الخميس، أكتوبر 23، 2008

صناديق حديدية

د. حنان فاروق
قذفت بنفسي داخل الصندوق الحديدي الذى تعود أن يحملني كل يوم عصراً إلى عملي الجديد فى المكان البعيد..آثرت أن أجلس وحدي فى المقعد الخلفي بالرغم من صعوبته واهتزازه المستمر لأجد مساحة داخلي أسبح فيها بعيداً عن ملاحقة حروف زميلاتي...
شق طريقه بين الجبال والصحراء الجرداء إلا من بعض شجيرات حزينة الخضرة منتثرة هنا وهناك ومتحدية الصخور التى تطل منها رغماً عنها..ابتسمت..منذ سنوات عندما جئت إلى هنا لأول مرة انقبض قلبي أنا بنت البحر وأنا أتعرف إلى الصحراء الجديدة على حياتي..كنت أراها موتاً متمسكاً بحاله غير قادر على الحياة..لكنى الآن تغيرت.. تآلفت معها..أصبحت أرى بين رمالها وصخورها المترامية الأطراف لغة مختلفة ونبضاً من نوع خاص..ربما لم يتغير عشقي للبحر لكن الذى حدث أنى سمحت لتلك الصفراء أن تسكن بعض قلبي بعد أن كنت أرفضها..
بدأت أشعر بالغثيان...لم أكن قد تناولت شيئاً منذ الصباح إلا فنجاناً من القهوة التركية لتنبه حواسي فى هذه الفترة الساخنة من اليوم..دق جرس الجوال ..كالعادة زوجي يطمئن على رحلتي.. يشفق عليّ منها ويعرف أنها تلتهم من صحتي كل يوم قطعة لاأستطيع تعويضها..
وصلنا إلى المركز الصحي القابع فى أحضان القرية البعيدة..تكالبت البدويات اللواتي اشتركن فى برنامج محو الأمية علينا..كن بسيطات خفيفات الظل طاعنات في السن يشبهن جدتي وأترابها من أهل الأمواج ..مشاكلهن الصحية أكثر من سني عمرهن..حين نظرت فى وجوههن لم أستطع أن أتخيل أن الصبا عانق تلك الوجوه قبلاً..
اختلط بتكوينهن نوع مختلف من الشقاء الذى لم يمحه التقدم ولم تلونه المدنية..بعد أن أنهيت المحاضرة التثقيفية والكشف دعتنا المعلمة لنشرب القهوة العربية معها ووالدتها التي تدرس بنفس المدرسة ..جلسنا على الأرض وأعدت الأم القهوة والتمر وبعض الحلوى..تركتنا المعلمة ودخلت الفصلين تباعاً نادت على صويحبات أمها من طالبات محو الأمية ليشاركننا الحفل الصغير..تكاثرت السيدات حول المأدبة المرحبة وانهالت معهن الأسئلة عنى وعن أسرتي وأبنائى..فاجأتني إحداهن بسؤالى إن كنت أجنبية أم لا؟؟
لم أعرف بماذا أرد عليها..تلعثمت وقفز العرق ثائراً من جبيني .. تداركت المعلمة الأمر فأجابتها بإيجاب خفيّ يجتهد ألا ألمحه...ظلت الكلمة تصرخ في أذني ماتبقى من دقائق الجلسة ثم أصرت على اصطحابي فى الزنزانة المعدنية التي تنقلني إلى بيتي..أحسست بغربة تخترق كل مسافاتي..خيل إلىّ أن الشحوب الملقى على جانبيّ الطريق الطويل الذي يأبى الانتهاء يرفضني .. ينتظر خروجي منه بفارغ الصبر ليسلم وجنتيه للربيع يلونهما كيف شاء..رماني الصندوق الحديدي عند باب بيتي فتدحرجت حتى الجرس.. رننته متثاقلة ..فتح لى ولداي..لم أستطع أن أقبلهما من الإنهاك..ارتميت على الأريكة الممددة على حافة غرفتى..
بجانبي.. جلس ولداي يتجاذبان أطراف الحديث كعادتهما..التفت لي أكثرهما ثرثرة وسألني:
هل أهل هذا المكان من بلدنا يا أمي؟؟؟
أجبته دون أن أفكر: لا...أجانب..

ليست هناك تعليقات: