فوزي الديماسي
تحيل الجملة الافتتاحية ” رأت فيما يرى النّائم ” في قصة ” موجة حرّ ” للتونسي سعيد محمد الجندوبي على زمن محدّد مخصوص نطلق عليه تسمية الزمن الذاتي .
و يتضافر الإطاران الزماني و المكاني في هذه القصة ليكشفا معا عن الحالة النفسيّة للشخصية الرئيسية في النصّ ، إنّها حالة نفسية متوتّرة ، صفتها التقوقع و سمتها الغالبة عليها الانقباض و الانغلاق ، و انغلاقية الشخصية نستشفّها من خلال عنصر الزمان ( الليل / رأت فيما يرى النائم ) كما نقف على ملامحها من خلال عنصر المكان ( الغرفة ) ، فالليل و الغرفة صفتان لعالم مخصوص يدلّ على الوحدة و ما يتبعها من صفات نفسية تقترن بالقلق و الاضطراب و الوحشة ، إنّها الرهبة و فقدان السكينة و الطمأنينة ، هكذا تصوّر الجملة الافتتاحيّة اللحظة التي عليها الشخصيّة ، و لقد لعب الحدث ( محور القصة و عمودها ) دورين أساسيين :
-1- الدور السّببي :
لقد أكّدت الجملة ( الحدث ) الأسباب التي أدّت إلى بلوغ حالة الشخصية النفسية هذا المبلغ من الخوف و الاضطراب و عدم الاستقرار و الجملة ( الحدث ) كما وردت على لسان الراوي ” رأت … مدينتها و قد كادت تغمرها الرمال ” ، فهلاك المدينة المحقّق هو مسبّب الأسباب و محدث الأحداث و القادح الرئيس لبروز النصّ برمته و خروجه بالتالي من عالم الكمون إلى عالم الظهور . و قد لعب عنصر الوصف الدور الرئيس في جعل الحدث ( غرق المدينة في الرمال ) يلعب دوره الثاني أي الدور التصويري.
-2- الدور التصويري ّ:
صوّرت الجمل الوصفيّة حالة الشخصيّة النفسّية بدقّة ” وقفت لاهثة و قد غارت عيناها ، و تشقّقت شفتاها ، و يبس لسانها من شدّة العطش … ” إنّها لحظة عصيبة اللحظة التي تعيشها الشخصية ( لحظة المنام ) لقد صوّرتها الجمل الوصفيّة تصويرا دقيقا ، و لعلّ قصر الجمل الوصفية المتلاحقة تكشف فيما تكشف عن درجة التوتّر التي عليها الشخصية في النصّ، إنّ بنية الجملة الوصفيّة كانت بنية خادمة بامتياز في تصوير اللحظة النفسيّة المخصوصة التي كانت عليها الشخصيّة .
قصة ” موجة حرّ ” ليست من جنس القصة الواقعية بل هي قصّة بالخيال الصق و من تهويمات الفكر اقرب و القرينة في هذا الصدد الشخصيّة المحور نفسها التي وردت في النصّ القصصي منزوعة الملامح ، ملفوفة بالضباب معالمها ، إنّها شخصيّة بلا هويّة تدلّ عليها ( مكانتها الاجتماعية .. بلدها … عمرها … ) و لعلّ بذلك أراد الكاتب ان يجعل من شخصيّتها و نصّه القصصي لحظة إنسانية بامتياز تحكي الإنسان أينما كان و تحاكيه ، و ممّا يؤكّد على انتهاج الكاتب نهج تعميم اللحظة و أنسنتها و بالتالي يمكن سحبها على أيّ كان في أيّ مكان كان إدراج شخوص ( رموز ) في مجرى الأحداث بلا ملامح كذاك الرجل الذي ورد ذكره في بداية النصّ على لسان الراوي ” كان يرتدي برنسا أسود ، و كان منكّس الرأس ، و قد استند غلى منجل طويل ” و كما يقول المثل العربي : ” البعرة تدلّ على البعير ” دلّ اللباس على هويّة الرجل الاجتماعية أي كان لباسه هنا عنوان هويّته ، و لعلّ الرجل هنا يرمز إلى لحظة الماضي / لحظة التراث ( البرنس ) كما يرمز غلى الفلاحة و الخصب ( المنجل ) و هو الموجود على الجانب الآخر و كأنّه في قطيعة مع المدينة ( المدنيّة ) يرمقها من وراء حائل و فاصل مهزوما و مبعدا ” كان منكّس الرأس ” ، و ممّا يؤكّد على لحظة التقاطع هذه ( التراث / المدنيّة ) لباسه الذي لم تشوبه شائبة مدنيّة و منجله ( آلة يدويّة ) و ممّا يؤسّس لهذا التقاطع و التنافر بين الرجل و المدينة القرائن اللفظيّة الموحية بذلك ” و رأت في الجانب الآخر من الساحة الكبرى … ” .
إنّ نصّ القصة هو نصّ مركّب فهو قصّتان ، قصّة دارت أحداثها في الزمن الذاتي ” رأت فيما يرى النائم ” و قصّة دارت أحداثها في الزمن الفيزيائي ” استفاقت مذعورة ” ، و الزمنان يجريان في مجرى واحد عكس المكان الذي حافظ في النصّ على وحدته كما الأحداث كانت الأولى تتمّة للثانية و تكملة فلا تنافر بينها بل تكامل و اتصال خدم اللحظة السرديّة برمّتها من بداية القصة إلى نهايتها و هذا يثير فينا سؤالا مفاده ما علاقة الشق الأول من القصة بالشق الثاني ؟
التداخل بين الشقّين و التواشج و التواؤم الحاصل بينهما يكشف عن التواشج و التواؤم بين الذاتي و الموضوعي على جميع الأصعدة ( المكان / الزمان / الشخصيات ) كما يكشف عن تداخل و تشابك الواقعي و الخيالي و الذاتي و الموضوعيّ و النفسيّ و الراهن فكلاهما مجلبة للخوف و للرهبة كلاهما مجلبة للحزن و الاضطراب و التقوقع و الانغلاق و الكدر و السقوط أمّا عن الرجال و النساء الواردين في الشقّ الثاني من القصّة فهم عنوان للمدنيّة المهدّدة و للحظة الإنسانية القابعة على شفا حفرة من انحدار و التي سيستحيل حاله و حال المدينة ( المدنية ) كحال ذاك الرجل المرتدي للبرنس و المتّكئ على المنجل يحتسي الفراغ و يحصيه . إنّها الغربة المحدّقة بكلّ شيء و المتلبّسة بكلّ اللحظات حتّى أنّ الوصف الوارد في الشقّ الأوّل من القصّة كان خادما للشّق الثاني منها و لسان حاله يقول تلك هي الحياة بشقيها النفسي و الفيزيائي فكلاهما يدلّ على الآخر و يحيل عليه ، الحياة كابوس ممتدّ أو هكذا يبدو خالية من كلّ معنى كما ” خلت الشوارع والساحات من النّاس، وجفّت النوافير والبرك من الماء ”
* / فوزي الديماسي /ناقد وروائي تونسي
من كتاب ” اضاءات نقدية ”
نصوص قصصيّة من الماء إلى الماء
هناك تعليق واحد:
أشكر الأستاذ الأديب والناقد التونسي فوزي الديماسي على مجهوده المثمر وعلى تناوله العميق والسابر لأغوار نصّ قصّتي "موجة حرّ".. وأُدرج فيما يلي القصّة..
موجة حرّ
بقلم سعيد محمد الجندوبي
رأت فيما يرى النّائم مدينتها وقد كادت تغمرها الرّمال.. خلت الشوارع والساحات من النّاس، وجفّت النوافير والبرك من الماء، وتشقّق الإسفلت وكذلك جدران الواجهات.. وحدها بعض الكلاب والقطط الهزيلة كانت تجري هنا وهناك لاهثة، فيما تكدّست في مداخل المدينة، السيّارات وقد استحالت إلى هياكل ينخرها الصدأ..
وقفتْ لاهثة وقد غارت عيناها، وتشقّقت شفتاها، ويبس لسانها من فرط العطش.. أخذت الصور تتماوج أمامها؛ ورأت في الجانب الآخر من الساحة الكبرى هيئة كهيئة البشر.. استبشرت، وظنّت أنها النجاة.. اقتربت ببطء، وكلّما ازدادت قربا، خفّت التموّجات وبدت الصورة أكثر وضوحا.. كان يرتدي برنسا أسود، وكان منكّس الرأس، وقد استند إلى منجل طويل.. ناداها باسمها بصوت كأنّه يصدر من أعماق الكهوف.. ارتدّت إلى الوراء..
صرخت بأعلى صوتها، فلم تتجاوز صرختها الحنجرة.. حاولت الفرار، فكأنّ أثقالا وأغلالا كانت تكبّلها..
* * *
استفاقت مذعورة، فقفزت من الفراش لتسند ظهرها إلى الجدار.. كانت لا تزال تلهث عندما رأت باب شقّتها مفتوحا على مصراعيه، وكذلك النوافذ.. رأت رجالا ونساء بأزياء مختلفة.. كانت على رؤوس بعضهم خوذات فضّية لامعة، وعلى رؤوس آخرين قبّعات، وارتدى البعض الآخر سترا بيضاء، وقد غطّت وجوههم الأقنعة الواقية.. اقتربت من امرأة كأنّها ممرّضة، وسألتها:
- من أنتم؟ وماذا تفعلون هنا؟
لم تجبها.
سألت آخر، وآخر، وأخرى، فلم يجبها أحد..
ثمّ إنهم غادروا الشقّة وهم يحملون على محفّة، كيسا أسودا طويلا.. نادتهم صارخة، ولكن صرختها لم تتجاوز منها الحنجرة.. حاولت اللّحاق بهم، فكأنّ أثقالا وأغلالا كانت تكبّلها..
إرسال تعليق