم ينظروا إلى هذا الإنتاج نقديا بل نظروا إليه عاطفيا, وقد وصف شاعرنا الكبير محمود درويش هذه الحالة بصرخته الذكية. " أنقذونا من هذا الحب القاسي". وأكاد أقول "الحب القاتل" فهذا الحب وهذا التهليل أضاع عندنا البوصلة, حيث صار بعض من وصل أدبهم إلى هناك يعتقد انه كاتب كبير مع ان أدبه لا يستقيم مع المعايير النقدية العلمية الموضوعية. وحين يتوهم الكاتب انه صار كبيرا وهو ما زال في بداية الطريق تكون الكارثة. وهذا ما حصل لكثير من الزعانف الأدبية عندنا. فللأسباب التي ذكرتها- قلة المبدعين/ قلة النقاد/ التعاطف العربي, صارت هذه الزعنفة تدعى إلى الندوات والمحاضرات وصارت تنشر ما يستحق وما لا يستحق. بل صارت تحظى بترجمات أيضا. وقد لعب الانتماء السياسي والحزبي دوره في هذا المجال لدرجة ان هذا الانتماء روج لأسماء لا تستحق وغيب أسماء تستحق الكثير.

على خلفية ما كان إذن والى جانب هجرة بعض الأدباء الكبار وصمت بعضهم لأسباب معينة, تسلقت زعانف كثيرة واستغلت الفراغ وأتقنت لعبة الانتماء. وبعد عقد من الزمن حين لم تجد هذه الزعانف من يردها أو من ينتقد أدبياتها, حسبت نفسها توهمت انها أدباء لذلك كل شيء إذا مباح لها.

بحيث صار الواحد منهم ينظر للآخرين الذين يوازونه أو الذين يتفوقون عليه من عل, طالما ان انتماءه الحزبي يحميه. كما صار يرى نفسه فوق النقد والتوجيه فهو أديب كبير أليس كذلك؟ وهذا الأمر بالذات أوقع صاحبنا بعقدة النرجسية فصار لا يقرأ سوى نفسه ويرى كل شيء عداه صغيرا تافها, ويهاجم النقاد الذين تطرقوا إلى أدبه أو إلى بعض سلبيات أدبه, لأنه اعتاد التهليل والتصفيق كل ما جادت قريحته/ عبقريته. فكيف ينتقد إذن؟

أدباء من هذا النوع اعتمدوا على ما كان من فراغ وركود أدبي ثقافي والذين أصيبوا بالنرجسية لم يستطيعوا تقويم أدبهم أو أنفسهم, صار الواحد منهم يعتمد على اسمه حتى ولو نشر أدبا ساقطا, فهذا ليس مهما, المهم هو ان يظل اسمه فوق صفحات الجرائد والمجلات, ولو ظل الأمر هكذا لكان أهون, إنما راح بعض هؤلاء يشعرون بأنهم كبار ليس أدبيا فقط بل اجتماعيا وسياسيا أيضا, لذلك على هذا الشعب (البسيط) ان يقدر دورهم ان يبؤاهم أعلى المراكز وان يفتح لهم خزائن المال. وحين اكتشف هؤلاء ان الأمر ليس سهلا كما اعتقدوا صاروا يتنقلون بين المدارج والمذاهب السياسية دون ان يعملوا حسابا لأحد فهم كبار. وصار الواحد مستعدا لبيع عجيزته من اجل منصب أو من اجل حفنة مال, وقد اعتمدوا في ذلك على سرعة غفران شعبنا أو نسيانه, فأنت ترى الواحد منهم يتقافز من أقصى اليمين كالمفدال مثلا إلى أقصى اليسار كالحزب الشيوعي وغيره وبالعكس مستغلا المرحلة فحين كان اليمين يصول في الوسط العربي وقف معه وان رأى إلا فائدة من ذلك وان الأنسب هو الانتقال إلى اليسار مثلا وقف مع الحزب الشيوعي وحين خيّب الشيوعيون ظنه بعد ان جربوه واكتشفوا فشله, غضب عليهم واستقال ولفهلويته الزائدة لم ير ان الفشل كامن فيه بل دائما في غيره لذلك يلوم الناس ولا يلوم نفسه فهو أديب كبير!! والأديب الكبير لا يحاسبه احد فهو حر في انتمائه, حر في مبادئه, لا احد يحق له معاتبته.

له ان يبيع المبادئ كيفما اتفق وعلى الكل ان يصمتوا أمام عبقريته, عليهم ان ينتظروا موقفه ليتبعوه. ونسي هذا الكبير أو الواهم أن الناس أذكى منه, وان لعبته ستنكشف وان القناع سيسقط إذ ان خداع الآخرين مهما طال له نهاية. صحيح ان شعبنا مؤدب ولكن للأدب حدود. وحين سقط القناع عن وجهه الكالح وعن مواقفه الزائفة ومع نشوء جيل جديد من الأدباء ثبتوا أقدامهم وصارت لهم أهميتهم وتفوق الكثير منهم على هذا الأديب الكبير راح يشتم العصر وأهله وأحزابه معا, ويأنف من قراءة غيره, فهو لا يرى أمامه سوى مراة يتملى فيها نفسه, حتى مرض وصار يتوهم انه ينافس الكبار فيغضب لكل خبر عنهم أو لكل مكسب أدبي أو جائزة يحصلون عليها, ونسي حقيقته انه مجرد زعنفة أفادتها ظروف مرحلة فتسلق عليها, ولان الزعنفة لا تسعى إلى تطوير نفسها نراها اليوم رغم توهمها صامتة وان كتبت فإنها تكتب أشياء ممجوجة مكرورة لا جديد فيها مضمونا وشكلا. والويل لمن يخالف الزعنفة الرأي عندها يصير عدوا ويروج لعداوته ولا تتورع الزعنفة عن شتمه في كل محضر حتى يتقزز السامع من هذا المستوى الرفيع!!

انها ظاهرة أدبية مقلقة يجب علينا اجتثاثها من جذورها. ليس هناك كبير على الأدب والإبداع بل هناك متعلم دائم, يسعى إلى تطوير نفسه وأدواته وعلى الأديب رغم ما يلقاه من تملق وتصفيق ان يعرف قدر نفسه, عليه ان يقراْ ويقراْ ليرى أين يقف وكيف يتطور. فالأقنعة مهما اخفت وراءها من الزيف مصيرها السقوط. ولذلك الواهم بأنه كبير نقول له لقد خدمك الحظ في مرحلة ما ولو كانت بداياتك الآن لاختلف الأمر. فبين هجرة البعض وصمت الآخر تسلقت فكيف لو نطق الصامتون وعاد المهجرون؟! أين ستكون وكيف ستصير؟

رحم الله رجلا عرف قدر نفسه؟

drhbolus@yahoo.com

د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .

ليست هناك تعليقات: