د. عدنان الظاهر
من أينَ أتاك هذا الحبيبُ ؟ أنا مَن ذهبَ إليه . جذوري هناك عميقةٌ في بابلَ وجدي حمورابي كذلك هناك عاش وحكمَ ومات وشرّعَ ما شرّعَ من قوانين أذهلت الدنيا . كان مقاتلاً وكان قاضياً عادلاً لمْ ترَ محاكمُ الدنيا وسوحُ القضاء فيها نظيرا ً له بعدُ . ثمَّ ؟ ثمَّ لي هناك حبيبٌ وطبيب. في حبه طبّي ودوائي وشفائي . إنه من سلالة جديَ الأعلى حمورابي . إنه يمتُّ لي بصلة قربى من الدرجة الأولى فكيف لا أحبه وما الذي يمنعني من حبه ما دام فيه ومنه طبي ودوائي ؟ لي في بابلَ حبيبٌ لا يُصدّقُ أني أحبّه وأتفانى في حبه وإني متوله ٌ به أقصى درجات الوله . لم تأخذ حبيبتي من جدنا نصفه العسكري لكنْ ورثته حكمته وعدله فعاملتني بالحسنى وتفهمت ظروفي وزادتْ على ما أخذت ْ من الجَدِ براءة َوعفوية َ الطفولة ثم طهارة الملائكة . أسرتني لا بالروح العسكرية وكثرة فيالق الجند وتفوّق السلاح إنما سحرتني بروح الملائكة فيها وما وجدتُ وفيما قرأتُ في بعض الكتب المقدسة عن تأثير سحر ِ بابلَ والساحِرَين الأشهرين هاروتَ وماروتَ اللذين كانا يعلمان الناسَ السحرَ وما يفرِّقُ بين الزوجين وصرفهما عن بعضها ، أي فن الصَرفة ْ.
حبيبتي ساحرة إذا ً بالوراثة لا بالدراسة والتدريب . حاشاها أنْ تتدربَ وتتفقه في فنون التفريق بين الأزواج فقد خلقت على الضد من ذلك : تأليف القلوب والجمع بين المحبين وبفضل علمها هذا إنجذبتُ إليها حتى لا أكادُ أفارقها أبداً . لا أرى سواها ولا أتنفس إلا هواء رئتيها ولا أحسُّ إلا بخطوط جسدها وضربات قلبها . أحس َّ جدنا حمورابي بهذا الحب الذي عصف بقلوب بعض خلفه وورثته فعاتبني لِمَ لا أعقد مهري على مَن سلبت لبي وبدلت حياتي تبديلا ؟ يا جَدَنا الكريم ويا أيها القاضي العدلُ / مَن في غيابك يعقد مثلَ هذا المهر وعاقدو مهور ِ هذا الزمان غرباءٌ أجانبُ نستنكف منهم ونتنجس من أياديهم ؟ لم يُجبْ حمورابي .
بقيّ سؤالي معلقاً عسى أنْ تجيبَ حبيبتي عليه . ما زال فيها حياء الشرق طاغياً ظاهراً . طفلتي الحبيبة ويا أمَّ البراءة والنقاء وشفافية الضمير : كيف إجتمعت فيكِ هذه الخلال النادرة ومن أين أتتك ؟
من أي نسيج صنعك ربكِ ومن أي معدن جبَلك ؟ ولماذا تفرّدتِ أنتِ وحدكِ من بين سائر نساء العالمين وباقي البشر ؟ تسألينني متى أعودُ ولِمَ لا أعودُ لبلدي وأمارس عملي السابق ؟ تتمنين ذلك ثم تقولين ( لا أصدّق ! هل من سر ٍّ في حياتك تُخفيه عن الآخرين ؟ لا من سرٍ في حياتي أخفيه ِ إلا أنتَ ) ، أجابت . هل أنا سر ٌ ومنذ متى وأنا نفسي لا أُخفي سراً بل وليس لديَّ أصلاً أية أسرار في حياتي . كيف غدوتُ فجأة ً سراً تحمله بعض القلوب ؟ كيف أكونُ سراً يحتويني قلبٌ حي ٌّ ينبض ليلاً ونهاراً لكأنه يكتبُ إسمي بخط بابليٍّ مسماريٍّ على جدران شارع الموكب في بابل ؟ نبضات قلبها حروف لا يفهم معناها إلا رجلٌ واحدٌ بعيدٌ إختصته بحبها المكتوم الذي تخجلُ أنْ تُفصِحَ عنه بل وتتهيب من ذكر كلمة [ حب ] . ما زالت طفلة بريئة رغم أنها كبرت ونضجت لكنها لم تجربْ شيئاً ذا بالٍ في الحياة . كباقي النبيّات ، لم تعرفْ الحب َّ ولا تعرّفتْ على رجلٍ يحبها وتحبه ولم تسمعْ من أحدٍ كلمة َ إطراءٍ أو غزلٍ فأهملت قوّة َ سِحر تشكيلات الملائكة في أقمار وجهها وإشعاعات الليزر في بريق وأطياف لون ِ عينيها وكهرباء عسل شفتيها وضمرت فيها أنوثة الجسد وخفُتَ العنفوانُ الطبيعي حتى أنها لم تعدْ تهتم ٌّ بشعر رأسها فظهرت الشعراتُ البيض ُ الأولى على الجانب الأيمن فإلتجأت كعادة نساء بابلَ إلى الحناء ففي الحناء لون ورائحة . [[ هل ستختفي في ظلمات حجاب إحتجاجا ً على الحياة وزهدا ً من ثم َّ فيها . لا أريد لها ذلك بل وسأحتج إذا ما أقدمت عليه !! ]] ؟
هل إستخدمت قرينة حمورابي الحناء أم ظلَّ شعر رأسها أسودَ فاحماً لأنَّ الزواجَ المبكرَ يؤخر ظهور شيب الرأس كما قالت زرقاءُ اليمامة ؟ أجب ْ حمورابي يا جَدنا الأعلى ومفرِّجَ الكروبِ وقاضي الحاجات . سلامٌ عليكَ حمورابي يومَ وُلدتَ ويومَ تُبعثُ حيا . سلامٌ عليك ولكنْ أين ضريحُ مدفنك ؟ لمن إذا ً سنقدم القرابين والأضاحي في شتى المناسبات ؟ أجابني جدي الأعلى : قدّم قرابينك وأضاحيك لمن تهوى . سيفرحها ويسعدها ذلك . الحبُّ عبادة ٌ وممارسة الحبِّ طقسٌ قدسيٌّ يرفعُ الحبيبَ إلى مرتبة الآلوهية . ما رأيك يا حبيبة ؟ لم تجبْ . ظلت صامتة . لا تحسمُ أمراً ولا تكشف موقفاً لا عجزاً ولا تردداً ولكنْ لعفة في نفسها وترفعاً عن أمور الدنيا الفانية . إنها أكبر من الحياة وإنْ خُلقتْ فيها من مائها وترابها ونفخة ٍ من روح حمورابي . كيف تتحولُ الأرضُ إلى سماءٍ بأقمارٍ وشمس ٍ ونجوم ؟
كيف تساميتِ يا هذه ؟ لمن تتركينا إذا ما تعاليتِ علينا نحن عبيدك وعبّادك وكَهنةُ شمس معبد بابل وإرتفعتِ وخلفتينا وراءك بشراً من طين وصلصال ٍ ومن حمأ ٍ مسنون ؟ ما قيمتنا بعدكِ وفي غيبتك ؟ لا ، لا تتركينا ... ظلي على أرضنا معنا فالأرض بعدك بردٌ وخراب . كان حمورابي وكل ُّ بابلَ ومن فيها يسمعون ما كنتُ أقولُ فقالَ الجدُّ الأعلى خففْ يا هذا من غلواء هواك فإنه لا ريبَ قاتلك . زرها في عليائها وشاركها الطعامَ والشرابَ ففي المشاركة سلوانٌ وتهدئة ٌ وجبرانُ خواطر . زرْها ولا تترددْ سترحبْ بك وستقدم لك ما صنعت يداها من حلوى وأطايب الطعام البابلي . ماذا تحبُّ من الأطعمة ؟
السمك المشوي والمقلي . سيكون لك ما تريد ففي نهر الفرات كلُّ أنواع السمك كالشبوط والبني والكّطان . لا أصدّق ! لا أصدق أني سأزورها وإني سأقابلها في مقامها العالي الرفيع العماد وإنها سترحب بي وتطعمني مما تعدُّ من طعام فاخر . لا أصدّق يا أبي حمورابي ، أعني وساعدني في بلوايَ وحيرتي . فتحتُ عيني فلم أصدق ما أرى . رأيتها بعينها وعيانها ترحب بي لدى باب قصرها وفي يدها إكليلُ ورود قطفتها من جنائن بابلَ المعلقة . أهذهِ أنتِ حقاً أنتِ ؟
أومأتْ برأسها أنْ نعم ، ها أنا فهل فيَّ شَبه ٌ مع ما لديك من صوري التي إلتقطتها أنتَ لي في ليلة حلم ؟ لذتُ بالصمت إذْ عجز لساني عن الكلام . أردتُ ولم أستطعْ أنْ أقولَ وهل تتطابق صور الأحلام مع واقع ما نحنُ فيه ؟ هل هي حقاً كما رأيتها في الصور ؟ بل هي أجمل وأكمل وأرقى من الصور . هذه هي بلحمها ودمها وإرتفاعُ قامتها وشموع أعياد الميلاد متقدة في عينيها ومياه أنهار جنات الخلد تتدفق من بين أناملها. أجلْ ، هذه هي بالضبط كما توقعتُ وكما أردتُ . الحياة صاخبة ٌ ـ هادئة ٌ فيها والحرارة تسري في جسدها وفي فمها الصغير المقتصد مفاتيحُ هذا الجسد المجبول من معادنَ أخرى لم يعهدها البشرُ . قالت تفضلْ فهذه هي زيارتك الأولى لي ( قلتُ في نفسي أخشى أنْ تكونَ الأخيرة ) . قلتُ كلا ، تفضلي أنتِ قبلي وسأتبعك فأنتِ السيدة القائدة .
هل سنتناول الطعام لوحدنا ؟ قالت ومّن ترى سوانا في هذا القصر الأسطوري ؟ جُلتُ ببصري في أرجائه وما يحيط به من حدائقَ غنّاء فعنَّ لي أنْ أقولَ لها هل من مانع في أنْ يشاركنا جدنا الأعلى مائدة الطعام هذه ؟ لم أكدْ أنتهي من سؤالي حتى رأيتُ حمورابي جالساً معنا يتوسطنا مهيباً عالي القدر وضّاء الجبين لكأنه أحدُ الأئمة المعصومين الأوائل . قال إنه صائم فلم يقرب الطعام . علامَ صومك يا جدُ وما مناسبته ؟ قال درجتُ من صغري عليه لمناسبة وبدونها . طيب يا جدُّ ، هل من إستثناء في روتين حياتك ، أعني ألا تترك صيامك هذا اليوم لتشاركنا أفراحَ عيد لقائنا الأول وأنت تعرف مناسبة هذا اللقاء وتعرف أنك ما حضرتَ إلى هنا إلا لتعقد َ مهر قراننا شاهدا ً وقاضياً عَدْلا ً وحامي رعيتك والحاني على أبنائك .
تهلل وجهُ حمورابي خِجلا ً معتذراً فمدَّ يده قائلا ً : بإسم إلهي مردوخ َ وآلهتي عشتار ... قلت في سرّي بل بإسم حبيبتي ومن يهواها قلبي ... سمعني حمورابي فاضاف : وبإسم خطيبة وعروسة هذا الضيف الجالس بجواري . قمتُ مصفقاً فقبلت رأسه الأشيب الغارق في بياض الثلج ونديف القطن . شكرته حبيبتي وتمنت له الصحة وطويل العمر لكي يشهد قران أولادنا القادمين على عَجل بفضل بركته ونعمة يديه . لم يأكل إلا القليل وهذا دأبه على يبدو . كنتُ أنتقي له من بين ما أعدّت نبيتي من أطايب مأكولات بابلَ وما جاورها من الأمم فكان يعتذر ولا يتقبل منها إلا الأقل من القليل . سألها جدنا من ترى ساعدك في إعداد كل هذا الطعام الفاخر النادر المثال ؟ أشارت بعينيها وحاجبيها نحوي فإلتفتَ حمورابي إليَّ متعجباً ثم ربتَ على كتفي شاكراً ما قدمتُ للحبيبة من مساعدات طفيفة من قبيل تقشير وتقطيع البصل وإعداد السَلطات وغسيل بعض الصحون تاركاً الباقي الثقيل عليها وعلى مهارة أناملها الماسية . كنتُ أثناء الطبخ أشاغلها وأداعبها بين حين وآخر حتى إحتجت ْ قائلة ً أتركني رجاءً فأحاديثك الشيقة تشغلني عن نفسي وعما أنا فيه وربما ستقطع السكينة يدي كما قطعت أيادي ضيفات زليخا حين أعدّتْ لهنَّ متكأ ً وأمرت فتاها الذي راودته هي عن نفسه أنْ يخرجَ عليهن َّ فخرجَ ووقع ما وقع [[ قالت فذلكُنَّ الذي لمُتنني فيه / يوسف 31 / 32]] . أنا يا حبيبة َ الروح والقلب والعمر ِ لستُ يوسفَ حُسنا ً وليست فيَّ قوة مناعته أمام الإغراء لأنَّ فيه كما يقال آثار أنبياء لذا قال لها وقد غلّقت الأبوابَ وقالت هَيتَ لك [[ معاذ َ الله ِ إنه ربّي أحسنَ مثوايَ ... يوسف /23 ]] . إحتج َّ حمورابي قائلاً إنك عندي أفضل وأكرم وأعف من يوسف هذا ! كان يوسفُ عبداً إبتاعته السيّارة بثمن ٍ بخس ٍ دراهمَ معدودات ٍ ثم باعته السيّارة لعزيزِ مصرَ فتبناه وجعله خادماً يقضي حاجاتِ إمرأته وما في بيته الكبير من ماشية وطير وغير ذلك . أنت حُرٌّ
ـ قال الجدُّ حمورابي ـ أنت حر إبن أحرار وخطيبتك حرة ٌ إبنة ُ أحرار وعالية المقام بل مقامها هو الأعلى والأعظمُ في حياتنا المعاصرة . إنها سليلة ُ بيتِ عز ٍّ وشرف ٍ وعلاء ٍ مزدوج ثم فيها شخصية وعفة وكبرياء النبيات فلا من غرابة حين أسمعك تخاطبها بقولك { نبيتي } وهي فعلاً نبيتك وملهمة قصصك وأحاديثك الخاصة وما تبثها في رسائلك من نجوى هامسة فيها طبيعة الشعر والشعراء يتّبعهم الغاوون كما تعلمون. هل يحبكِ هذا الرجلُ مشيراً نحوي ؟ هزّت رأسَها بلطفٍ وأدبٍ أنْ نعمْ ، يُحبني حباً لا مثيلَ له في هذا الزمان وإلا لما أتاني من آخر الدنيا وكنتُ بدوري في شوقٍ لمثل هذا اللقاء الذي شرّفته بحضوركَ . طلب الملك حمورابي بعضَ الفاكهة فكان له ما أراد تماماً كما يحصل في جنات الخلد إذ تلبّى طلباتُ الرجال آنياً بمجرد التفكير فيها ... بمجرد أن تخطرَ الفكرة ُ على بال المؤمنين جداً جداً ... فاكهة دانية ٌ قطوفها لا مرفوعة ٌ ولا ممنوعة ٌ وحورٌ أبكار ٌ عين وولدان مخلدون كأنهم الدر المكنون . ثم أنهارُ وبحيراتُ اللبن والعسل والخمر والبيرة المثلجة والويسكي الأسكتلندي والرم الكوبي الفائق القوة 90 % كحول حسب مقياس ريختر للزلازل الأرضية والعصبية والدماغية . هل أنتَ الآن هناك يا جَد ُّ ؟ قال بل انا هنا معكما فبيتُ حبيبتك أفضل من كل الجنات ثم إنها هي المحصّنة ُ العذراءُ البتولُ لم يطمثها قبلك إنس ٌ ولا جان ُ فما حاجتك للحور العين وهنَّ مخصصات ٌ أصلا ً للمؤمنين ولا أحسبك واحداً منهم ما كنتَ وسوف لن تكون ؟ أحسنتَ يا جدَنا حمورابي ، أحسنتَ وأجملتَ وما أنت اليوم معنا هنا إلا لتعقدَ قراننا على سطح الكوكب الأرضي لا في الأعالي المحجوزة لأمثالك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق