الجمعة، أكتوبر 24، 2008

عن الرؤوس والقنانير

د. حبيب بولس

ثبت بعد التجربة أننا شعب نحب الزعامة وتفتننا الرئاسة انظروا إلى عالمنا العربي . فكل شيء هناك مغيب إلا الرئيس/الزعيم , بحيث لا تسمع عن وزير أو سياسي أو رجل دوله مهما أبدع الواحد منهم, ومهما ضحى. كل ما نسمعه هو اسم "الرئيس/الزعيم , حيث كل شيء مربوط به وبرضاه. وهذا الرئيس/الزعيم. كأنه يعيش في فراغ , لا قاعدة عنده , هو لوحده موجود وهو وحده الذي يقرر يأمر وينهى.

وهذا الأمر المشار إليه سابقا ينسحب أيضا على المؤسسات , فكما هو الأمر في الدولة الكبرى كذلك في المؤسسات إذ ليس مهما المؤسسة ولا الأعضاء فيها , ليس مهما من هم هؤلاء الأعضاء , ماذا يفعلون؟ إنما كل ما يعلق بأذهاننا هو رئيس المؤسسة , فهو الكل بالكل , سواء أكانت هذه المؤسسة رسميه أو وطنيه أو اجتماعيه أو ثقافيه ,الخ.....

ومثلما هو الأمر في المؤسسات كذلك في الأحزاب , التي من المفروض أن تنبني على أسس ديمقراطيه وقواعد متينة . ولكننا للأسف نجد أنها هي الأخرى تدور في فلك الرئاسة/الزعامة.

هذا الأمر اعني التعلق بالرئيس/بالزعيم. وتغييب القواعد التي أنتجت هذا الرئيس /الزعيم أو ذاك,أمر يدعو للدهشة وللاستغراب .

إذ ما فائدة رئيس /زعيم بلا قاعدة تدعمه."ما فائدة ملك بدون مملكه وشعب".

كما قال"اوديبوس الملك" في مسرحية "سوفو كليس" المشهورة هل نحن شعب نحب الفر دانية وننفر من الجماعية ؟ الثابت نعم على ما يبدو . وان كنت لا تصدق , احضر اجتماعا ما ترَ أن النزعة الفر دانية هي الطاغية, وكلمة"أنا" هي المسيطرة.

أليس هذا دليلا قويا على تكريس ظاهرة الفر دانية المتفشية بيننا؟! وأليس هذا أيضا السبب الأساسي في قضية تشرذمنا وانقساماتنا , وحب الاثره عندنا ؟! والابتعاد عن الروح الجماعية والتضحية لأجلها؟

المهم هو أنا . أنا بخير إذن الدنيا بخير , ومن بعدي فليكن الطوفان, ألا يخالف هذا الأمر كل الثوابت التي تدعو إليها الديمقراطية من جهة؟ ألا يبرهن هذا الأمر على أننا ننفر من الروح الجماعية ومن التعاون المشترك الذي هو سبب نجاح الأمم من جهة أخرى .

في مدينته "الفاضلة" يرينا الفيلسوف الكبير "الفارابي" المعلم الثاني بعد أرسطو كما أطلقوا عليه غربا وشرقا ناسا اجتماعيين يؤثرون خير الجماعة على خير ذواتهم , وهم متعاونون معا,

بشكل هرمي منظم يتصل رأسه اتصالا شديدا محكما متقنا بوسائط مترابطة متشابكة, متفاعلة بقاعدته, يسودهم العدل على أساس الخير والمعرفة, وهو لا يرى رئيس هذه "المدينة الفاضلة"

مستحقا لرئاسة الهرم الاجتماعي إلا أن يكون تام أعضاء الجسم , حسن الفهم والتصور, جيد الحفظ لما يفهم , ذكيًّا حادَّ الذكاء , فهيما, لطيف الأداء , محبا للعلم وللاستفادة لا يؤذيه تعب العلم ولا يؤذيه الكد الذي ينال منه , غير طامع نهم شره , محبا للصدق وأهله مبغضا للكذب وأهله, كبير النفس,محبا للكرامة, تكبر نفسه عن كل ما يشين من الأمور, محبا بطبعه للعدل وأهله.

ويحس "الفارابي" أن إنسانا فردا تجتمع له هذه الخصال جميعا, قد يكون نادر الوجود في المجتمع, فليكن معه رئيس آخر أو فليكن "للمدينة الفاضلة" عدة رؤساء تتجمع فيهم هذه الخصال حتى تكون المدينة الفاضلة حقا برئاستهم , مجتمعين مؤتلفين , يكمل بعضهم بعضا, فلا سيطرة ولا استبداد ولا طغيان لفرد على مجموع".

على ضوء ما تقدم نفحص أنفسنا" وهذا الفيلسوف الفذ الذي عاش بعد منتصف القرن التاسع , حتى منتصف العاشر , يقدم لنا نظره لمجتمع يسعى إلى خير الجماعة ولا يكرس الفر دانيه ومجتمع الفارابي ورؤياه أفادت منهما شعوب الأرض , عدا شعبنا والحمد لله, فنحن أخذنا من رؤياه /مدينته, ما له علاقة بالرئيس وليت الأمر كذلك , بل أخذنا منها ما هو نقيض مفهوم الرئاسة عنده, ونصبنا على أنفسنا مؤسسات وأحزابا ودولا وهيئات رؤساء يتحلون بصفات غير الصفات المذكورة , وان كان في رؤسائنا بعضها قبل اختيارهم, فقد اختفت بعد ذلك . إذ أين تجد التعاون وأين تجد إنكار الذات من اجل مصلحة المجموع ؟!! أين تجد الاتصال الشديد المحكم المتقن بين الرئيس والقاعدة؟!

نظرة طائره على الحاصل عندنا تجد العكس , بل انك تجد أكثر من العكس فما هو حاصل في دولنا ومؤسساتنا هو ضد ما ذكر ونقيضه تماما . فأنت تجد الفر دانيه هي الطاغية , والاستئثار هو السائد , وحب الذات هو المسيطر والابتعاد عن مصلحة الجماعة هو المنتشر , وتشييىء الآخرين وتهميشهم هو القائم.

وهذا ينسحب على هيئاتنا الثقافية والأدبية فيشكل احدهم "اتحادا" وإذا فحصت هذا الاتحاد المتوفى منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن, تجد شيئا غريبا عجيبا يدعو إلى الضحك.

تجد رئيسا لهذا الاتحاد ولا تجد اتحادا لهذا الرئيس!!

فأنت تقرا من على صفحات صحفنا اسم رئيس "اتحاد الكتاب العرب" وتدهش أمام السؤال أي اتحاد كتاب؟؟ وهل هنالك اتحاد حتى يكون له رئيس؟؟ولكن لا يضر الرئيس أن لا يكون هناك اتحاد, المهم انه رئيس حتى لو أن اتحاده ذاك هو اتحاد وهمي(فير توالي) كما يسميه إخواننا.

وحين يكون الاتحاد اتحادا وهميا لا وجود له.ستقتصر طبعا وظيفة رئيسه على التعازي والتهاني وحفلات التأبين والظهور في المحافل وهو بهذا لا تقصير والحق يقال. كما وتستقصر وظيفته في المعاتبة إذا لم يدع إلى ندوة أو مهرجان أو حدث ما ؟

إذ كيف يمكن إغفال رئيس , حتى لو كان من ورق!!!؟ المهم هو التوقيع وهو ما تبقى وسيجر أشياء أخرى.

فتصوروا لو انه يسحب!!!

بالله عليكم, أليس هذا الأمر يعتبر استخفافا بالناس وبالكتاب خاصة؟! ولكن ما العمل فنحن معتادون على رئاسة بدون قاعدة, حتى في تعليمنا ومناهجنا نحن نبدأ بالمقلوب دائما نضع الكتاب ومن ثم المنهاج وفقه, نبدأ بالمرحلة العليا ثم نهبط إلى الدنيا , عكس شعوب الأرض قاطبة .

بمعنى أننا نضع الرأس ثم نفتش عن القاعدة, وهذا سر فشلنا والحمد لله . وهذا هو الحاصل في اتحاد الكتاب الوهمي.

المهم وجود رئيس وليس مهما أن يكون هناك هيئه أو اتحاد والمهم أن يظهر اسم الرئيس في المحافل على أنواعها وفي الصحافة وليس المهم أن يسعى إلى مصلحة الكتاب.

والسؤال , طالما انه لا يوجد اتحاد إذن من يمثل الرئيس؟ من هم المعترفون برئاسته؟ طبعا هذا أمر لا يهم طالما أننا صامتون أمام هذا الأمر وطالما انه لا يوجد هناك من يمهر تعازيه وتهانيه باسم رئيس اتحاد الكتاب, وطالما أيضا لا يوجد من ينافس على هذا اللقب الأخاذ الفارغ من كل شيء إلا كلماته. والسؤال بعد هذا كله: كيف يرضى إنسان مهما كان حبه للزعامة أن يلقب نفسه بنفسه وان يترأس وهما؟ على ماذا يتكل في مثل هذا الأمر؟ أعلى غفلتنا أم على أننا شعب مسامح نسَّاء.......؟ لا ادري, ولكن ما أدريه أن الحاصل ظاهرة مقلقة علينا أن نضع حدا لها إذا كنا نحترم أنفسنا شعبا وأدباء ومثقفين. إذ أن هذا مضر ومسيء لمسيرتنا الوطنية والثقافية والأدبية والأخلاقية. ما أدريه هو أن نسعى إلى إقامة اتحاد للكتاب بشكل ديمقراطي يقوم بتجميع الأدباء والعناية بشؤونهم. ما أدريه هو الإسراع في استنكار هذه الظاهرة التي صارت مدعاة للسخرية. وإلا فتصوروا أن يقوم كل ثلاثة أو كل أربعة كتاب بالإعلان عن اتحاد وعن رئيس له, إذا عدوا كم يكون لدينا من اتحادات الكتاب وكم سيكون لدينا من الرؤساء. هل سنصبح جميعا رؤساء, كما تقول الاغنية الشعبية المعلولية الجميلة: "يا طاسة الرز ميلي عالعدس ميلي, يا كلنا روس ما فينا قنانيري" ألا توجد بيننا قنارة واحدة!! هل يعقل.

متى سنتعظ ونكف عن الاستخفاف بالناس؟ ومتى سنحترم بعضنا؟ متى سنصل إلى ما دعانا إليه فيلسوفنا الفارابي؟ متى سنؤمن أن القاعدة أولا؟ هي الصخرة المتينة التي تنبني عليها الأمور والتي من الصعب فكفكتُها وزحزحتُها, وليس الفرد؟ متى سندرك أن الفر دانية مدمرة والتعاون الجماعي المشترك هو الضمانة الوحيدة لنجاحنا ولاحترامنا. متى سنعرف أن المستأثِر سهلُ المكْسَر وعلى عكس ذلك الجماعة. لا بل متى سيعرف كل واحد فينا قدرَ نفسهِ ويرعوي؟!

د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .

ليست هناك تعليقات: