د. عدنان الظاهر
نجحتُ في ترتيب لقاءٍ عجيب ٍ غريب ٍ لا مثيلَ له في تأريخ الملوك والآلهات إذ ْ جمعتُ ما بين عشتارَ ربّةِ الجنس والخصب والتناسل في بابلَ وربّة حمص ( جوليا ) . كان جمعاً ولكنْ كان جمعَ نقيضين . كانت عشتارُ ترفلُ بالنعيم الفائق كثيرة َ الطربِ والغناءِ وهزِّ الرقبة والكتفينِ وما تحتهما في حين كانت ( جوليا ) كثيرة َ الصمتِ مُفرطة ً في جديتها وصرامةِ تقاسيم ِ جميل ِ وجهها . ما كانت عشتارُ لتضاهي أو حتى لتقتربَ من سحر ِ جمال ِ جوليا وفتنة ِ عينيها الآسرتين ومُنصَهرِ ذهبِ خيوط ِ شعرها الذي تنكسفُ الشمسُ إزاءَهُ . أجلْ ، آمنا باللهِ ، عشتارُ وما أدراكَ ما عشتارُ ربّة ٌ للجنس ِ والتخاصب ِ وإكثار ِ البشر ِ في حين أنَّ جوليا هي آلهة ُ الفن رسماً ونحتاً وقد جبلها ربّها الأعلى منحونة ً من معادنَ شديدةِ الندرةِ والخصوصية . جمع خاماتها الأولية َ في غضون عام ٍ واحد فقط لكن َّ إعدادَ قوالبها وصبّها في معادنها الأزلية الطبيعة قد إستغرقه عاماً ضوئياً كاملاً . فمن ترى يُضاهيها ومن يجرؤُ على الدنوِّ منها ومن ذا الذي لا يتوسلُ القربَ منها والتبركَ بها وبجمال ِ ودقةِ أناملها وإقتباس ِ الضوءِ واللون ِ منها ومما نحتَ الربُّ لها فبريقُ معدنها يتخطفُّ الأبصارَ ويعمي البصائرَ . كانت عشتارُ المضيّفة ُ المضيافة ُ كثيرة َ السرورِ بزيارة نظيرتها المتفوّقة ِ عليها بعام ٍ ضوئيٍّ كامل حُسناً وقواماً زارتها وما كانت تحملُ معها ذهبا ً أو شيئا ً من حليٍّ وجواهرَ إلا إكليلَ زمرّد ٍ أخضرَ يحاكي حيناً ويعكسُ لونَ زمرّد عينيها أحيانا . وكان الإنسجامُ على أشدّه بين شعاعات ِ الذهبِ الإبريز في خيوط شعرِها وأشعةِ خضرة ِ الزمرّد الذي رصّعهُ ربُها الشاميُّ الكنعانيُّ في محجري عينيها . ما كان دوري في محفل الضيافة ذاك بعدَ أنْ نجحَ جهدي في الجمع ما بين الربّتين المتباينتين خِلقة ً وسلوكاً ؟ ما دوري اللاحق وما نفعي مما وقع ومما سيقع ؟ عشتارُ لا تحلو لي فهي أنثى فيها ومنها تتفرعُ طرق ٌ شتى غريبة ٌ في هندستها وطبيعة مواد بنائها . أما جولي فإنها آلهة ٌ بِكرٌ عاقرٌ صارمة ٌ في وجومها شديدة التحفظ على سرِّ أحجار ِ مغناطيس ِ القمر ِ في مركزِ حديدِ ثقلِ السحرِ في طود ِ حقولِ التجاذبِ غير المرئي . فاجأني مليكُ بابلَ جلالة المعظّم حمورابي هامساً في أذُني : ويلكَ ، آلهة ُ بني كنعانَ وباقي سلالات آمورَ ليست بكراً ولا عاقراً ً ، إنها متزوجة وقد تُنجبُ أطفالاً إذا شاءتْ . كدتُ أتهاوى على الأرض من فرط ِ فجاءة ِ ما سمعتُ من قول مليكنا المُفدّى وهو عارفُ كلَّ شيءٍ وهو قارئُ الغيبِ ومالكُ جميع أراشيف المعلومات في الدنيا ويعرفُ الأسماءَ الحُسنى وغير الحُسنى جميعاً فقد تعلمَ الصنعة َ من أبيهِ آدمَ . كيف ؟ كيف تكون الآلهة ُ متزوجةً ً يا ( حامي ) ( ربّي ) ؟ ضحك حمورابي وربتَ عنيفاً على كتفي الأيسر ثم قال : يا غبيُّ ! ما الذي يمنعُ الربّاتِ من الزواج ؟ أفلمْ تكنْ دايانا زوجاً لآدونيسَ وعشتارُ القديمةُ زوجاً بالخفاء لأمبراطور سومرَ جلجامشَ ثم شاركه فيها زواجَ متعة ٍ صديقهُ الحبيبُ أنكيدو ؟ ألا تعرف أنَّ الملوكَ يمارسون مَن يشاؤون من جواريهم وسراريهم ومسبياتهم دون زواج ؟ مجرَّدَ نزوة ٍ ومتعةِ حرام ٍ لها طعمُها الخاص ومذاقها الخاص خارج مناخات ِ وأسرّة الزوجية . تماماً مثل مذاق التفاح ِ المسروق للتوِّ من بساتين الناس الآخرين وجيّد تمور ِ نخيلهم . يملون نساءَهم الكثيرات فيجنحون للتغيير ِ المتعددِ الأشكال والألوان . ( تذكرتُ خلفاءَ المسلمين الأولين منهم والآخرين ) . آلهة ُ الفن ِ والرسم ِ والنحت ِ جولي إذا ً سيدة ٌـ آلهة ٌ متزوجة ٌ ولا أدري. على أية حال ، كيف إنقضت الليلة الأولى وهي في ضيافة عشتار ؟ كانت ليلة ً صاخبة ً لم تنم ْ خلالها بابلُ ولا أهلُ بابلَ . حضرت فرقُ الرقص والغناءِ والألعاب السحرية والمهرجين وجماعات الغجر مع الطبول والصنوج والمزامير والأعواد جاءوا من آشورَ ومن ضفاف أهوار سومر ومن كل فج ٍّ عميق . لكنَّ الحفلَ الملكيَّ الصاخبَ كان مهرجانَ حريم ٍ صِرفٍ لم يحضره إلا رجلٌ واحد يرى ولا يراه أحدٌ ... مليكُ بابلَ حمورابي . واصلتْ جولي وقارَها وصمتها ولم تبتسمْ إلا قليلاً حين يضج ُّ الباقون بالضحك على هذه الفعالية أو تلك . مع ذلك لم تكنْ ثقيلةَ الظل والحضور . جمالها وسحرُ عينيها طغى فأسكرَ الحضور حتى ألهاهم عمّا هم فيهِ من طرب ٍ وسُكرٍ ومجون . قضى حمورابي جُلَّ وقته مركزاً بصره على جولي لا يكاد يفارقها إلا حين يعبّ كأسَ خمرته حتى الثُمالة . لم ينفض الحفلُ إلا مع خيوط الفجر الأولى حيث كان الكل ُّ بين نائم ٍ أو بين الصحو والنوم أو الغاط بالشخير . إلى كمْ ستبقى عشتارُ في بابلَ ومَن سيرافقها في طريق عودتها إلى مملكتها في بلاد الشام ؟ سألت حمورابي قال أنتَ ، أنتَ الذي سيكون مرافقها وحاميها لأتها لا ترتاحُ إلا لك َ ولا تثقُ إلا بك وبكلمتك وتستأنسُ كثيراً برفقتك وجميلِ الفاظك وقد عرفتك قبلَ أن تلتقيك . واصلَ حمورابي كلامه فقال : لكني أرى أن تبقى آلهة ُ حمصَ الكنعانية ُ معنا في بابلَ لديَّ لفترة أسبوع ٍ واحد في الأقل ولكنْ بإسم عشتارَ لا بإسمي . أنا راعيها لكنَّ عشتارَ وصيفتها ومضيفتها الرسمية . فكرة معقولة يا صاحبَ العصمة ِ والجلال والكرم ... قلتُ ... فكرة صائبة وأنتم صاحبُ الرأي والفكر ِ والمشورة . قال هل ستفاتحها أنتَ بهذا الموضوع أم نتركه لنائبتنا عشتار ؟ بل أتركه يا مولاي لمضيفتها عشتار . قد تروق الفكرةُ لها تسمعها من فم عشتارَ وقد لا تروق لها خارجة ً من فمك المقدّس ِ سيّدي . قال لحكمتك هذه ونباهتك لم أقتلك إذ تجاسرتَ ذات يوم ودعوتها لزيارتك في عالمك الآخر ونفّذتْ عشتارُ دعوتك بالفعل دون أخذ الإذن مني أنا صاحب الشأن ثم نالها من أجل ذلك ما نالها من أذى وعقوبات ٍ . لذتُ بالصمت ومن ذا الذي يجرؤ على رفع عينيه حين يتكلمُ حمورابي منفعلاً غضبانَ ؟
نام القومُ طويلاً ولم أنمْ . كنتُ متأرِقاً قلقاً على صحة نبيتي جولي وهل ستنام ُ جولي طويلاً وعميقاً أم أنها كعهدي بها لا تنامُ جيّداً إذ ْ يتغيرُ مكانُ وفراشُ نومها . إنها مثلي في هذا الأمر تماماً . نهضَ الجميع ُ بعدَ الظهر بقليل وكان طعامُ الغداءِ جاهزاً يكفي لسَكنة ِ بابلَ وما جاورها من قرى وقصباتِ أشراف وعليّة القوم . ظلَّ الجناحُ الغربيُّ مخصصاً للنساء والشرقيُّ للرجال فأكلوا وشربوا الأنخابَ أنخابَ زيارة ِ وسلامة وصول ِ رسولة ِ حمص الكنعانية وهي أول زائرة ٍ ساميّة ِ المقام ِ والرُتبة ِ في درجات ِ الأنبياءِ والرُسُل ِ تطأ قدماها أرضَ بابلَ . ما كانت تميلُ لشرب الخمرةِ وما كانت تتناولُ من الطعام إلا أيسرَهُ وبحسابات دقيقة فهي تعرف نظامَ السعرات ِ الحرارية ( الكالوري ) وإنها شديدة الإهتمام برشاقة ِ جسدِها والمحافظة ِ على وزنه ثابتاً لا يتجاوزُ حدّا ً إلتزمتهُ لسنينَ طوالٍ . لا أدري ما كان يجري هناك في مجتمع الحريم لكنَّ مليكَ الملوك جلالة حمورابي كان على علم ٍ تامٍ بتفاصيل ودقائق ما كان يجري . له وسائله الخاصة في تقصّي وجمع المعلومات مما يبثُّ من عيونٍ سريّة ٍ من الصبيّاتِ وساحراتِ العجائزِ وبعض الراقصاتِ والعازفات . ثم كانت تحت تصرفه أرقى أجهزة المراقبة المخفيّة وأحذق الخبراء الأجانب في عالم الألكترونيات . ما كان يهمني من كل هذا العالم الغريب المريب إلا صحة ُ وسلامة ُ النبيّة الفاتنة التي إستجابت لمقترحي وقبلت دعوة عشتار بابلَ ورافقتني حتى دخولنا المملكة َ وقصرَ عشتارَ . طلبتُ مقابلتها بعد الغداءِ بأقل من ساعةٍ فأتتني مستبشرة ً باسمة ً أو هكذا خيّلَ لي أو هكذا أردتها لأنني لا أطيقُ أن أراها حزينة ً أو منقبضة ً أو مكتئبة ً كما عرفتها لقرون وقرون . سألتني ما الخبرُ يا صديقُ ؟ أردتُ أنْ أسألكِ هل أنتِ مرتاحة هنا وبخير أم تودين الأوبة سريعاً لبلدكِ ومملكةِ عرشك في أرض كنعانَ ؟ قالت كلُّ شيء حتى الساعة على ما يرام لكني لا أتصور أني أُطيقُ البقاءَ هنا على أرض بابلَ لفترة أسبوعٍ كامل . ثلاثة ُ أيام ٍ تكفي وإني سأطلبُ السماحَ لي أن أختلي بكَ وحدكَ كي تشاركني تمشياتٍ طويلة ً خلال غابات ِ نخيل ِ وبساتين بابلَ المشرفة على نهر الفرات وهو نهر مشتركٌ كما تعلم بين أرض كنعان وأرض شنعار . هززتُ رأسي المتعب فسألتني ما الخبر ؟ لم أردَّ فأعادت سؤالها ولم أردَّ فأصرّت عليه فقلت مُضطراً : لن يدعَ حمورابي شخصين وحيدين يتمشيان في بساتينه وغاباته أبداً أبداً . هاجسهُ الأمني ُّ أو القوميُّ بلغة أهل أمريكا في أعلى مستوياته فليس من قبيل المُبالغة أنْ تعرفي أنه وضعَ على رأسِ كلِّ نخلةٍ من نخيل بساتينه جهازاً سرياً متطوِّرا ً يُسجِّلُ الأصوات ِ ويلتقطُ ُ الصورَ الملوَّنة َ بمعدّل صورةً ٍ واحدة ٍ في الثانية . بقيَ وجه ُ حبيبتي ونبيتي محايداً خالياً من أيةِ علامة ٍ أو حركة ٍ أو إنفعالٍ . وحين أحسّت بحيرتي من أمرها أخذت هي الأخرى تهزُّ رأسَها الملكيَّ الذي يعلو خيوطَ ذهبه إكليلُ الزمرّد النفيس الذي لا مثيلَ له في كل الوجود ... والت هزَّ رأسِها ثم تنهّدت وقالت : لكأنك تصفُ ما في غابات وبساتين مليكِ مملكة كنعانَ تماماً وبالضبط ... هل هما ينسّقان معاً أم أنها متطلبات هَوَس وجنون الأمن القومي لا تحتاجُ إلى إتفاقات ٍ وإتفاقياتٍ مكتوبة ، إنها وصفات ٌ عالمية ُ الطبع ِ والطابَع . هواجسٌ قديمة ٌ منذُ أنْ إكتشفَ أبونا آدمُ أنَّ ربّهُ الأعلى يتجسسُ عليه وزوجهِ حوّاءَ وقد سوّلت لهما نفساهما قضمَ تفاحة ٍ واحدة ٍ لا أكثرَ من تفاحِ بستانِ الخلود الخاص بمملكة الربِّ وملائكته والأقربين من خاصته وحواريه من خيرة الندامى وقارعي كؤوس ِ النبيذ ِ والخمرة ِ الصهباء والعقيقية . كلُّ البساتين وكلُّ الجنائن والغاباتِ محشوة بالأجهزة السرية المعقدة المعدّة للتصوير وتسجيل ِ الأصوات . مسكينٌ آدمُ ومسكينة أمّنا حواءُ ما دار في خلديهما أنهما مراقبان فحسبا أنهما في أمانٍ مطلق فتمردّا على الأمر المفروض وإقتربا من الشجرة المحرّمة وأكلا ما أكلا فضبطهما ربّهما متلبسين بالجرم المشهود نصفُ تفاحة ٍ في يد آدمَ وفي كفِّ زوجه النصفُ الآخرُ منها فهل ينكرانِ ما فعلا وكان مع ربهما جمعٌ غفيرٌ من الملائكة الشهودِ شهودِ عيانٍ لا شهود زورٍ وبهتانٍ !! ورفعاً للحَرَج كيّفَ محامو الربِّ الدعوى على أنْ ما حصل لحواءَ وآدمَ كان من فعل إغواء الشيطان وأنَّ هذا الشيطانَ نفسه راح وشاغبَ ونقلَ الخبرَ إلى ربِّ الجميع ، ربِّ الملائكةِ والشياطين . هزّت النبية جولي رأسَها مع قليل من ظلال أسى ً عميق ٍ ثم قالت ببطءٍ شديدٍ : ألمْ أقلْ لكَ إنَّ ما يحصلُ في بابلَ كأنه نسخة طبقَ الأصل ِ مما يحدث في أرض كنعانَ وكلتاهما من بعض ممالك الرب ؟ نعم يا نبيتي ويا آلهة َ الجمال ِ والفن ِ الكنعانية ِ الأصل ِ والفصل ِ والدم ِ ... نعم ، إنك على حق ، حتى اللهُ يستخدم العَسسَ والشُرطَ السرّية َ والمخبرين والجواسيس يختارهم من بين عناصر ملائكته ثم يُطلقُ عليهم إسمَ شياطينَ وأبالسة . ملائكة ٌ يمتهنون الجوسسة والإستخبارات يترصدون باقي المخلوقات ويرفعون التقاريرَ اليومية لربّهم مباشرة ً حيثُ لا من وكلاءَ له ولا يقبلُ إستشارة أحد من بين رعيته . كيف ستمضين يا جولي يومك الثالث والأخير في مملكة بابلَ ؟ قالت سأنامُ مبكّراً تأهباً للسفر الطويل خاصة ً ما زال الجو حاراً وفيَّ رغبة ٌ عارمة ٌ أنْ أعرِّج لأزورَ آثار البتراء إذْ طالما قضيتُ هناك أوقاتاً كثيرة ً أنشدُ الهدوءَ والبعدَ عن الصخبِ والضوضاء وعيون المخبرين والمخبرات . هل لديك صورٌ هناك ؟ قالت أجلْ ، وسأرسلُ لك واحدة ً منها فإحتفظْ بها لديك ولا تسمحْ لأحدٍ سواكَ يراها ... ليس للآلهاتِ أصدقاءٌ كما تعلم . إنها صورة ٌ حديثة كنتُ فيها أرتدي بنطرون الجينز الأزرق ماركة ( براكس ) وخُصلٌ من شعريَّ الذهبي ّ تتدلى على ظهري .
تسلل القوم ، آخر ليلةٍ على إقامة الضيفة الكنعانية ، إلى مضاجع نومهم وهكذا فعلت نبية ُ حمص إذ قادتها عشتارُ إلى جناح قصرها الغربيِّ المخصصِ لإقامتها .
السبت، أكتوبر 04، 2008
عشتارُ و جوليا
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق