د. حبيب بولس
" الركود المحزن في حركتنا الأدبي ليس كارثة طبيعية, بل نتاج واقعنا.. بإمكاننا ويجب إعادة فحص البيت الثقافي وإعادة الأصالة والمهابة للحظة التي بهتت ألوانها. إذا علمنا ونشطنا وأبدعنا بشكل مثير للاحترام, نعيد لحركتنا الأدبية احترامها ومهابتها وتأثيرها في مجتمعنا".
المتتبع لحركتنا الأدبية يجد ركودا ما يسيطر عليها هذه الأيام, حتى باتت تقتصر على احتفالات "التكريم" و "التأبين". ونحن إذ نجل هذه الاحتفالات ولا ننتقص من أهميتها, فإننا ندهش في الوقت ذاته لمثل هذا الركود الذي بات يهدد حياتنا الأدبية, بل حياتنا الثقافية برمتها. وهذا الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل وبصوت مرتفع: ما الذي يجري؟ لمَ هذا الفتور؟ ما هي الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الحالة؟ وكيف يمكن الخروج منها؟ ولكن, ونحن نطرح مثل هذه الأسئلة يجب ألا يغيب عن بالنا أن هناك بعض الاهتمامات التي تضيء ساحتنا الأدبية, بمعنى انه تنوجد لدينا أحيانا لمعة هنا ولمعة هناك, ولكن حتى هذه اللمعات حين تحدث كإقامة ندوة أو محاضرة إذا فحصنا بهدوء نجد أن من يحضرها لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين, الأمر الذي يدعو إلى القلق والخوف في آن معا.
إنها إذن أزمة قائمة, وعلينا جميعا أن نتساءل لماذا؟ لأننا إذا عرفنا الداء, هان علينا توصيف الدواء. هل سر هذا التراجع كامن في المواضيع التي تطرح؟ بمعنى هل المواضيع المطروحة لا تمس الجوانب التي تهم الناس كي يقبلوا عليها بشف ليستفيدوا من تجارب الآخرين؟ هل نحن كأدباء أصبحنا منقطعين عن هموم الناس, عن هموم مجتمعنا وصرنا نحلق في أجواء بعيدة؟! أم أن السر كامن في الناس أنفسهم؟ أي أنهم صاروا ينفرون من كل ما هو جاد ويتعلقون, وربما تسحرهم السلعة الأدبية الرخيصة, التي لا تدعو إلى التفكير العميق, بل إلى تزجيه الوقت وملء الفراغ؟
اعتقد أن الأمر منوط بالناحيتين, فنحن جميعا نعيش في فترة جَزر صعبة, بدأنا معها نلاحظ أن عددا كبيرا من اليقينيان التي درجنا عليها, والتي كنا ترتكز إليها, وننطلق منها, ونروج لها, قد بدأت تنهار وذلك بسبب ما يجري على الساحة السياسية العربية عامة, والفلسطينية بشكل خاص, حيث طغى السياسي على الثقافي والضحل على الجاد, فأربك هذا الأدباء والناس معا, وصار الأديب والمتلقي يعيشان في حيرة, لا يعرفان معها كيف ينقلان الخطى على ارض ساخنة, ارض مليئة بالندوب وبالحصى. وحين يعيش الإنسان- وليس مهما هنا نوعيته- ظروفا متقلبة ساخنة سريعة الوتيرة حتما سيصاب باللخمة وبالذهول, مما يدفعه لقلة حيلته إلى هرب من المواجهة إلى الترفيه عن النفس, وذلك عن طريق مشاهدة البرامج السطحية الغثة- أو قراءة الأخبار السريعة, التي تنبش في الخصوصيات, أو متابعة البرامج الإذاعية الرخيصة التي تقوم على الأغاني "العاطفية" المبتذلة, وعلى بعض التعليقات من هنا وهناك.
والمهتمون شهود عيان- على مضض- لما يجري حقا. خاصة تعلق الناس بالفضائيات التي تركز على تأجيج العواطف وإثارة الغرائز بوسائل رخيصة, بحيث صارت البرامج الطاغية فيها هي تلك البرامج الدعائية التي تعزف على أوتار"حساسة", خاصة والناس يمرون بأوضاع صعبة على جميع الأصعدة وبالذات الصعيد الاقتصادي. هذه الأوضاع تجعل متابع هذه البرامج يحلم ويسرح ويعيش ساعات طوالا مقطوعا عن واقعه محلقا وراء سراب.
او البرامج التي تدغدغ الأحلام وتجعل مشاهدها كالمخدر, كتلك البرامج التي راجت مؤخرا في الفضائيات العربية (السوبر ستار, وستار أكاديمي) وغيرها أو البرامج "الترفيهية" التي لا تقدم أي زاد فكر لمشاهديها, بقدر ما تقوم على التلاعب بعواطفهم وغرائزهم كقناة التلفاز المسماة "روتانا". إن التراجع السياسي الحاصل, والضغط الاقتصادي والخمول الفكري النابع منهما. كل ذلك يلعب دورا هاما في خلق جو من اللامبالاة والهروبية والتراجع عن الجدية والترفيه, عن الثمين إلى الرخيص, عن المهم إلى التافه. ولقد لعبت "العولمة" دورا هاما في خلق مناخ فكري مترهل أدى بالتالي إلى خمول أدبي ثقافي, فالعولمة التي تهدف إلى تحويل الشعوب والمجتمعات إلى قطعان استهلاكية تلهث وراء نمط الحياة الأميركي, انتصرت على ما يبدو في تحويل كل الوسائل والآليات التي كان من المفروض أن تلعب الدور التثقيفي والأدبي الجيد, إلى وسائل واليات تروج إلى السلعة الرخيصة السهلة التناول, وحتى الصحف التي كانت تلعب دورا تثويريا تنويريا صار همها المحافظة على نفسها من الناحية الربحية فصرت ترى إلى لهاثها وراء الإعلان وذلك على حساب المقال الجيد, وأصحاب تلك الصحف رغم وعيهم للمشكلة يرفعون الأيدي مستسلمين, ويطالبون الكتاب والأدباء "بالاختصار" وبالحذف وبتقصير المقالة بحجة أن الناس "لا يملكون الوقت" لقراءة مادة جادة أو طويلة. والأمر الغريب أن الناس فعلا صاروا ينفرون من مثل هذه المقالات ولا يقرؤون سوى عناوينها ويعرضون عنها إلى النتف الصحفية والأخبار الغريبة والمثيرة هل صار الوضع الأدبي الثقافي الجاد منفرا؟ وهل ستصير مقالاتنا وأشعارنا وقصصنا ورواياتنا ومسرحياتنا وأغانينا, كي تكون مقروءة أو مسموعة, وبسبب العولمة, "ساندويتشات" أدبية سريعة التناول والأكل والهضم؟!
هل ستسد هذه "الساندويشات" السريعة مكان الطبخة المتقنة الشهية؟ هل ستصير قصيدتنا قرص "همبرغر"؟ وقصتنا قطعة دجاج من "ماكدونلدز"؟ وفي أحسن الحالات رغيفا من "الباجيت"؟ هل سينجح أدبنا, مع هذا المد الاستهلاكي السريع, من الأصالة إلى التهجين؟ هل سيصير شعرنا-فخرنا-أغنية مغناجة قصيرة باهتة الكلمات واللحن تستعيض عن ضعفها بعرض مفاتن المطربة؟ كما هو الحاصل اليوم في الأغاني الرائجة بين شبابنا. هل سيصير أدبنا "هيفاء وهبة"؟ وهل سنسمح بذلك؟ وهل هي فترة عن قريب ستزول؟ أو غيمة عن قريب ستنقشع؟ لا أحب ذلك. إذن كيف الخروج من هذه الأزمة؟ كيف سنحرك الحياة من جديد في حركتنا الأدبية والثقافية؟ نحن لا نملك لهذا الأمر وصفة سحرية. ولكن ما يمكن قوله في هذه العجالة, إن أدبائنا ليسوا منقطعين عن قضايا شعبهم ومجتمعهم, ولكنهم بهتوا أمام الحاصل, لذا فالوقت قد حان لأن نصحو جميعا. إننا مطالبون اليوم بفحص بيتنا, مؤسسات وجمعيات وأفرادا. والمسؤولية الكبرى بطبيعة الحال تقع علينا نحن أعني الذين يتعاملون مع الأدب والثقافة. علينا أولا تأثيث بيتنا جيدا, وذلك بإقامة اتحاد عام حقيقي وشامل للأدباء يكافح هذه الظاهرة الشائهة والناتئة, ويدعو إلى المفيد ويرد الهيبة إلى أدبنا بوسائل شتى, أولها احترام أدبنا والحث على مواكبته ودعوة الأدباء إلى احترام بعضهم واحترام إنتاجهم والتأشير على الغث والساقط لتجنبه. وهكذا إذا احترمنا أدبنا واحترمنا بعضنا ورفعنا مكانة وهيبة الأديب, لا يتجرأ الرخيص والتافه على التسرب من جهة, واحترمتنا المحافل الرسمية والاجتماعية من أخرى, واستجابت لدعوتنا في أن تضع في أعلى سلم أولوياتها الأدب وأن تستنفر للنهوض به كل القوى والوسائل إذ ما فائدة المشاريع المادية, إذا خلا المجتمع من روحانيته. كذلك علينا ونحن نمر بمثل هذه الأزمة كيف نلاءم بين واقعنا ومستجداته وبين أدبنا؟ كيف نطرح المواضيع الجاذبة. علينا طرق أبواب المدارس والمعاهد العلمية لتوعية طلابنا, وذلك عن طريق ابتكار برامج أدبية ثقافية جاذبة لأن ما سبق صار تقليديا مملا, علينا أن نفكر بوسائل وطرائق جديدة تجمع بين المشتهى والحاصل. وتعرف كيف توائم بينهما, علينا أ، نعصر مضاميننا, وأن ندفع أساليبنا نحو الحداثة لتلاءم اليقينيات الجديدة الآخذة في التبرعم, ولكن شريطة أن نحافظ على المرتكزات والأصول.
علينا أن نجدد في لغتنا- حجارة أدبنا- لتحتضن الحاصل والمستجد. إذا فعلنا كل هذه الأمور يصبح الركود المسيطر اليوم استراحة محارب نجمع فيها القوى ونستعيد عافيتنا. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى النهوض بأدبنا ولكن النهوض بالأدب مشروط بنهوضنا نحن وذلك بالتخلي عن خلافاتنا وعن عقدة نقصنا أمام الأجنبي. بهذا فقط نستطيع أن نرد إلى حطة أدبنا التي بهتت ألوانها البهاء والأصالة والاحترام. بهذا فقط نستطيع أن نحافظ على وجودنا في المشهد الحضاري العام.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .
الأربعاء، أكتوبر 29، 2008
الأدب.. بين الهامبورغر وهيفاء وهبة
Labels:
حبيب بولس
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق