الجمعة، أكتوبر 03، 2008

بين النقد والردح

د. حبيب بولس

إذا كنا نحب أدبنا ونريد له العمق والأصالة والديمومة فيجب أن نرفض "نقد" الردح والمجاملات. الأدب يجب أن يكون أصيلا, فيه اكتشاف اجتماعي وفنّي, والنقد يجب أن يكون جادا, موضوعيا صادقا عندما يعجب بنص وصادقا عندما يكتشف نقاط ضعف في نص آخر.

لا يخفى على احد أننا شعب يهوى التفخيم وحب التضخيم ويعشق التعظيم والمبالغة. فهذه أمثالنا الشعبية تدل وتؤشر على ذلك بوضوح: "استكبرها ولو كانت عجرة" و "كبر البيادر ولا شماتة العدا" وحتى أسماء حوانيتِنا تشهد على ذلك, فأنت تمر أمام حانوت صغير فتطالعك لافتة ضخمة تقول: "عالم الستائر" وما في عالم الستائر هذا سوى ستارتين أو ثلاث!, أو "دنيا الألعاب" ولا تحتوي هذه "الدنيا" إلا على بعض الألعاب, أو "ملك الفلافل" وهذا الملك من المفروض أن تتقاطر على فلافله المئات بل الآلف لا يبيع في اليوم سوى بضعة أرغفة وهكذا وهكذا.

وهذه الظاهرة- اعني ظاهرة التفخيم والتعظيم والمبالغة-, تنسحب, وللأسف, أيضا على المشهد الأدبي والثقافي عندنا. فما أن يصدر احدُ الكتابِ كتيبا أو كتابا يتناول فيه بعض الأعمال الأدبية الإبداعية بهدف "النقد" حتى يصير ناقدا وربما "ناقدا كبيرا", وأنت -أي المتلقي- تجذبك التسمية فتفتح الكتاب وتنقب فيه علك تعثر على جملة نقدية واحدة فلا تجد سوى رصف كلام لا يمت إلى النقد بصلة, خاصة إلى النقد الجاد العلمي الموضوعي. فالكتاب بجملته "معالجات" هي إلى التبسيط والاستعراض والتعليق والشرح أميَّل, تفتقر إلى منهاجية معينة, تتخبط بين المدارج النقدية, لا يستقيم لها مدرج, وان كانت هنالك استنتاجات فهي استنتاجات ناتئة على النص المعالج أو مقحمة عليه لا تستند إلى براهين وإثباتات علمية مقنعة, اللهم الا ما يرتأيه ذلك "الناقد الكبير". فالمتلقي يشعر أحيانا أن ذلك الناقد يلوي عنق النص ويحرّف مدلولاته وأبعاده لتتجاوب مع ما كتبه من كلام هو بالتوصيف أشبه. والويل إن توجه احدنا إلى ذلك "الناقد الكبير" بنقد ما, أو إذا قام بلفت نظره إلى نقطة ما, عندئذ سيتهمه بالجهل وبأنه لا يعرف أن يغوص في أعماق النص ليستخرج منه الدرر التي توصل إليها, بحذقه ومهارته.

والويل مرة أخرى إذا نبهته الا أن ما كتبه كان رخيصا لا يرقى إلى المستوى المطلوب فهو أشبه بمن يفسّر الماء بالماء (أو بمن يقول:"المطر يعني الماء والماء يعني الحياة"). فكان هذه المعادلة التي تفتقت عنها عبقريته- عبقرية ناقدنا الكبير- درّة نادرة مخبوءة في محارة منذ دهور- حتى مَنَّ الله علينا به ليكتشف مكنونها!

والمدهش حقا انه إلى جانب هذا "الناقد" تقف فرقة من "الرادحين". وهؤلاء هم شلة ممن تناول "ناقدنا الكبير" أعمالهم وذلك بالكتابة عنها, فيحسبون انه بهذه الكتابة, وليس مهما مستواها, في هذا الإطار-, قد أعطى أعمالهم شرعية الإبداع وصبغة الأهمية, ولا يدري إخواننا أن النقد مهما كان مستواه لا يخلق مبدعا حقيقيا, إن الإبداع يتأتى بالممارسة وبطرق أبواب التجريب وبالقراءة المستديمة وليس بالقفز أو التقافز على السطح, ولان هؤلاء "الرادحين" من المبدعين يريدون "اختصار الطريق" يفتشون عن ناقد كالذي وصفناه فيتحزبون له, لأنهم وجدوا فيه ضالتهم, بمعنى أدق وجدوا في سطحية ما يكتب ضالتهم, فهو لو تعمق في نصوصهم لجاءت أحكامه غير ما هي عليه. ولكن لأنه يحاييء النص من خارج ولا يتغوره, أو لان نقده يتسكع على برانية النص تأتي أحكامه برانية أيضا, لا تخترق جوانية النص, فيصبح الإبداع عند الجميع متساويا, لا تفاوت فيه. لذلك فأي نقد يوّجه إلى ذلك الناقد متهما إياه بالسطحية تقوم قائمة هؤلاء الرادحين فينبرون للدفاع ليس حبا للناقد وإنما حبا لأنفسهم, لأنه إذا سكت هذا الناقد أو كف عن الكتابة ليقوِّم نفسه فمن سيكتب عن أعمالهم؟! وهذا الصراخ-صراخ الرادحين- يستمرئه صاحبنا "الناقد" فيشعر بأنه حقا كبير وله مريدون كثر- وبدلا من أن يطوّر أدواته يركن إلى هذا الدعم ويراوح مكانه ولا يطور الا ثروته اللغوية- فيظل نقده عالقا بنفس النواقص مع تغيير للمفردات والتعابير, وهو في مثل هذه الحالة الطاووسية ينسى أن النقد عملية صعبة تتطلب ممن يمارسها الكثير, بدءًا بالمعارف النفسية والاجتماعية والتاريخية وانتهاءً بنظريات علم الجمال والنظريات النقدية والفلسفية والأدبية. ينسى أن الناقد الذي يشعر بأنه "كبير" وهو يزال في بداية الطريق مصيره الجفاف والمراوحة في المكان وهو أمر لا نرضى به ولا نريده له, ذلك لأننا بحاجة إلى من يرصد مسيرة أدبنا ويقوّمها.

على هذا "الناقد" الا ينخدع بردح الرادحين, لان ما يهم هؤلاء هو الشهرة- فهم بهذا الردح يسعون إلى إشهار أنفسهم فقط. عليه أن يغربل الأمور ليجد الطريق الصحيح كي يثبت قدميه في عالم ولوجُهُ صعب والاستمرار فيه أصعب.

ولو بقي الأمر على ما ذكرناه لكانت القضية أهون. ولكن ما نجده من أمر هذا "الناقد الكبير" ان ما يكتبه ينشر في صحافتنا تحت عنوان "دراسة"- وكأن كلمة دراسة كلمة بسيطة علميا وأدبيا او كأن الدراسة الأدبية/النقدية, سائبة تفتح أحضانها لكل من يطرقها ببساطة. ولا يدري صديقنا ان الدراسة لا تكون بإطلاق الاحكام الشخصية على عواهنها, دون الارتكاز على مصادر ومراجع تستمد منها علميتها لتقنع المتلقي بدقة هذه الأحكام وبصحتها.

الدراسة الصحيحة لا تعني تلخيصات من هنا وهناك, إنما هي تقوم على طرح لفكرة راودت الدارس فترة زمنية وتلبسته حتى استفزته إلى معالجتها.

والمعالجة في الدراسات يجب ان تكون دقيقة علمية كي يصل صاحبها إلى إثبات فكرة ما أو إلى دحضها. وهذا لا يتأتى عشوائيا, بل, يتأتى عن طريق معرفة ما توصل إليه الدارسون الآخرون الذين سبقوا إلى هذه الفكرة. ومعرفة ما توصل إليه الدارسون تتطلب هي الأخرى الوقوف على دراساتهم واستلهامها والانتفاع بها وغربلة ما يفيد مما لا يفيده- ثم الارتكاز على ما يؤخذ منها والتأثشير على أصحابه. لا ان تقدم آراء الغير وكأنها آراؤنا, أو ان تسجل استنتاجات الغير على أنها استنتاجاتنا, كما ان الدراسة لا تعني اغتصاب آراء الغير وتجييرها لحسابنا دون ان نقر لأصحابها بفضل السبق إليها وبتعبهم وجهودهم.

ونحن إذا عدنا إلى ما ينشر في صحافتنا تحت عنوان "دراسة" نجده يفتقر في معظمه إلى كل ما ذكر من مقومات, فمجرد ان يكون عدد الصفحات كبيرا إذا فهذه "دراسة" تمييزا لها عن المقالة, أو عن المقاربة, أو عن المقاربة النقدية. ثم ان الدارس الحق عليه ان يتسلح بالكثير من الدقة والموضوعية, فأين هذا مما ينشر؟!

والخوف الكبير يكمن في ان يستمريء هذا الكاتب اللعبة ويعتقد فعلا بأنه دارس فيستخدم هذا الامر رافعة ليقفز من عليها إلى ألقاب أخرى وهكذا...

والحجة الواهية التي تعطى للدفاع عما أسميناه خطأ بالدراسة, هي ان هذه الدراسة هي دراسة للنص من الداخل, لذلك فهي لا تحتاج إلى أسانيد وركائز, وكأن معالجة النص من الداخل لا تتطلب دراية بالجهد المبذول من الدارسين الذين سبقونا. انه الخطأ الكبير بعينه, لان دراسة النص من الداخل والكشف عن أبعاده وإسقاطاته تتطلب معرفة أدق وأوسع من معالجته من الخارج, وقد سبقنا إلى ذلك كثيرون لا بل كثيرون جدا. وعلى الدارس ان يكون مطلعا على معظم ما كتب ليوفق إلى التحليل الصحيح والى الأحكام الصحيحة. ثم عليه بعد الاطلاع ان يقرر نهاجية دراسته, ثم ان يضع تصورا أو طرحا أو مساءلة, كي لا يتسيب العمل ويتشظى ليطال أشياء لم تكن في الحسبان بعيدة عن روح الدراسة فتضر بها.

مما تقدّم نجد ان العمل النقدي أو الدراسة الأدبية لا يأتيان هكذا ببساطة- بل لهما مقومات وأحكام وشروط وفوق هذا كله الاطلاع الواسع الموجه.

وما نلاحظه اليوم هو عكس ما نتمناه. إذ الموجود غير المشتهى. وهذا أمر مقلق, لا بل ظاهرة مقلقة, لا يمكن ان تظل مسكوتا عنها, بل ويجب, إذا كنا نحب أدبنا ونحترمه, معالجتها لنتخلص منها كي نسير في الطريق الصحيح, الطريق العلمي المنهجي المؤدي بالتالي إلى المشتهى والمبتغى, والطريق الصحيح دائما هو الادوم, ومعه نقطف الثمار حتما.





drhbolus@yahoo.com

د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية

ليست هناك تعليقات: