د. عدنان الظاهر
( حوار ثنائي خرافي مع النفس )
عنوانٌ غريبٌ ! كانت الربّة ُ عشتارُ دوماً في عالم الأحياء فماذا جرى حتى تنقلب َ الصورة ُ ؟ ماذا تقترحُ يا رجل ، هل أبدّل العنوانَ ليغدو مثلا ً : عودة تموز إلى عالم الأحياء ؟ لا ، بل إجعله : قيام تموزَ من مملكة الموتى . فليكنْ ، وما من مانع ٍ عندي . قيامُ تموزَ وليس في قيامته من بُدعة جديدة على بني البشر فهم ما زالوا ومنذ آلاف السنين في إنتظار عودة من يهديهم سواءَ السبيلِ ومن ينتقمُ لهم ممن أسرفَ وتطرّف في ظلمهم وعاث في الأرض فسادا . قام تموزُ أو سيقومُ قريباً ولكنْ ، ما سبب قومته أو قيامته المفاجئة هذه ومن تعهدها فقيام الموتى من قبورهم ليس بالأمر الهين إذ ْ يحتاجُ إلى مَن يبعث في الموتى الروحَ وهي من أمر ربي ؟ لا فُض َّ فوك أخي ، لا بد َّ من باعث ٍ للروح في الجسد الميت ، لا بدَّ . وفي حالة تموزَ البابلي أو( دوموزي السومري ) المقنول ِ ظلماً فمن ترى تحييه غيرُ حبيبته عشتار أم الكرم والخصب والجود والعطاء ؟ لكنها كانت هي الأخرى غائبة ، إفتعلت غيبة ً حددتها بشهرٍ واحد ثم نقضتْ غيبتها وإختزلت أمدها فلعلها ما أقدمت على ذلك إلا من أجل إنقاذ حياة حبيبها القتيل تموز . كاد كلامها عن غيابها أن يتسبب َ في إنقلاب السماء على الأرض وهطول الأمطار زوابعَ وبراكينَ وزلازلَ وسيولِ دم ٍ . تموز لا يُطيق قتله مرتين ولا يصبرُ على فراق حبيبته ومعبودته عشتار بابل . لا يستطيع فراقها يوماً واحداً فكيف في فراق ٍ طويل ٍ أمدهُ شهرٌ كاملٌ ؟ شهورُ فراقِ الأحبّة ِ دهورٌ وعصور . أعادت عشتارُ النظرَ في قرارها السابق فألغت على عَجَل ٍ إجازتها [ هل كانت مَرَضية أم إجازة إعتيادية ؟ ] . أكانت هي أم كان تموزُ في عَجَلة ٍ من أمره ولم يُطق ْ صبراً ؟ كلاهما ، كلاهما مَشوقٌ مستهامُ . كلاهما في شوق عارم للقاء سريع ٍ عاجلٍ فالغيابُ ثقيلٌ وأيامُه مرّة كطعم الحنظل فمن ذا الذي يُطيقُ فراقَ الأحبة ويصبرُ على غيبتهم ؟ إشارة ٌ واحدة ٌ من كفِّ عشتارَ المخضّبِ بحناء بابل أو كتابة حرف واحد على شاشة الكومبيوتر تكفي لأحياء كافة الموتى من عهد عاد حتى اليوم . ما الذي ذكّرك بعهد عاد يا رجل وأنتَ تتكلم عن تموز بابل ؟ أبو العلاء المِعَرّي ، المعري هو الذي قال لا أنا :
صاحِ ، هذي قبورُنا تملأ ُ الرح
بَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ ؟
خففِ الوطءَ ، ما أظنُّ أديمَ ال
أرض ِ إلا من هذهِ الأجسادِ
[ أحزنتني وأكأبتني يا هذا ] ... قال تموز المنبعث لتوِّه مُحتجّا ً . معه كل الحق . إله مقتول ظلماً يقوم لساعته من عالم الآخرة المظلم فيرى حبيبته ومنقذته وباعثة َ الحياة فيه عشتارَ يحتضنها ويذوب فيها فيغيبان معاً في عالم مسحور ٍ آخرَ مَلَكين وحين يعودان من سفرة السحر يعودان عروسين بملابسَ بيضٍَ وأكاليل َعقيق وزمرّد وورود من الذهب الأبيض والأصفر والأحمر تفاجئهما أنتَ دونَ حياء ٍ بأشعار المعرّي الضرير المُغرقة في سوداويتها !! هذا الأمر غير مقبول منك . ليس هذا إنصافا ً منك يا رجل . إعتذرتُ . ندمتُ على تسرّعي وخضوعي لقوة إغراء وجبروت الشعر . ما حيلتي ، هكذا ولدتني أمي ضعيفاً أمام بعض مغريات الحياة والشعر من بينها . طيّب ، وماذا بعدُ ؟ ماذا تقصد ؟ ماذا عن لقاء تموز وعشتار بعد غيبته القسرية في العالم الأسفل ؟ يبدو أنك لم تحب في حياتك ولم تجرب لقاء الأحبة بعد غياب وفراق . هل أريك فيلماً مصوراً للقاء تموز وعشتار على أرض بابل ؟ كيف دبرتَ هذا الفيلم وتصوير الأحياء في بابل ممنوع ؟ لم أصور الفيلم أنا ـ أنا الآخرُ الشقيُّ المعذبُ غريمُ تموزَ عاشقُ عشتروت ـ إنما صورته بعض شرطة بابل السرية ! لديها أوامر أن تراقبَ بدقة ٍ وتصوِّر كلَ لقاءٍ يتم ُّ في الهواء الطلق وعلى مرآى الملأ بين رجل وإمرأة حتى لو كانا مَلكين . وكيف وصلتك نسخة من هذا الفيلم وعلمي أنك لستَ مُخبراً ولا أحد عناصر شرطة بابل السرية ؟ يا مغفَّل ! الرشوة ! دفعتُ كمية ً من الدولارات ( أربعَ وَرَقات ٍ ) لأحد كبار ضباط شرطة بابل فقبلها وقبّل يدي ثم قدّم لي مشكوراً نسخة ً من الفيلم المخابراتي . ألا يخشى هذا الضابط ُ من إنكشاف السر وما سيناله من عقوبات قد تصل إلى حد السجن مدى الحياة ؟ يا مغفّل ! ومن سيسجنه مدى أو بعض سنيِّ حياته إذا كان الضابط الأعلى منه شريكه فيما يكسب من الرشاوى ؟ والضابط الأعلى ـ لعلمك ـ هو الساعد الأيمن والقوة الضاربة للملك حمورابي وحلفائه من خارج حدود المملكة . تنهدّتُ بعمق ٍ وصدق ٍ ثم قلتُ لصاحبي : قد عقدتَ الأمرَ عليَّ يا رجل . جئتُ أسألك عن حال عشتار وقصتك المحزنة معها فأدخلتني مداخلَ التعقيد والتعويص والتلبيس لكأنك إبليسُ . ما لي وشرطة بابل والرشاوى والسجون الأبدية وما إلى ذلك من أمور تكدّر عليَّ حياتي وهي في غاية البساطة والوضوح والنقاء ؟ بل أنت الجاني على نفسك يا عبيط ... أجاب صديقي الخبير في شؤون الشرطة السرية . أنتَ مَن جنى على نفسه . أنتَ أنتَ كنتَ كثير الفضول لمعرفة تفاصيل قصة عشتار وحبيبها تموز لا لحرصك على معرفة مصير تموز ولكنْ لفضولك القتال وغيرتك منه لأنه إستأثر بحب عشتار فتركتك وحيداً مدحوراً كسيفا ً تبكي حظك السيّء نهاراً وليلاً حتى أوصلك يأسك منها قريباً من حالة الجنون بل وحاولتَ مرة ً الإنتحار لولا أنْ أنقذك صديقك الطبيب الحليّ الذي قاسمك مقاعد الدراسة زمناً طويلاً [ أطلَّ تموز مرة ً أخرى ليقولَ : مات هذا الطبيب واأسفاه . إنتحر. قتل نفسه . قيل إنه سقط من سقف عمارته العالية . هناك تكهنات أنَّ جهةً ً ما هي التي أسقطته من الأعالي وإنها ليست عملية إنتحار ، إنما حالة قتل ٍ عمد ، إغتيال ] . جريتُ سريعاً خلف تموز فلم أجده . تتبعت مصدر صوته فلم أعثر له على أثر . أردتُ أن أسمعَ منه المزيد من أخبار صديقي الطبيب . واحسرتاه ! فقدتُ من أنقذني من موتي وها هي عشتار تنقذ غريمي تموز من موته . شتانَّ بين حالة إنقاذي وحالة إنقاذ تموز . ذاك أحياني وقيامة تموز تقتلني والقاتل ليس تموز نفسه إنما تلك التي أنقذته : عشتار . تقتلني عشتارُ بإحياء غيري أي أنَّ هذا الغير يسلب مني حياتي ثمناً لرجعته وبرجعته أخسرُ عشتاري فأية رجعة ٍ هذه ؟ سيدتي وحبيبتي ـ ما زلتُ وسأبقى أسميها وأعتبرها حبيبتي وإنْ قتلتني ألفَ ألفَ مرة ٍ فحياتي معها في موتي وموتي بين يديها حياة ـ سيدتي وربتي وحبيبتي عشتار المباركة ! لا تنقطعي عني ولا تغيبي فغيبتك تجعلني أحيا شقياً مدى الحياة . أعرفُ أنك واقعة ٌ في هوى رجلٍ آخرَ إسمه تموز وتموز هو إسم شهر من أشهر السنة البابلية . سأطلق على نفسي إسم الشهر التالي لشهر تموز غيرة ً منه ومنافسة ً له ولقدره العالي لدى الربّة عشتار فالآتي من خلاف ٍ يركب الأكتافَ كما يقول ُ أهل الحلة . إسمي يا حبيبتي وربتي هو آبُ ( آبو ) ، الشهر الثامن في تسلسل أشهر السنة البابلية ، وهو شهر عطلتك السنوية الصيفية كما أسرَّ لي كبيرُ ضباط ِ شرطة بابلَ الذي يعرف كافة أسرار مواطني مملكة بابل وما جاورها من أقضية ونواح ٍ وقصبات وقرى . أجابت عشتار منطقك هذا ومناوراتك وألاعيبك اللفظية لا تأتيك بأية نتيجة ترضيك . ولا تزحزحني عن موقفي قيد شعرة. وهبتُ نفسي لتموزَ حبيباً وعشيقاً وزوجاً. زوجا ً ؟ تساءلت ُ والعجبُ يأخذ مني كلَّ مأخذ . أتتزوجين وقد ضاجعتِ آلاف الرجال بإسم الجنس أو العهر المقدَّس ؟ قالت إنك لا تدري أنَّ لكل مومس ٍ بغي ٍّ عشيقاً أثيراً قد تتزوجه وقد لا تتخذ منه زوجاً .
و تموز في حالتي هو عشيقي الأثير . أصابتني حالة من الإحباط والتوتر حتى غرقتُ في عَرَق جسدي وشعرت بظمأ شديد الوطأة . قالت ماذا حلَّ بك يا رجلُ ؟ ما سببُ غيرتك من تموز وأنت في أفضل أحوالك لستَ بقادرٍ على أن تنافسَهُ ولست بكفئه مهما أوتيتَ من حجة وبيان وبلاغ . فاتك سنُ الزواج يا رجلُ وإنك كما تعلم عاجزٌ عن الإنجاب ورسالتي ومهمتي هي أن أنجبَ وأواصلَ النسلَ والحرث َ فأديم ُ الحياة . هذه هي رسالتي الكبرى والأولى وهي في الأساس رسالة دنيوية لكنها إرتدت عباءة الدين لكي يتقبلها الناسُ ويعتبرونها رسالة ً نزلت من السماء فلا من نقاش ٍ ولا من شجب ٍ أو شكٍّ أو تساؤل . وعليه إتخذت عمليات البغاء العلني والجماعي صيغة { البغاء أو الجنس المقدّس } ... بِغاءٌ أو عهرٌ مقدَّس !! من أية جهة تأتيه القدسية ؟! تناولتْ جُرعة َ ماءٍ عشتارُ ثم قالت بلهجة إنذار وصرامة لا تخلوا من تهكم : إسمعْ ، إنتهت حياتك البايولوجية وإنغلقت على نفسها دورة ُ ودائرة ُ حياتك بعد أنْ ضاقت وإنكمشت أقطارها وجفّت في عروقك دماء الشباب وهمدت نيرانها وفوراتها . تهاويتُ إذْ سمعتُ بيانَ عشتارَ هذا فيا أرضُ غوصي بي وإبتلعيني بعاري وضيق صدري . لا أحتمل عاري وقد كشفتني وعرّتني عشتارُ التي تدّعي الآلوهية . رغم ذلك كله قررتُ أن أقاتلَ وأنْ أدافعَ عن نفسي كرجل فوجدتُ حجة ً ومبرراً لمنازلة عشتار في الساحة التي إختارت هي لا أنا . تكلمتُ ببطء شديدٍ أولا لألتقط َ أنفاسي المتقطعة وأجمعَ أوتارَ صوتي المهزوزة فركزتُ هجومي على نقطة واحدة هي من أكبر نقاط ضعف تموز وأكثرها خطورةً فيما يخص علاقته بعشتار . قلت لها ، والقلب يدق بعنفٍ في صدري بين الأضلاع ، إسمعي يا عشتارُ المرأة ... إصغي جيداً لي رجاءً . أنا أفضل من عشيقك تموز . أرادت أن تقاطعني فعاجلتها بطلبي منها أن تصبرَ وأن تصغي لما سأقول فإنصاعت للطلب . نعم ، أنا أفضل بكثير من تموزك هذا . كيف ولماذا ؟ لأنَّ تموز رجل يعمل بنصف وقت
Half – Time
يمارسك عشيقة ً أو زوجا ً نصفَ عام فقط ليختفي في العالم السفلي النصفَ الآخرَ من العام فأيُّ زوج ٍ هذا يتعطلُ ستة َ أشهر ٍ وينشط ستة شهورٍ من كل عام ؟ وهل تستقيم حياة ٌ طبيعية معه ؟ أيُ نوع ٍ من الرجال هوهذا التموز إبن التموز؟ لم تنتظر عشتارُ حتى أنهي مقالتي إذ ْ بادرت بعصبية للقول إني أعتبره رغم ما قلتَ أفضلَ منك . إنه يمارس الجنس معي 180 يوماً في العام بينما أنت مشكوك في أمر قدرتك الجنسية ! إذهب ليفحصك الطبيب الإختصاصي . إنفرجت أساريري وإنشرحَ صدري وزال ضيقي . مسحتُ بكفيَ عَرقَ وجهي وقلت لها يا عشتارُ ، إذا كان صاحبك هذا الأهبل يمارس الجنس معك ستة أشهر في السنة لا أكثر فإني أطمئنك ، وإني على ثقة تامة مما سأقول ، إني أستطيع بفضل حبوب الفياغرا والسياليس ومشورة صديقي الطبيب الذي قتلَ أو قتل نفسه أن أمارسه معك مرة ً أو مرتين في الليلة الواحدة وتفضلي إسألي أطباء الإختصاص. خجلت عشتارُ وقلما تخجل عشتارُ ومن أين يأتي ربّات ِ العهر المقدس الخجل ُ !! إرتخت مفاصلها وأحست بالظمأ . غابت عني قليلاً وما أن ْ عادت حتى جاء صوتُ تموزَ غريباً فيه بحّة ٌ وغرابة ليقول لي محذراً : ستقتلك حبوبُ الفياغرا . تجنبها . لم يبقَ لك من العمر ما يستحق المغامرة . كلْ واشربْ وسافرْ واعقدْ صداقاتٍ بريئة ً مع مَن شِئتَ من بنات حوّاء في بابلَ وغيرِ بابلَ . الصداقة الحقيقية السامية أفضل من الزواج ومتاعبه ومسؤولياته . شكرتُ تموزَ رغم علمي إنه ما قال ما قال إلا من باب الحسد وطرد العيون وإزاحتي عن طريقه منافساً له على حبِّ وتاج ومعبد عشتارَ في قلب بابل .
<< نصف ُ رجل ٍ بقدرة جنسية كاملة ٍ أفضلُ من رجل كامل ٍ فاقدٍ لها >> . قرأتُ هذا الكلام مكتوباً بلغة أهل بابل على شاشة عريضة جداً بتوقيع الملك حمورابي . وقرأت ُ ما بين قوسين جملة ً تقولُ (( المادة الثامنة من شرائع الملك الأعظم )) .
السبت، أكتوبر 25، 2008
عودة عشتار إلى عالم الأحياء
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق